مجلة الرسالة/العدد 835/رثاء الجارم

مجلة الرسالة/العدد 835/رثاء الجارم

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 07 - 1949



للأستاذ محمود غنيم

(ألقيت في حفلة التأبين التي أقامتها جماعة دار العلوم للمغفور

له علي الجارم بك)

عرش ينوح أسى على سلطانه ... قد غاب كسرى الشعر عن إيوانه

طوت المنون من الفصاحة دولة ... ما شادها هارون في بغدانه

في ذمة الفن المقدس عازف ... لقي الحمام على صدى ألحانه

لما تهامست الصفوف بنعيه ... كاد الفؤاد يكف عن خفقانه

ساءلت حين قضي عليُّ فجأة: ... هل حل يوم الحشر قبل أوانه؟

سقط المؤبن وهو يسمع شعره ... من ذا يؤبنه بمثل بيانه؟!

وصف الزمان لنا وجاد بنفسه ... لتكون برهاناً على حدثانه

قال احذروا غدر الحمام معززاً ... بحياته ما قال بلسانه

لا تعجبوا من موته في حفله ... إن الشجاع يموت في ميدانه

بطل المنابر ما له من فوقها ... يهوى وكم عرفت ثبات جنانه؟

إن خانه ضعف المشيب فطالما ... قهر المنابر وهو في ريعانه

كلا لعمري لم يخنه مشيبه ... لكنَّ حس المرء من خُوَّانه

لم يجنها إلا رقيق شعوره ... والمرهف الحساس من وجدانه

حر قضى متأثراً ببيانه ... ولكم جنى فن على فنانه

يا شاعراً طار اسمه بقوادم ... من عبقريته ومن إتقانه

ما دان يوماً للصغار بصيته ... أو دان للزلفى برفعة شانه

والمجد منه زائف وممحض ... لا تخلطوا بلوره بجمانه

ما كل لماع يبرق ممطر ... البرق غير الآل في لمعانه

عرش القوافي بعد موتك شاغر ... يا طول ما يلقاه من أشجانه

قل للذي يومي إليه بلحظه ... هذا مجال لست من فرسانه لا هُمَّ حكمك في الورى جارٍ وما ... من حيلة للعبد في جريانه

الطير ملء الروض أشكالا فما ... للسهم لا يصمى سوى كروانه؟

يمضي العظيم من الرجال فينبري ... لمكانه خلفاء من أقرانه

والشاعر الموهوب فلتة دهره ... إن مات أعيا الدهر سد مكانه

قل للرياض قضى عليُّ نحبه ... ولطيرها الشادي على أفنانه

الشاعر الغرِد المحلق في السها ... بجناحه قد كف عن طيرانه

بكت اللآليُ بعده لاَّ لَها ... وتساءل الياقوت عن دهقانه

وتساءل التاريخ عمن شعره ... كان السجل لحادثات زمانه

بكت الكنانة في علي شاعراً ... جعل اسمها كالنجم في دورانه

عف اللسان مؤدب الأوزان لم ... يتلق وحي الشعر عن شيطانه

بل كان نفح الخلد أمتعنا به ... حيناً وعاد به إلى رضوانه

للنيل شاد بشعره ما لم يشد ... فرعون والهرمان من بنيانه

من كل بيت في السها شرفاته ... تتلألأ الأضواء في أركانه

يعيى الفراعنة الشداد أساسه ... ويحار ذو القرنين في جدرانه

شعر إذا غنى به لم يبق من ... لم يروه كالبرق في سريانه

غنى الطروب به على قيثاره ... وترنم المحزون في أحزانه

بهر العذارى حسنه فوددن لو ... صيغت قلائدهن من عقيانه

ويكاد سامعه يفسر لفظه ... من قبل أن يسري إلى آذانه

تغري سلاسته الغرير فيقتفى ... آثاره سيراً على قضبانه

حتى إذا هد المسير كيانه ... حصب الورى بالصلد من صوانه

يا رب ديوان تأنق ربه ... في طبعه وافتن في عنوانه

لا يسمع اليقظان وقع قريضه ... حتى يدب النوم في أجفانه

والشعر إما خالد أو مدرج ... من ليلة الميلاد في أكفانه

قالوا: عليُّ شاعر؛ فأجبت: بل ... ساقٍ عصير الكرم ملء دنانه

قم سائل الفقهاء: هل في شرعهم ... حرج على ثمل بخمرة حانه؟ كم خط من صور الحياة مداده ... ما لم يخط مصور بدهانه

ببراعة لو أدركت موسى رأى ... من سحرها ما غاب عن ثعبانه

أين القصائد كالخرائد كلها ... بكر، وبكر الشعر غير عوانه

أحيا لنا ابن ربيعة تشبيبها ... وأعاد للأذهان عهد حِسانه

شيخ يحس الشيخ عند نسيبه ... بدم الشباب يسيل في شريانه

وإذا تحمس قلت حيدرة انبرى ... تحت العجاجة فوق ظهر حصانه

وإذا تبدى قلت لابس بردة ... قد جاء من وادي العقيق وبانه

وإذا تحضر قلت نسمة روضة ... من فرط رقته وفرط حنانه

يا طالما حمل الأثير نشيده ... وكأنما هو عازف بكمانه

بغداد مصغية إلى أنغامه ... ودمشق راقصة على عيدانه

وكأنما الحرمان عند هتافه ... سمعا بلالاً هاتفاً بأذانه

يثني على الفاروق تحسبه فتى ... ذبيان قد أثنى على نعمانه

والملك يظهر بالثناء جلاله ... والشعر مثل الدر في تيجانه

والشعر مرآة النفوس يذيع ما ... طويت قرارتها على كتمانه

من أحرف سوداء إلا أنه ... نقش يريك الطيف في ألوانه

والشاعر الموهوب تقرأ شعره ... فترى جمال الله في أكوانه

يا ويح قومي كم أشاهد بينهم ... من شاعر هو شاعر بهوانه

يا رائي الموتى ومخلد ذكرهم ... بالخالد السيار من أوزانه

أرثيك حفظاً للجميل وإنه ... دين أعيذ النفس من نكرانه

ماذا يؤمل شاعر من راحل؟ ... أتراه يطمع منه في إحسانه؟

وأنا الذي ما سمت شعري ذلة ... أو بعثه بالبخس من أثمانه

يا رب بيت قد ضننت ببذله ... ضناً على من ليس من سكانه

أقسمت ما جاوزت فيك عقيدتي ... قسم الأمين البر في أيمانه

دار العلوم بنتك حصناً شامخاً ... للضاد تلقى الأمن في أحضانه

رزئت لعمري فيك رزء الدوح في ... كروانه والفلك في ربانه دار قد انتظمت أياديها الحمى ... أشياخه والنشء من ولدانه

دار العلوم ونيل مصر كلاهما ... بنميره يروى صدى ظمآنه

فاضا على الوادي فكان العلم من ... فيضانها والماء من فيضانه

يا خادم الفصحى وكم من خادم ... تعتز سادات بلثم بنانه

أفنيت عمرك ذائداً عن حوضها ... ذود الكريم الحر عن أوطانه

أنصفتها من معشر مستعجم ... الغرب أصبح آخذاً بفيانه

والضاد حسب الضاد فخراً أنها ... كانت لسان الله في فرقانه

هي سؤدد العرب يوم فخاره ... وقوام نهضته وسر كيانه

من ذاد عنها ذاد عن أحسابه ... بل عن عقيدته وعن إيمانه

نم يا علي جوار ربك آمناً ... لك عنده ما شئت من غفرانه

لك عند رب العرش أجر مجاهد ... فانعم برحمته وعدن جنانه

كم من شهيد مات فوق فراشه ... جمد الدم السيال في جثمانه

إن المجاهد من أغار بفكره ... لا من أغار بسيفه وسنانه

سيظل شعرك يا علي مردداً ... ما غرد القمري في بستانه

أقسمت ما نال البلى من شاعر ... يحيا حياة الخلد في ديوانه

محمود غنيم