مجلة الرسالة/العدد 831/أمم حائرة

مجلة الرسالة/العدد 831/أمم حائرة

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 06 - 1949


6 - أمم حائرة

الأسرة

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية

تعالوا نلتمس الطمأنينة في موضعها، والسكينةَ في موطنها، ونظفر بالسعادة في مكانها، ونسعد بالمحبة في دارها. هلم إلى الأسرة، إلى البيت الذي يُنبت الودّ والصفاء، والإخلاص والولاء، إلى الجنة التي يرد سلسبيلها الظماء، ويتفيأ ظلالها من برَّحت به الرمضاء، ويأوي إليها من مسَّه العناء، فيجد الروح والرَيحان، والسلم والأمان، والغِبطة والرضوان.

هلمَّ إلى المعبد الذي تطهر فيه الأشباح، وتصفو الأرواح، وتقام على الإخلاص الشعائر، وتتناجى به السرائر، الحرم الذي تهفو إليه الأفئدة، ويظلله الأمان، وتمحى فيه الأضغان، ويتمكن فيه التوحيد، فإذا نفس واحدة في أجسام متعددة، وإذا ألفاظ كثيرة لمعنى واحد!

تعالوا ننظر إلى المدرسة التي تعلّم الودّ والحب، والتعاونَ والإيثار، وتُنشِّئ على الأخلاق العالية، والفضيلة الكاملة، وتعلّم الإخلاص والفِداء، والبر والولاء، والصدق والوفاء.

تعالوا إلى العش يأتلف فيه الزوجان على الخير والشر، والنفع والضر، يأوي إليه الزوج مجهوداً فتمسح تعبه يد رحيمة، ويدخله غاضباً فترضيه كلمة حكيمة، ويفر من ضوضاء الأسواق، ونصب العمل، وكد العيش، فيظفر بالهدوء والسكينة، والقرار والطمأنينة؛ فيتلو الآية الكريمة: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).

إلى دار الأمومة والأبوة، والبنوة والأخوة، حيث الأم على أولادها مشبلة، ولتربيتهم عاملة، ولنومهم ساهرة، ولراحتهم جاهدة؛ الأم مبعث الشفقة والرحمة، وموئل البر والعطف، أعظم الناس عملاً، وأبلغهم أثراً، وأرفع الخلق مكانة، وأعلاهم منزلة، وأطهرهم فكراً ولساناً ويداً، وأحسن الناس حملاً للأعباء، وأصبرهم احتمالاً للأمانة؛ الأم التي تحمل الأمم وتضعها، وتربيها وتنشئها، وتزكيها وتعلمها. والأب يغدو ويروح بثمار كده، ونتاج سعيه، فيضع ما في يده من تعب، وما في فكره من كد، وما في نفسه من هم، وما في قلبه من بغض، ساكناً إلى زوج كريمة هي أم رحيمة. الوالدان اللذان عظَّمهما القرآن، وكاد يؤلّههما الإسلام. فذكرهما مع الله، وقرن البر بهما بتوحيده: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً) (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) (قل تعالَوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا) الوالدان اللذان أعطاهما الله من سلطانه وبرهانه، ونوره وهدايته، ورأفته ورحمته.

هلمَّ ننظر إلى الأسرة، دار الأمومة والأبوة والبنوة والأخوة، حيث تنشأ الأمم وتموت، وتقوى وتضعف، وتسعد وتشقى، وتجتمع وتفترق، وتصلح وتفسد، وتضيء وتظلم، حيث النواة التي تنشأ منها الجماعة، والطينة التي فيها تنمو الأمة، والصورة التي عليها تكبر، والسر الذي أودع سرائرها، وسيرها من المهد إلى اللحد. . . الأسرة سر الله في خلقه، وآيته في عباده.

هلمَّ ننظر إلى هذا البيت، إلى هذه الجنة، إلى هذا المعبد، إلى هذه المدرسة، إلى هذا العش، إلى هذه الدار مشفقين عليها من أعاصير هذا العصر، خائفين من آفاته، وَجِلين من فتنه، فَزعين أن يمتدّ الرجس إلى طهارتها، والقلق إلى هدوئها، والبغض إلى محبتها، والافتراق إلى اجتماعها، حَذِرين أن تمتد المادة إلى روحانيتها، والضوضاء إلى سكونها، والحيرة إلى طمأنينتها، جاهدين أن تبقى لها حرمتها وتدوم قداستها ولا يغلب عليها شر الأسواق والأندية والملاهي، فليس بعدها وَزر، ولا في غيرها مستقَر.

