مجلة الرسالة/العدد 833/ترجمة وتحليل:

مجلة الرسالة/العدد 833/ترجمة وتحليل:

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 06 - 1949



الخلود

لشاعر الحب والجمال لامرتين

ترجمة الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

(تتمة)

وهذه البصيرة التي تشهد الإله باطناً في كل شيء، ظاهراً من كل مكان، ترى فوق ذلك أن العالم - بحيه وجماده - ما يفتأ باحثاً عن الله، ناشداً نجواه، حريصاً على عرفان صفاته، والتقرب إلى ذاته: وأنه بجماله ونظامه وأحكامه صورة تحكي جمال خالقه، وحكمة مدبره، وقدرة صانعه، ومرآة تنعكس فيها معاني رحمته ورأفته، وفضله وكرمه. فالنهار لا يشعع بنور الشمس وإنما يشرق بنظرات الإله، والحسن لا يرثه المرء عن أبويه وإنما يفيض من بسمات الله؛ فإذا ما ابتسم راضيا عن العبيد، إذن لمولود جميل سعيد، أن يبهر هذا الوجود!

فما اجدر القلب الذي ينبض بإذن الله أن يعبده ويهواه!

(إن هذا العالم الذي ينشد الوصول إلى كمال صفاتك

صورة تحكي جمالك، ومرآة تعكس مزاياك:

فالنهار يفيض من نظراتك، والحسن يفيض من بسماتك،

والنفس في كل مكان تلقاك، والقلب أينما كان يهواك!)

بيد أن هذا الإله الحي القيوم، المقتدر الرحيم، لو اجتمعت الفطرة السليمة والأرواح الصافية على أن تصفه لا تستكمل وصفه ولو كان بعضه لبعض ظهيراً؛ وإن العقول البشرية لأعجز من أن تدرك مزاياه الحسنى: فهي كلما شرعت تصفه أدركها الكلال، وكلما أخذت تتكلم عنه غالبها الصمت، وكلما طفقت تتحرك نحوه رزحت تحت ذاته القاهرة؛ فتستكين وتشعر بضعفها ثم لا تجد الراحة بعد كلالها إلا في طمأنينة الوجدان، ولا تطيق الكلام بعد سكوتها إلا بألفاظ الحمد والتقديس، ولا تستطيع الحركة بعد جمودها إلا بالقيام والركوع والسجود.

(لا يستكمل وصف اسمك كل هذه المزايا الباه أيهما القيوم الأزلي المقتدر الحبيب!

والروح - وهو رازح تحت ذاتك القاهرة -

يقدس قدرتك حتى في صمته الرهيب!)

ومهما قدس الروح قدرة الله، ومهما جد في البحث عنه وألقى اليد بذاته وخضع له في جميع أحواله، فلن يسلمه شيء من ذلك إلى أكثر من أن يحبه حباً يملك عليه مشاعره ويزيد شوقه وحنينه؛ فيستحيل هذا الحب في النفس الشاعرة ناراً مضطرمة لا تتراجع دون باب الله مهما طردت عنه حتى يؤذن لها بالدخول فيأخذ لهيبها في الانطفاء حين ترى عن قرب بعض صفات هذا الخالق العظيم.

(رباه! ما زال يلقي إليك بذاته

هذا الروح المحطم خاضعاً لإرادتك الأزلية.

ولما ضاق بالحب شاعراً أنه ختام حياته،

التهب لعرفان صفاتك القدسية!)

هذه صلاة الروح في معبد الطبيعة: ألحانها من السماء، ونورها من الله، وينبوعها الشعور والوجدان.

ومثل هذه الصلاة الروحية كثيراً ما صفا بها قلباً لامرتين وحبيبته، فانطلقا على نغماتها إلى العالم المجهول الذي يتخيلان الوصول إليه، فيجثوان بين يدي الإله الرحيم، ويصليان لوجهه الكريم، ويدعان الصباح والمساء يحملان إليه أنفاسهما الطاهرة ثم يستشعران في سكرتهما البون الشاسع بين السماء والأرض؛ فما الأرض إلا سجن أو منفى، وما المساء سوى المأمن والمأوى.

(ولما ختمت القول استجمع أنفاسنا قلبانا

إلى عالم مجهول حققته الآمال،

ودأب الصباح والمساء ينشدانه نجوانا

ونحن جاثيان أمامه بالغدو والآصال؛

فرأت عيوننا الأرض منفانا والسماء مثوانا

وهي سكرى في نشوة ما تزال!) ومع ذلك فما هذه الصورة الرائعة التي تبدو لعيني الشاعر في سكرته الروحية سوى نشوة ما أسرع ما تزول؛ والروح كلما شرد هذا الشرود، ورأى هذه الرؤى وثب ثائراً هائجاً وراح يضرب الجسد الذي يحبه، ويريد أن يتخلص منه إلى الأبد لينتقل من هذه الأخيلة الكواذب إلى عالم الحقيقة الخالد. وهذا ما حرك نفس الشاعر وحمله على التأوه والأنين، وعلى التضرع إلى الله أن ينعم على الروح بفصله حقاً عن الجسد وإطلاقه من قيوده حين يكونان في مثل هذه السكرة لكيلا يرتدا بعدها إلى الصحو الذي ليس فيه سوى المر الأليم.

