مجلة الرسالة/العدد 832/صور من الحياة:

مجلة الرسالة/العدد 832/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 06 - 1949



على هامش القبعة

للأستاذ كامل محمود حبيب

لقد صادفت مقالات (القبعة) هوى في نفوس قراء (الرسالة) الغراء ممن يحسون في أنفسهم غيرة وحماسة، فأهدى إليَّ الأستاذ عدنان أسعد كتابه (خمر وجمر) وقدم هديته الأنيقة المشكورة بقوله (أهدي إليك كتابي المتواضع لقاء مقالك الماتع القبعة) ولمست في تضاعيف كتابه ثورة على هذه الفئة من الناس الذين لبسوا القبعة حيناً من الزمان لينبذوا المعاني السامية للوطن والدين واللغة، حيث يقول: (. . . وهكذا تفرنج الشرقي إذ انسلخ من شرقيته وصبأ من تقاليده، فلبس القبعة وتبرنط ووضع البيبة وتهبَّط، ولوي لسانه اليعربي برطانة الغرب ولغة الهمج ثم تبجح فقال: هي المدنية يا قوم فقلدون!)

وكتب إلى الأستاذ عبد الحميد يونس المدرس بكلية الآداب يقول: (. . . لم يكن المنظر الذي أثار اهتمامي هو منظر النيل الساحر تقف على ضفتيه عمد النخيل الباسقات والأشجار الخضر المتشابكة وهو يتلألأ صافياً رقراقاً يُصافح أشعة الشمس الذهبية عند الأصيل كأنه يودعها وداع الحبيب الوامق إن حمَّ الفراق. ولا هو للصحراء الساجية بالليل المتثابتة بالنهار كأنها أمواج البحر المتلاطمة مسحت عليها يد ساحر رهيب فجمدت في مكانها لا تريم. ولا هو لعاشقين تأجج الهوى في قلبيهما ضراماً من شباب وشواظاً من عاطفة فذابت أنفاسهما مع لظى النجوى وزفرات الغرام. ولا هو للزهر النضير المتألق وهو يزهو في رونق ويختال في بهاء وينفح أريجه في خيلاء وقد تعهدته يد صناع فبدا على نسق يخطف البصر ويأسر اللب. ولكنه منظر يشغل أذهان العامة وتطرب له أفئدة الأطفال. . . هو منظر سيارة عطلت في عرض الطريق فتقدم لها حمار يجرها. والسيارة رمز الجديد وشارته والحمار صورة القديم ورسمه.

تحارباً وتخاصماً وتدابراً، وسخر الأول من الثاني في عزة وكبرياء، وأغضى الثاني عن الأول فصمت وطأطأ رأسه في استسلام، ثم اندفع على سننه لا يعبأ به ولا يلقى السمع إلى حديثه وحاول كل منهما أن يقتل صاحبه ويمحوه ويبيده، حتى إذا حزب الأمر بأحدهما ونزلت به النازلة وضاقت به سبل الأرض أسرع الثاني إليه يمسح عنه ما أضناه ويهوِّ عليه ما آده ويعينه على ما أعضل عليه. . . ما أشدهما خصمين وما أكرمهما عدوين!

هذه - يا صاحبي - هي الحرب الصحيحة بين الجديد والقديم، ولكنها في مصر - وطننا العزيز - معركة عنيفة في ضعف، شديدة في فتور، لا تسمو عن المهاترات الوضيعة والألفاظ النابية والمفارقات العجيبة، يريد الواحد أن يحط من قدر أخيه على جهل منه وصلف.

وأنت هنا لا تكاد تفرِّق بين المجدد والمحافظ إلا من أسماء خاوية تسمى بها البعض دون البعض الآخر، فليت شعري هل آن الأوان لأن تفقه السيارة المجددة أنها ستصاب - في وقت ما - بالعطب فيتقدم إليها الحمار في رزانة وهدوء ليقيلها من عثرتها وليكون لها عوناً وساعداً. أو أن يفهم حمارنا المحافظ أن من سماحة الطبع وسمو الخلق أن يهفو نحو غريمه - في ساعة الخطر - ليكون صاحب الشدة ورفيق العسرة؟

والمجدد هنا رجل لبس القبعة حيناً أو بعض حين وقرأ الكتب الغربية سنة أو بعض سنة وانكب على الثقافة الإفرنجية ردحاً من الزمان، ثم جاء يلوي لسانه برطانة بربرية ويملأ شدقيه بكلمات أعجمية على جهل منه بالغرب، لا ريب فهو قد عاش زماناً في بلاد الغرب ولكنه لم ينغمر في البيئة ولم يتغلغل إلى عاداتهم ولم يكشف عن أخلاقهم، فبدا فج العقل والعقيدة والفكر. وما به إلا أن يهدم تراث الشرق وهو تراث أقامته الأجيال العديدة على دعامات قوية ثابتة.

وداء هذه الأمة أنها تبذر - دائماً - في القبعة روح الغرور والكبر حين تفسح لها المكان المرموق، وحين تضعها في صدر الجماعة، وحين تهيئ لها مجلساً عالياً بين القادة والزعماء. والقبعة - لهذا - تتكلم وتخطب وتعلمِّ فتملأ قلوب الشباب من أبنائنا خلطاً وخرفاً، وتزين لهم - في أسلوب سياسي رقيق - أنّ يعقوا الدين والوطن اللغة، وتدفعهم - في مكر ولين - إلى الهاوية.

