مجلة الرسالة/العدد 835/أمم حائرة

مجلة الرسالة/العدد 835/أمم حائرة

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 07 - 1949


10 - أمم حائرة

سبل الهدى والطمأنينة

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية

عرضتُ جوانب من قلق الآراء واضطراب الأعمال في مدنيتنا هذه، وذكرت مواطن تسرب إليها القلق وكانت جديرة أن تنجو منه؛ وبدت فيها بوادر الخلل وهي خليقة أن تنأى عنه، وذكرت الحكومات والقوانين والصحف والنساء والأسَر

والآن أفصل القول، بعد إجماله، في السبب الذي تنشأ عنه هذه العلل، والأصل الذي تتفرع منه هذه الأدواء لنعرف الدواء ونلتمس الشفاء:

لابد للنفس مما يقيمها على طريقة، ويسيرها على نهج، ويوجه رغباتها وجهة واحدة، ويجمع نزعاتها على سنة بينة. فكلما همت بأمر رأت أمامها سبيلا واضحة ولم تشتبه عليها المناهج، ولم تضطرب بها الآراء وتتجاذبها الأهواء. وكلما حزبها أمر لم تتبلد ولم تذهب شعاعا؛ بل تعمد إلى عدتها من الآراء القويمة والمذاهب المستقيمة، فتعرف ما تفعل وما تجتنب، وما تأخذ وما تدع.

والذي يقيم النفس على طريقة، ويعرفها منهجها فيما تهم به، وفيما ينزل بها، هو العقائد الراسخة، والقوانين الواضحة، عقائد الدين، وقوانين الأخلاق، وشرائع الأمة كلها. فإذا ثبتت النفسَ العقائد، وقومتها الآداب، ووضحت أمامها القوانين، خضعت أهواؤها للحق، واتفقت نزعاتها على الخير، وسارت في أعمالها على قوانين تطمئن بها، وتسكن إليها، وتحرص عليها، ولم تشتبه عليها السبل، وتنبهم أمامها الغايات.

وإن لم تئِل النفس إلى عقائد بينة، وترجع إلى مذاهب معروفة، لم تستطع السير على طريقة، ولا العمل على قانون، واضطربت في شدتها ورخائها، وحربها وسلمها، وكانت نهباً لنزعات مختلفة، وآراء متشاكسة، وتذبذبت بين دواعي الوقت وخطرات الساعة، واختلف عملها بين الحين والحين، ولم تثبت في المحن، ولم تصبر في الشدَائد، وكانت عرضة للحيرة كل آن. والحيرة هي تفرق الفكر، بل تقسم النفس، ولا يبلي الإنسان في حياته بشر من الحيرة، وكثيراً ما أقدمت بالإنسان على الهلاك.

إن نزعات الإنسان كثيرة مختلفة، نزعات إلى اللذة والى الغلبة والسيطرة والى إيذاء من يخالفه، وحسد من يفضُله، والبغي على من يحسده، والى جمع المال والحرص عليه. وهو يحب ويبغض، ويسكن وينفر، ويرضى ويغضب، وفي كل هذا نزوات ونزعات.

ومواضع هذه النزعات كثيرة لا تحد، تعرض للإنسان كل حين، وفي كل مكان، فهو إن لم يعتصم بالعقائد والمذاهب يمضي على غلوائه إلى أهوائه، ويضطرب فيأخذ الشيء حيناً ويدعه حيناً، وينهج السبيل وقتاً ويحيد عنه وقتاً. شريعته رغبته، وقانونه نزعته وكيف تكون الرغبات المتغيرة والنزعات المتقلبة شريعة أو قانوناً؟ وهذا فرق ما بين الخير والشرير، والمصلح والمفسد.

وإذا حار الإنسان أو سار على هواه، اضطرب في نفسه، واضطرب في جماعته، وصادمت أهواؤه أهواء غيره، فصار أمره في الجماعة نزاعاً وشقاقاً، واختلافاً وافتراقاً.

وهذه النزعات كثيرة كثرة الحسيات المحيطة بالإنسان وهي لا تعد، والجزئيات التي تتعلق بها رغبته وهي لا تحصى؛ فلا بد من عقيدة أو مذهب يرد هذه الكثرة الحسية إلى معنى جامع من معاني الخير أو الشر، فيسير الإنسان على قانون من التحريم والتحليل، والعرف والنكر. فإذا التزم الإنسان العدل والإحسان - مثلا - حسنت له آلاف من الأعمال الجزئية التي يرى فيها معنى العدل أو الإحسان، واستقام على هذه الطريقة لا يتردد في كل حادثة، ولا يتحير في كل جزئية. وإذا كره الجور والإساءة فكذلك يتجنب آلافاً من الأعمال يدرك فيها معنى الجور والإساءة. وهكذا تجمع معاني الخير والشر في نفس الإنسان، هذه الجزئيات التي لا تنتهي، وتردها إلى كليات يشرع بها قوانين يسار عليها.