(وفي هذه اللحظات التي يثيب فيها الروح الشرود،

ويود لو حطم الصدر الذي يحبسه ويخنقه. . .

أواه! لو استجاب لنا الإله من أعلى الوجود،

فضرب كلا منا ضربة تفصله وتطلقه. . .)

يتمنى لامرتين هذا في تأوه وأنين، لأنه يتوقع السعادة يوم تنفصل الأرواح عن الأبدان!

فالأرواح ما دامت أجسادها تكبلها بأغلال من عظام ولحم وشحم وعروق وشرايين، وتكلفها ما لا تنتهي مطالبه من طعام وشراب ومشتهيات، لن تستطيع أن تتحرك قيد أنملة؛ بل ستبقى محجوزة عن كل ما تريد، محجوبة عن كل ما ترقب!

وما بالأرواح رغبة في حطام فان أو مادة زائلة، إن تريد إلا أن تسري في العوالم أنى تشاء، وأن تجتاز حزنها وسهلها، وعاليها وسافلها، وظاهرها وباطنها؛ وأن تعرج من سماء إلى سماء فترى ما يغشاها وتتسمع موسيقاها وأن ترقى في لمح البصر إلى موطنها الأول روضة الخلود، وإلى ينبوعها الذي لا ينضب روح الإله؛ وأن تطير على جناح الحب في فضاء واسع لا يحده البصر، ولا ينتهي في الزمان ولا المكان؛ وأن تضيء في طيرانها ما حولها كما يضيء شعاع الشمس في سطوعه كل شيء؛ وأن تنفذ أخيرا إلى نفس الخالق وتمتزج فيها إلى الأبد امتزاج الأنفاس، ثم تهدأ بعد ثورتها، وتأنس بعد وحشتها، وترى الحقيقة بعينها بعد أن ذهلت كثيرا في دنيا الخيال.

ولو استجاب الله دعاء لامرتين ودعاء أمثاله.

(إذن لاجتازت أرواحنا العوالم في مسراها

وهي ترقى بوثبة واحدة إلى ينبوعها الثرار، ولا صاعدت على جناح الحب في فضاء لا يتناهى

كأنها شعاع من أشعة النهار،

ثم امتزجت إلى الأبد في نفس من براها

بعد أن تصل إليه ولبها مستطار. . .)

والشعراء مهما استغرقوا في أخيلتهم لابد للشك أن يغزو قلوبهم؛ وما هو إلا أن يصحوا من سكرتهم، ويصرخوا في وجه الأقدار مستنسخيها ما تكتب أيديها، ومستنطقيها عز، ما تبيته لياليها؛ فهل هي خادعتهم عن أمانيهم وضاحكة من آمالهم أم ستجعل أخيلتهم حقائق، وأحلامهم واقعات؟

وكذلك فعل لامرتين. . . فإنه لما أحس استغراقه في خياله عاد إلى الأقدار يسألها: هل الكائنات مولودة للفناء؟ ثم يسألها بشيء من المرارة: هل ستفنى النفس مع الجسد إذا قضت عليها الشركة أن تقاسمه الموت؟ وهل سيبلغ القبر في جوفه هذه النفس في ظلام الليل؟ وما تصير بعد فنائها؟ أتستحيل غباراً متناثراً، أم تطير فوق الأحياء، ثم تذهب في الفضاء؟

وفي هذه الأسئلة حيرة الشاعر وتردده، وفيها خوفه على مصيره ورهبته من عاقبته وعواقب الناس.

(أيتها الأقدار! هل خدعتنا أمانينا؟

وهل الكائنات مولودة للفناء؟

وهل يبلغ القبر أناء ليالينا

نفسا تقاسم جسدها حكم القضاء؟

وهل تصير غبارا أم تطير حوالينا

ثم تتلاشى كصوت ذاهب في الفضاء؟)

وحين يختم لامرتين هذا اللحن الحزين في هذه القصيدة العصماء يأبى إلا أن يصرح بأن الروح الذي خاطبه وناجاه لم يكن سوى حبيبته (جوليا) فنراه يتغنى باسمها في البيت الأخير، مستعلما منها عما امتنعت الأقدار من أعلامه به، إذ يسألها بعد أن فاضت أنفاسها وفارقت دنياها: هل بقي على حبها شيء مما أحبت؟ وهل تشعر بحب هذا المقيم على العهد أم تريد على وفائه موثقا ودليلا؟ ثم يعلن لها أنه يهبها حياته، ويرجو أن تشهد مماته مقابل شيء واحد: هو أن تشعر بحب هذا الذي أخلص في حبها فيكون شعورها برهاناً على خلودها ويكون خلودها جواباً لسؤال خطير طالما خبأته الأقدار، وعوذته بالأسرار.

(بعد أن فاض نفسك يوم الوداع الأخير

ألم يبق شيء يحبك من كل ما كنت تحبين؟

أواه! لن أسأل سواك هذا السر الخطير،

فانظري يا جوليا موت حبيبك ثم أجيبيني!)

وهكذا عاد الشاعر إلى خياله، واستمسك بآماله، وختم قصيدته بمعاني الخلود. . .

صبحي إبراهيم الصالح