مجلة الرسالة/العدد 833/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 833/تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
سلامة موسى أو قصة الكاتب وما كتب:
لم أكن أعلم أن للأستاذ سلامة موسى تلميذا آخر إلا حين وقع في يدي العدد الأخير من مجلة (المقتطف). . . ففي هذا العدد الذي أصدرته المجلة عن شهر يونيو طالعت مقالا آخر في الرد علي تحت عنوان (النقد والتعقيب في الصحف والمجلات) لكاتب لا داعي لذكر اسمه لان أحدا لا يعرفه؛ لا يعرفه على الرغم من أن له كتاب صدر منذ شهور اسمه (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث)!. . . وأعلم أن هناك سؤالا يتردد في الأذهان ليأخذ طريقه إلى الشفاه: كيف لا يعرفه أحد وله في أسواق الأدب كتاب؟ الجواب عن هذا السؤال هو أن الكتاب (القيم) لم تعرفه أسواق الأدب حتى الآن، وإنما عرفته أسواق تجار الورق حيث (يباع الفن الرفيع) بالرطل!!
إن لهذا الكتاب قصة. . . قصة تكمن فصولها وراء هذا الهجوم الذي شنه علي صاحبه في (المقتطف) منذ أيام. ولا بأس من أن أسرد لك فصول القصة بإيجاز، لتدرك أن الدافع الأصيل لهذا الهجوم لم يكن بسبب موقفي من الأستاذ سلامة موسى، ولكنه كان بسبب موقفي من الكتاب (القيم)! وقبل أن أحدثك عن فصول القصة أقسم لك أن هجوم الكاتب (النابه) قد هزني هزاً عنيفاً. . . إن التافهين يستطيعون أن يهزونا نفس الهزات العنيفة التي نلقاها من العباقرة؛ فالعبقري يستطيع أن يزلزل كيانك حين تقرأ له زلزلة تقديس وإعجاب. وكذلك التافه فإنه يستطيع أن يزلزل أيضا كيانك زلزلة رثاء وسخرية! ومن هنا هزني الكاتب (النابه) هزاً عنيفاً خشيت معه على رئتي القويتين أثر الانفجار. . . من الضحك!!
قصة طريفة ما في ذلك شك، أقصها عليك لتنسى - ولو إلى حين - حر الصيف و (هجوم الذباب). . .
مفتاح القصة أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة؛ إنه ليس إلا نسخة من كتاب (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث). . . إياك أن تظن أنني من الغفلة بحيث أشتري مثل هذا الكتاب، ولكن صاحبه هو الذي كان من الغفلة بحيث أهداه يوما إلي لأكتب عنه سطوراً تقدمه إلى القراء! ويبدو أنني كنت قليل الذوق لأنني تغافلت حتى اليوم عن الكتابة عنه، على الرغم من أن الكتاب قد أرسل إلي مع رسول خاص يحمل إلي رجاء صاحبه أن أخصه شيء من عطفي، وعلى الرغم من أن صفحته الأولى قد حملت إلي إهداء ضخما يمكن أن يرتفع بي إلى مكانة سانت بيف في النقد الأدبي!!
ومضت الأيام (والرسول الكريم) يلاحقني ليلا ونهاراً موفداً من قبل (الأستاذ) المؤلف لأكتب عن الكتاب ولو كلمة صغيرة في (الرسالة) ولكنني تماديت في قلة الذوق إلى الحد الذي دفعني إلى مصارحة (الرسول الكريم) بأنني أهين قلمي وأهين (الرسالة) وأهين عقول القراء إذا كتبت عن هذا الكتاب. . . وذهل (الرسول الكريم) ولم يجد بدا من نقل كلماتي إلى (الأستاذ) المؤلف، ولعله فعل هذا ليريح لسانه من كثرة الرجاء وقدميه من طول المسير!!