وأكبرهمِّ صاحب القبعة أن يعبث بصورة الوطن الحبيبة لتبدو شوهاء مبتورة تعافها النفس ويزدريها العقل، وأن ينقب عن النقائض يلصقها بأهله ثم يتحدث بها في طلاقه وإسهاب، وأن يأخذ نفسه بالبحث عن نواحي الضعف في بني وطنه فيذيعها في غير اكتراث ولا مبالاة. ثم ينكر علينا النبوغ والعبقرية والسمو، ويسمنا بالتقصير والخمول والتخاذل، وينسى أنه واحد من هذه الأمة لا يستطيع أن يهرب من عاداتها ولا أن يتفلت من خصالها.

ولشد ما يحلو لصاحب القبعة أن يتمادى في الغي وأن يسترسل في المكابرة، فيتصنع احتقار المصري ويحاول جهده أن يحط من قدره، وأن ينال من كرامته، فهو لا يؤمن به عالماً ولا أديباً ولا صانعاً ولا. . . ثم يتبجح فيجهر برأيه السقيم في غير تحرج ولا حياء.

وأنا أعرف رجلاً من ذوي القبعات رأى أثراً من آثار الصناعة، ظنه مصرياً - وفي رأيه أن الصانع المصري رجل متواكل واهي العزيمة مغلق الحس - فهاله ما في هذا الأثر من ضعف وتداع، فراح ينحط على الصنعة والصانع يثلبهما بأقذع الكلم ويسلقهما بألفاظ غلاظ. فلما تبين له أن الصانع إفرنجياً تراجع في ندم وتخاذل في ضعف كأنما عزَّ عليه أن ينال من الإفرنجي وهو سيده ومثله الأعلى.

وأعرف رجلا آخر من هذه الفئة ترامى إليه أن أجنبياً ذا مكانة أدبية يوشك أن يزور مصر، فأخذ يترقب مقدمه في شغف، ثم اندفع يستقبله في حفاوة وأفسح له من قلبه ومن قلمه في وقت معاً، وملأ صَّفحات الصحف بما أضفى عليه من إطراء ومدح. ثم حاول أن يمن عليه الأجنبي فيزوره في داره لتسعد الدار بزورة السيد الأجنبي، ولتظفر المائدة بفضل الأديب الغربي، فتشاغل هذا عنه وتعلل بالتعلات، ثم ضاق بإلحاحه فردَّه - بادئ ذي بدئ - في هوادة، ثم ضاق به مرة أخرى فردَّه في عنف. وحزَّ في نفس صاحبنا أن يندفع إلى الرجل في غير صبر، وأن يتشبث في غير أناة، ثم لا يلقي - بعد هذا كله - إلا الاحتقار والمهانة، فأطلق فيه لسانه وقلمه يثلب علمه وأدبه وأخلاقه، ويزدري رجولته وإنسانيته وفنه. . .

هذه هي أخلاق القبعة، وهذه هي عقيدتها، وهذا هو إيمانها، فمتى. . . متى نتحلل من قيودها؟ إن القبعة - ولا ريب - هي بقايا عهد زال منذ زمان، عهد السيطرة الأجنبية البغيضة، عهد الاستخذاء والضعف. . . فمتى. . . متى نتحلل من قيودها لنمسح عنا عار التعبد والخضوع؟

وجاءني صديق من ذوي القبعات هائجاً يهدر وهو يتلظى غيظاً وغضباً، وفي يده مجلة أسبوعية وصحيفة يومية، ثم قذف بهما أمامي وهو يرغي ويزبد، ثم قال: (أرأيت، أرأيت الصحافة في بلادنا وهي تشوه الحقائق؟) قلت: (ماذا؟ ماذا أصابك؟) قال: (هذه الصحيفة نشرت مقالاً بعنوان: الشعب الإنجليزي ذهبت أخلاقه. وهذه المجلة كتبت مقالاً بعنوان: عشش الترجمان في لندن!). قلت: (وماذا يعنيك وأنت رجل مصري الجنس؟) قال: (هذا افتراء بيِّن على شعب عظيم!) قلت: (وما لك أنت ولهذا الشعب؟) قال: (لقد عشت هناك سنوات فما شعرت بشيء مما يقولون!) قلت: (عجباً! إن في الصحيفة أرقاماً تنطق، وإن في المجلة صوراً تتكلم!) قال: (فأنت تصدق هذا البهتان الواضح فتنكر على هذا الشعب العظيم خصاله العالية وأخلاقه السامية، وهو قائد العالم وسيده) قلت: (وأنت تغضي عن الدعايات النكراء، والشائعات الشوهاء، يروجها عنا أصحاب الأغراض السقيمة في البلاد الأجنبية لتحط من كرامتنا و. . .) قال مقاطعاً: (إنهم لا يقولون إلا حقاً) قلت: (كأني بك قد تعلمت هناك - يا سيدي - كيف تنبذ المعاني السامية للدين والوطن واللغة!)

وأحس هو بأن كلماتي تخزه وخزاً شديداً، فانطلق من لدني في ثورة وغضب، ولكني لم أعجب أن يكون هذا الفتى قد استحال في سنوات إلى قبعة تتفلسف فلسفة واهية منحطة!!

وقص عليَّ صديق حبيب إلى نفسي قصة زواج القبعة. . .

فليت شعري هل أفلح صاحب القبعة أن يكون زوجاً وأباً ورب أسرة؟!

كامل محمود حبيب