وإذا انتقلنا من الجزئيات الحسية إلى الكليات المعنوية، فقد انتقلنا من العالم الخارجي إلى النفس، ومن الماديات إلى المعنويات، ومن الجثمانيات إلى الروحيات. يجب أن نزكي النفوس ونزيدها إدراكا للمعاني وكلفاً بها، حتى تسيطر على الحسيات سيطرة كاملة، فتعمل الخير وتجتنب الشر، غير مبالية بآلاف الصور الحسية وآلاف اللذات الجزئية.

ويسمو الإنسان شيئاً فشيئاً إلى إدراك اللذات المعنوية التي لا تحد ولا تنتهي، ولا يقدرُها قدرَها إلا من عرفها وأنس بها، ويتمكن الإنسان في عالم المعاني، حتى يسمو على الحدود، حدود الزمان والمكان والأشخاص، فتتسع حياته، وتعظم همته، ويكلف بكل جليل، وينفر من كل حقير، ويُكبر بالقوانين العامة، ويستصغر المنافع الخاصة.

إذا جمعت النفس الواحدة هذه المعاني أو هذه القوانين، وجمعت الأنفس الكثيرة أي الجماعة أو الأمة هذه المعاني وهذه القوانين، استقام الواحد على طريقه مؤتلفاً مع كل واحد، وسارت الجماعة في طريقها متآلفة متحابة.

وحينئذ يكون سعي الواحد لنفسه وللجماعة كل حين، إذ التأمت منفعته ومنفعتها بهذه القوانين الجامعة المؤلِّفة، وكان صلاحه صلاحها، وفساده في فسادها.

وترقى هذه المعاني في النفوس وتتمكن حتى يجد العامل الخير كل الخير، واللذة كل اللذة، في إعطاء غيره بالعدل، وفي حرمان نفسه بالعدل، وحتى يكره كل الكراهة أن يأخذ ما ليس من حقه، ويأبى كل الإباء أن يستمتع بما يؤذي غيره، بل لا يجد فيها لذة ومتاعاً، ولكن ألماً وندماً.

ثم ترقى هذه المعاني في النفوس وتتمكن، حتى يبلغ الإنسان المرتبة التي سماها بعض الصوفية مرتبة الكلية، وهي المرتبة التي بلغت بأحد المتصوفين أن يقول: (أشعر بأني مأخوذ بذنوب الناس كلهم). كأنه أرتكب كل ما أرتكب الناس من ذنوب، فهو يألم لها ويخاف عاقبتها.

والجماعة كالنفس الواحدة تؤلف بينها العقائد وتهديها الشرائع، وتنشئها التربية على العمل بالعقيدة وإطاعة الشريعة، فتجتمع آحادها، وتتعاون أفرادها، فتلقى الحوادث بعقائد تثبتها، وشرائع تقومها، مجتمعة غير متنافرة، متعاونة غير متخاذلة، فتسير إلى غاية معروفة، على سبيل بينة، قوية على السير، متعاونة عليه، محتملة كل مشقة، مقتحمة كل عقبة.

والأمة التي لا تضمر عقيدة صحيحة، ولا تطيع شريعة قويمة، ولا يؤلف بينها نظام جامع، ولا يثبتها في اللزبات إيمان ولا خلق، فتلقى الخطوب فزعة هلعة، متدابرة متنافرة، متجادلة متلاعنة، كثلة من الغنم تفجؤها الذئاب.

فالعقائد والمذاهب والشرائع هي وسائل الوفاق في النفس الواحدة، وفي الجماعة، وعلى قدر قوتها وصحتها تكون قوة الائتلاف وصحته، وتكون استقامة الواحد والجماعة على العمل الصالح، والدأب على المسير والصبر عليه، والثبات في الشدائد حتى تزول، والتجلد في الغمرات حتى تنجلي. وفي القرآن الكريم: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم). (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء).

وسنبين من بعدُ الأصل الذي ترجع إليه فروع الإيمان الصحيح، والقاعدة التي تقوم عليها طمأنينة الناس ونجاتهم من الضلال والحيرة إن شاء الله.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام