مجلة الرسالة/العدد 835/أثر العظماء في التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 835/أثر العظماء في التاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 07 - 1949



للأستاذ نجم الدين حمودي

إن أثر الأفراد في تغيير مجرى التاريخ من الموضوعات الطريفة التي جلبت اهتمام المفكرين في كافة العصور. ولا عجب إذا وجدنا الفلاسفة يولون هذه المشكلة عنايتهم، فيثيرون الجدل حولها. ومن الجدير بالذكر أن هذا الجدل جعل الفلاسفة ينقسمون إلى فئتين متناقضتين: فئة تقول: (إن التاريخ في جوهره عبارة عن سير العظماء)؛ أو بكلمة أوضح: (إن التاريخ من صنع الصفوة الصالحة من الذين يؤلفون زعامة اجتماعية مستمدة من مزاياهم الشخصية). أما الفئة الثانية فتدعى عكس هؤلاء تماماً، ولسان حالها يقول: إن العظماء نماذج كاملة للبيئة التي يعيشون فيها.

إن فيمن يعضد نظرية تأثير العظماء في سير التاريخ وقدرتهم على تغييره الكاتب الإنكليزي (توماس كارليل) في كتابه (الأبطال وعبادة البطولة) فيتحدث عن النبي محمد و (أوليفر كرومويل) ويجعلهما أمثلة للرجال العظماء الذين غيروا مجرى التاريخ. أما رأي (كارليل) في نابليون فيختلف كل الاختلاف عن رأيه في النبي محمد وكرومويل، إذ أنه يجرده من صفة العظمة. ويشاركه في هذا الرأي الكاتب الروسي (تولستوي) الذي يحلل شخصية نابليون بقوله: (إنه رجل خلقته الظروف والمصادفات التي تحكمت في انتصاراته أول الأمر ثم عادت فسببت خذلانه واندحاره).

ومن أبرز المؤرخين المعاصرين في إنكلترا الذين شرحوا نظرية العظماء وأثرهم في التاريخ السر (شارل أومان) أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد الذي يعارض نظرية التطور التي فحواها: إن التاريخ سلسلة من الحوادث التدريجية الاعتيادية. وبهذا تتغافل هذه النظرية عن أثر العظماء وقدرتهم في تغيير التاريخ فنجعل من أعمالهم صورة للأمور التدريجية الاعتيادية المحتمة الوقوع.

إن السر (أومان) من مؤيدي نظرية العظماء، ويدعم رأيه بأمثلة لأشخاص غيروا مجرى التاريخ دون أن يكونوا ممثلين لبيئتهم التي عاشوا فيها. وأول مثل يستشهد به هو النبي محمد (صلعم) فيقول: (لقد أخفقت في محاولاتي الكثيرة لإيجاد مؤرخ واحد يستطيع البرهنة على أن النبي محمد (صلعم) كان وليد الحالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تسود الجزيرة العربية في القرن السابع بعد الميلاد. ولم أجد بين المؤرخين أيضاً من يقدر أن يقول: لو لم يبعث النبي محمد (صلعم) لكان من الطبيعي أن يستعاض عنه بشخص يقوم بنفس المهام التي اضطلع بها. ويستمر السر (أومان) في بحثه عن النبي محمد (صلعم) فيقول: (منذ القرن الثاني للميلاد حتى أواخر القرن التاسع عشر وجد عدد من الأنبياء أو الذين حاولوا التشبه بهم كظهور المهدي في السودان، إلا أن جميع هؤلاء لم يقوموا بأعمال خارقة كالتي قام بها النبي محمد الذي جعل أبناء الصحراء أمة تمكنت من المحافظة على المدينة وتقدمها في نصف أرجاء المعمور.

يبلغ اعتداد السر (أومان) بنظريته الذروة عندما يستشهد بسيرة وليم الفاتح فيقول: (لقد لعبت بريطانيا العظمى خلال القرون الماضية دوراً مهماً في تاريخ ومقدرات العالم. وإني أؤكد جازماً أنه لولا مجيء وليم الفاتح لما تيسر لبريطانية أن تلعب هذا الدور في الأوضاع العالمية، وأن تاريخ بريطانية كان من المحتمل أن يكون شبيهاً بتاريخ الدول الاسكندنافية، أي معزولاً عن السياسة الأوربية العامة لولا وليم الفاتح وانتصاره في موقعة (هيستنكز) عام 1066. ولا غرو إذا قلنا إنه لو كتب لوليم الفاتح أن يندحر عوضاً عن (هارولد كود وينسون) في موقعة جسر (سنلاك) لبقيت بريطانية محافظة على عزلتها ولازمت عدم التدخل في القارة الأوربية.

ونستعرض الآن رأي كاتب آخر يفوق السر (أومان) في أعمق تفكيره وبحثه الفلسفي المركز؛ وهذا الكاتب هو (جيكوب برخاروت) أستاذ التاريخ بجامعة (بيزل) في سويسرا بين عام 1865، 1885. يبتدئ (برخاروت) بإلقاء نظرة عامة على مفهوم كلمة العظمة والغموض الذي يكتنف ماهيتها لعدم وقوعها ضمن الأشياء المادية التي يمكن وزنها وقياسها، فلا هي هبة حتى يعرف مصدرها، ولا هي منحة حتى يشار إلى مانحها؛ وعلى هذا الأساس فإن الحكم على عظمة الأشخاص حكماً عادلاً أمر من الصعوبة بمكان عظيم.

ويعتقد (برخاروت) أن من أهم الصفات الملازمة للعظمة أنها وحدة فريدة غير ممكنة التعويض. ولهذا فالرجل العظيم هو ذلك الشخص الذي لولا وجوده لما تم تنفيذ جزء مهم من الأعمال الخطيرة في تلك الحقبة من الزمن والمكان اللذين عاش فيهما. ويتعرض (برخاروت) إلى المثل السائر (ليس هناك فرد لا يمكن تعويضه فيقول: (نعم إن هذا المثل يصدق في أكثر الحالات وأعمها، إلا أن أولئك الأفراد الذين لا يمكن تعويضهم هم العظماء، ويكونون عادة أقلاء وسيبقون كذلك أو ربما يقلون.

ولا شك أن التقدم الذي بلغته الإنسانية في المضمار الحضاري من علوم وفنون وآداب أصبح ممكناً بفضل جهود نفر من العظماء الذين سخروا مواهبهم في سبيل تحقيق هذا التقدم. وإن من يدرس آراء (برخاروت) بصورة دقيقة يلاحظ أنه يميل إلى أن العظمة تتمثل في الفلاسفة والفنانين فقط، فيقول في سياق بحثه: إنني لا أعد المخترعين والمكتشفين من العظماء لأن ما ينتجونه يمكن الوصول إليه في يوم من الأيام، أما الفلاسفة والفنانون فلا يمكن أن يستعاض عنهم بصورة مطلقة. فلو صادف أن مات رفائيل قبل نضوجه الفني لما خرج في العالم شخص مثله يتمكن من رسم لوحته الخالدة (تجلي المسيح). ومن البديهي أن يكون تصوير العاطفة والخيال، وتجسيد الوحي والإلهام في هيئة جميلة، وإظهارها بشكل آية فنية رائعة تكشف النقاب عن مواطن الجمال، ليس بالأمر الهين؛ لأن إعادة خلق الأفكار وتجسيدها في مظهر فني لا يقدر أن يقوم به إلا خالق الفكرة نفسه.

خاتمة:

أعتقد أن الآراء التي بينتها حتى الآن تكفي لإعطاء فكرة عامة عن النظرية التي تقول: (أن التاريخ سلسلة من سير العظماء) أما النظرية المعاكسة التي من أبرز زعماتها (سبنسر) فتقول إن الإنسان خاضع لمحيطه ويتطور بتطوره. وإذا ما تعارضت ميول الفرد مع سير الحوادث تبددت وزالت ولا يبقى إلا أثار التطورات الاجتماعية المحتمة الوقوع. ويدعى أصحاب هذه النظرية - نظرية التطور - أن الأعمال العظيمة التي استطاع أبطال التاريخ أن يقوموا بها لم تتيسر لهم إلا عندما اتجهت إرادتهم وميولهم نحو تحقيق الرغبات التي كانت ضرورية لتطور المجتمع. لذلك فإن التطور المادي هو أساس كل شيء في التاريخ وكل الحوادث التاريخية بما فيها سير الأبطال تتمشى وسنة الطبيعة بدون استثناء

وبعد أن استعرضت بصورة مجملة آراء كل من أصحاب النظريتين أود أن أذكر بأن كلا الفريقين على الرغم من الحقائق التي يبينوها كانوا مغالين في نظرياتهم، والمثل على ذلك ما ذكره السر (أومان) عن النبي محمد (صلعم)، فمع أنه عظيم حقاً إلا أن ذلك يجب أن لا يحجب عنا حقيقة واقعة وهي لو لم تكن الظروف مهيأة لقبول دعوته، ولو لم تكن هناك عوامل كثيرة ساعدت على نشر رسالته لما كان له هذا التأثير على مجرى التاريخ. والكلام نفسه يقال على وليم الفاتح، إذ أن إيجاده لنواة بريطانيا كان في طريق التحقيق قبل ظهوره.

أما جهة نظرية التطور فليس من المعقول أن تفسر جميع حوادث التاريخ بتفسيرات مادية صرفة ونهمل أثر الشخصيات الفذة التي أثرت في سيره. ولهذا فالنظريتان إذ فرقنا كلا منهما على حدة تفشلان في تفسير الحوادث التاريخية وأثر العظماء فيها؛ ولكن إذا جمعناهما معاً وشكلنا نظرية ثالثة تجعل العظماء يؤثرون على الظروف ويكيفونها بحسب أهوائهم، وفي الوقت نفسه تجعل الظروف تؤثر على العظماء وتتحكم في مصير أعمالهم نكون قد قربنا كثيراً من الحقيقة.

نجم الدين حمودي

سكرتير مجلة سومر - بغداد