أنا على استعداد لأن أنقل إليك عبارات الإهداء الضخمة بالزنكغراف، وعلى استعداد لأن أذكر لك اسم (الرسول الكريم) وعلى استعداد لأن أقدم لك أسماء من شهدوا فصول القصة من الأدباء، لتدرك الدوافع الأصيلة لهذا الهجوم الذي (عطر) ثلاث صفحات من (المقتطف)؛ لقد كنت بالأمس في رأي الكاتب (النابه) أديبا كبيرا يشار إلى بالبنان فأصبحت اليوم في رأي الكاتب نفسه لاشيء. . . وسبحان من جرد الكاتب (الجهير) من ثوب الخلق والضمير، ومن أضاع ماء الحياء من وجوه بعض الأحياء!!
أترك هذا كله لأقول للكاتب (النابه) إن القائمة الطويلة التي قدمها إلي عن كتب الأستاذ سلامة موسى راجياً مني أن أعود إليها عسى أن أغير رأيي فيه، أقول له إن تلك الكتب بما تحمل في أحشائها من جراثيم الفتك بالقيم والتقاليد والضمائر والأخلاق والعادات، هي وحدها سبب حملتي عليه. . . فليرجع هو إليها ليغترف العلم من منابع الانحلال!
أما تلك الفقرات التي نقلها إليَّ من كتاب (تربية سلامه موسى) ليستدر بها عطفي على رجل (خدم الأدب والفكر قرابة أربعين سنة كي ينير ويعلم ويسمو بالشباب إلى مثليات القرن العشرين ويخرجهم من ظلمات القرون الماضية ويكافح هذا الشرق المتعفن الذي تنغل فيه ديدان التقاليد) إلى آخر هذا الكلام المضحك الذي ورد في ذلك الكتاب، أقول إن تلك الفقرات جديرة بالتصديق من نزلاء مستشفى المجاذيب!! ليصدقني قراء (الرسالة) إذا قلت لهم إنكم لم تجدوا تلميذاً لهذا الرجل إلا وهو واحد من هذه التشكيلة العجيبة:
متعلم فاشل، وماجن مستهتر، وفتاة عابثة، ومشاغب يبيع الشغب لمن يشتريه، ومسخ مشوه منبوذ من الحياة. . .
مع أخلص التحية للأستاذ عباس محمود العقاد!!
بين نعيم الديمقراطية وجحيم الشيوعية:
هذه قصة ذات مغزى ودلالة، وقعت حوادثها في أرض الديمقراطية الحق لا أرض الديمقراطية المزيفة. . . هناك حيث يتفيأ الناس ظلال الحرية ويستروحون أنسامها الوديعة! ولقد حدثتك في العدد الماضي من (الرسالة) عن أرض الديمقراطية المزيفة، تلك التي يلقي فيها (رالف بانش) ما كان يلقاه العبيد في أحلك عصر من عصور التاريخ. . . من حق هذه الأرض أن نهدي إليها هذه القصة، وإن كنا نخص بالإهداء أرضاً أخرى يعرفها المضللون من أصحاب الأفكار المنحرفة والمبادئ الهدامة!
(حنَّ المستر كليمنت أتلي رئيس وزراء بريطانيا يوماً إلى كليته القديمة فذهب لزيارتها حيث أقيمت له حفلة غذاء. . . وبدأ الطلبة المحافظون عملهم فكتبوا بحروف كبيرة فوق سيارة رئيس الوزراء (ممنوع الوقوف هنا)، ثم داروا حول السيارة وأطلقوا سراح الهواء المحبوس في العجلات ثم ذهبوا من حيث أتوا. وفي تلك اللحظة حضر سائق سيارة رئيس الوزراء وراعه ما أصاب السيارة فجرها إلى أقرب جراج ولم يخرجها منه إلا في اللحظة التي استعد فيها المستر أتلي لمغادرة كليته القديمة! غير أن الطلبة المحافظين أبوا أن ينتهي نشاطهم عند هذا الحد فأسرعوا إلى الغرفة التي توجد فيها قبعة رئيس الوزراء، ولما وجدوا بابها مغلقاً داروا حولها حتى وجدوا نافذة مفتوحة فتعلقوا بها وانتزعوا القبعة بعصا لأحدهم ثم كتبوا على ورقة بخط جميل (أنتخب المحافظين في الانتخابات القادمة)، ثم ثبتوا الورقة ببعض الدبابيس في قبعة المستر كليمنت أتلي. . . كل ذلك وقع ولا علم لرئيس الوزراء به، ولكنه ما كاد يستقل سيارته حتى هرع الطلبة المحافظون إلى نافذة في الطابق الأعلى ورشوا عربة الرئيس بالماء!
وتقبل أتلي كل هذه الأعمال بروح طيبة، واعتبرها مداعبة مألوفة من الطلبة)!! ديمقراطية يؤمن بها الحاكم ويستشعرها المحكوم، ويلتقون جميعا في رحابها كأكرم ما يلتقي الإنسان الكريم بالإنسان الكريم وما أروعها من أرض تلك التي تنبت الحرية ليجني ثمارها الأحرار ضع أي رجل من رجال (الكرملين) في مكان كليمنت أتلي، وضع بعض الطلبة من الروس في مكان بعض الطلبة من الإنجليز وتصور ما حدث هنا وقد حدث هناك! إن في مجاهل سيبريا متسعاً للجميع. . . وهذا هو مفرق الطريق بين نعيم الديمقراطية وجحيم الشيوعية!
إلى المضللين من أصحاب الأفكار المنحرفة في مصر نهدي هذه القصة، ونهدي إلى المثقفين منهم - وما أقلهم - كتابين يصوران هذا الجحيم الشيوعي خير تصوير، وإن كان أحدهما قد نقل عن رأي العين بينما نقل الآخر عن رأي الشعور. . . (أثرت الحرية) للكاتب الروسي كرافتشنكو، و (الأيدي القذرة) للكاتب والفيلسوف الفرنسي سارتر!!
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
هناك أصدقاء مجهولون يكتبون إلي من حين إلى حين. . . لماذا يؤثرون أن يظلوا مجهولين وهم أصدقاء؟ إنني أود من الكاتب المجهول (س) الذي بعث إليَّ برسالته الكريمة حول قصة (من وراء الأبد) أن يكشف عن شخصيته لأرد على تحيته.
وهذه رسالة أخرى نبيلة الهدف جليلة الغاية من (حلفا - سودان) يقترح علي مرسلها الأديب الفاضل الطيب عبد الله جلال الدين أن أطلب إلى الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد أن يكتب الأول كلمة في (الرسالة) عنوانها (أخي الزيات) وأن يكتب الثاني كلمة أخرى عنوانها (مصطفى صادق الرافعي) ليتحقق الصفاء في الأدب عن طريق الصفاء في النفوس. . . أود أن أقول للأديب الفاضل إن الكلمة التي ينتظرها من الدكتور طه عن الأستاذ الزيات ستلقى قريباً عندما يستقبل مجمع فؤاد الأول للغة العربية صاحب (الرسالة) بمناسبة اختياره عضواً في المجمع؛ أما الكلمة الأخرى فلعل الأستاذ العقاد يكتبها يوماً ما. ومهما يكن من شيء فقد حسم الموت ما بين الرجلين من خلاف. أما الرسالة الثالثة فتحمل إلي من (من الخرطوم - سودان) تقديراً كريماً أرده لصاحبه شكراً خالصاً وهو الأديب الفاضل أحمد عوض محمد الموظف بالبنك الأهلي المصري، وكم أود أن يرجع إلى بعض مؤلفات الأستاذ سلامه موسى ومقالاته ليدرك سر نقمتي على أفكاره المنحرفة، هذه الأفكار التي تهدم كثيراً من القيم الخلقية والإنسانية!
وحين أنتقل إلى الرسالة الرابعة أشعر أن إخواني في الجنوب قد بلغوا الغاية في الوفاء للخلق والعقل. . . كان الأديب الفاضل عبد الله شلبي من (عطبرة - سودان) يقدم الدليل على هذا السمو الخلقي والفكري في ثنايا رسالته. أما الجواب عّما سألني عنه حول شخصية الأستاذ توفيق الحكيم الفنية فيستطيع أن يستخلصه مما كتبته عنه على صفحات (الرسالة)، لأنني قد تعرضت لهذا الجانب من جوانب شخصيته في الكلمة التي جعلت عنوانها (الفن بين واقع الفكر وواقع الحياة). وأقول لصاحب الرسالة الخامسة الشاعر الفاضل جعفر عثمان موسى (كوستي - سودان) إنني قد قضيت مع شعره لحظات تذوق ودراسة، وسأوافيه برأيي في رسالة خاصة.
أما الرسالة السادسة فأشكر لمرسلها الشاعر الفاضل محمد العديسي نبيل عاطفته وعاطر ثنائه، وأقول له إن الكلمة التي كتبها صديقي الأستاذ عباس خضر رداًعلى رسالته إليه قد خفف من وقعها وضوح القصد في رسالته إليَّ. . . ولهذا يبادر الأستاذ خضر بشكر الشاعر الأديب مثنياً على هذه الروح المثالية. وهذه هي الرسالة الأخيرة من الأديب الفاضل عبد الرحمن أحمد شادي الطالب بالأزهر، أنها تحمل سؤالاً ينتظر الجواب عن رأي لشوبنهور ورد في كتاب (قصة الفلسفة الحديثة) للأستاذ أحمد أمين بك والدكتور زكي نجيب محمود. . . أرجو أن يتسع وقتي للرد على سؤال الأديب الفاضل في الأيام المقبلة، لأن التعقيب على آراء الفلاسفة يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد والعناء!
(مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الأصفهاني:
إذا قلت عن هذا الكتاب إنه كتاب قيم فلا أعدو الحق والواقع. . . حسب القارئ أن يكون مؤلفه هو أبو الفرج صاحب (الأغاني) وحسب أبي الفرج أن يكون (الأغاني) مشيراً إليه ودليلاً عليه. أما محققه الأستاذ السيد صقر فشاب يظن بوقته على أن ينفق فيما لا فائدة منه ولا خير فيه، كما يفعل كثير من شباب العلم في هذه الأيام. . . وإنما ينفقه في البحث والتنقيب والتحقيق ليقدم إلى قراء العربية من حين إلى آخر ما يقع عليه من نفائس الآثار الفكرية في التراث العربي القديم؛ يقدمها خالصة من الشوائب في حدود ما بين يديه من مصادر تتصل بموضوع تحقيقه من قريب أو من بعيد: أما موضوع الكتاب فتدرك أهميته ونفاسته من عنوانه: مقاتل الطالبين!
في هذا الكتاب ترجم أبو الفرج للشهداء من سلالة أبي طالب، أولئك الذين استشهدوا في سبيل الرأي والعقيدة على أيدي الخصوم من بني أمية أو بني العباس! ترجم لهم في الفترة التي تبدأ من عصر الرسول وتنتهي بنهاية القرن الثالث الهجري، سواء أكان المترجم له قد لقي حتفه بالسيف في ساحة الجهاد، أم لقي حتفه بالسم في ساحة الغدر، أم لقي حتفه بالتعذيب في غيابة السجن، أم لقي حتفه في مكمنه الذي لجأ إليه فراراً من البطش والعدوان!
ولقد رجع الأستاذ السيد صقر في تحقيق هذا الكتاب إلى نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية، كما راجع نصوص الكتاب على الكتب التي نقل منها أبو الفرج أو التي نقلت عنه مثبتاً ما بينها من فروق. . . كما حرص على أن يثبت في أول كل ترجمة كل ما يعرف من مراجع عرضت للمترجم له بأي لون من ألوان الذكر، وعلى أن يصنع للكتاب فهارس مفصلة للرواة والأعلام، والجماعات، والفرق، والأماكن، والأيام، والشعر، والمصادر، والتراجم.
كل هذا يطلعك على مدى الجهد الذي بذله الأستاذ المحقق واستحق عليه كل تقدير وكل ثناء. . . أما الكتاب نفسه فتحفة نادرة من تحف أبي الفرج ينشدها قارئ الأدب وقارئ التاريخ!
أنور المعداوي