أحذروا أن تُحرم الإنسانية هذا الينبوع الطاهر الذي يمُد بالعواطف رقراقة، وبالأخلاق صافية، فتقسو القلوب، وتذبل الأخلاق، ويضل النشء في الطرق والأسواق وما إليها، يشرب من ماء كدر، ويقتات من سم قاتل، ويذهب به القلق إلى المهالك، وتسوقه الحيرة إلى الضلال البعيد.

ألسنا نرى البيت يُهجر يوماً بعد يوم، تؤثر الأمُّ عليه جولات في الأسواق أحياناً، وجلسات في الملاهي أحياناً، ويفر الأب إلى المقهى والملهى مؤثراً لذاته وراحته، ساكناً إلى لهوه ولعبه، مشفقاً من تبعاته في داره، وواجباته في أسرته؟

إن تمادي الوالدان في إيثار الطريق على المسكن، والملهى على الأسرة، وأغفلا ما يحبب البيت إليهما وإلى الأولاد كان النفور من الدار، ثم زاد إهمالهما، فازداد النفور منها. . .

وهكذا حتى تذهب بهجتها، وتفقد سعادتها، وتزول حرمتها، وتختفي قداستها.

وليس البشر - وإن حرصوا - بقادرين على أن يستبدلوا بالدار معهداً للتربية والتهذيب، ولا بقادرين على أن ينشّئوا في غير الأسرة عواطفها وأخلاقها وتعاطفها وتراحمها، وتآلفها وتعاضدها، وفداءها وإيثارها.

وإن زالت حرمة البيت، وضعفت عواطفه، وطغت المادة على روحانيته، فجعلناه مكاناً من الأمكنة التي نقسم بينها الليل والنهار، وعدلنا به الطريق والمقهى والملهى، وصارت عواطف الوالدين والأولاد واجبات تؤدى على كره، وأعمالا تتصل بالأعضاء أكثر مما تتصل بالقلوب - فقد حُرِمنا الخير كل الخير، وأصبنا الإنسانية في صميمها، وقضينا على الأخلاق في منابتها، وعلى السعادة في مهدها.

ولو أتت المدنية الحاضرة بكل صناعة وكل علم وكل نظام وكل متاع، وذهبت بسعادة البيت، فقد باءت بالخسار، وعملت للبوار.

ولو جاءت الشيوعية بكل طعام وشراب لكل إنسان بغير عناء، ومتَّعت الإنسان بكل متعة، ويسرت له كل لذة، ثم حرمته أسرته، وسلبته رحمة الوالدين وبر الأولاد، وعواطف الأمومة والأبوة والبنوة، وأبعدته من ظلال البيت الوارفة، وأفيائه العاطفة، وموارده الصافية، لكانت قد ربَّت له الجسم وسلبته الروح، وهيأت له الصورة وأخذت الحقيقة، ووفرت له لذات جثمانية قليلة ضيقة، وباعدت بينه وبين لذات الروح التي لا تُعد ولا تُحد، ولكانت قد ردته حيواناً لا إنساناً، ويسرت له العلَف وسلبته الإنسانية!

الأسرة حُوطوها بكل رعاية، وأحكموا أواصرها، ووفروا بركاتها، وادفعوا عنها كل ما يخل بسعادتها وطهارتها وقداستها، وزودوها بالعلم النافع والتربية الصالحة.

إني أرى الأم تُخدع عن سلطانها في البيت، وتُنزل عن عرشها في الأسرة، وتُضلل عن منزلتها، وتُفنن عن واجبها، فيقال لها: دعي البيت إلى السوق، واهجري الأولاد إلى المصنع، اتركي تدبير الأسرة إلى تدبير الشئون العامة.

وأرى الوالد يستبدل بداره الأندية، وبأسرته جلساء المقاهي، ويسهو عن كثير من تبعاته.

وأرى الولد يقسو على والديه، ويلقى بالغلظة أبويه، ويطلب بحقه ويحاسب عليه، ويعصي الوالدين أحياناً ويطيعهما أحياناً.

إني أرى صلة ما بين الوالدين والأولاد تهِن، وسلطان الوالدين على الأولاد يضعف، وأخشى إن لم نتدارك الأمور أن تزلزل أركان الأسرة، وتتقطع وشائجها، ويتبدد نظامها. . . وكيف تقوم الأمة على قواعد واهية وأركان متداعية!

إني أخاف على الأسرة، وأشفق على البيت - الجنة والمعبد والمدرسة - أن يُستباح حماه، وتدخل الفتن إلى مغناه. . . والمرأة وقاية من هذا الشر، وطب لهذا الداء، وشفاء لهذه العلة. . .

وللمرأة حديثنا الآتي إن شاء الله.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام