مجلة الرسالة/العدد 836/أنا 000 والموت!

مجلة الرسالة/العدد 836/أنا 000 والموت!

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 07 - 1949



للأستاذ راجي الراعي

رأيت الموت أمس جاثماً بين القبور يتأمل ما صنعته يداه، ومنجله الدامي إلى جانبه، فجرَّ أني عليه سكونه، وأن المنجل ليس في يده، فأتيته. . . فتفرَّس في، وقلب بين جفنيه، ثم زفر قائلا:

- ما الذي جاء بك! إن ساعتك لم تأت بعد!

- ولماذا تزفر؟

- لأنك لم تقع بعد في يدي!

- ومتى أقع فيها؟

- تقع فيها يوم تبلغ حدك المرسوم، أو يوم تطلبني!

- وهل أنت تُطلب؟ أنني أتخيلك وفي يدك المنجل تطرق الأبواب وتدخل متى شئت!

- لا، لست وقحاً إلى هذا الحد. أنا لمن يبلغ المائة، وهي الحد الأخير الذي أقيم لعمر الإنسان، فإذا بلغه أقبلت عليه وأعدته إلى ترابه، ولا آتيه قبل ذلك إلا إذا دعاني!

- وكيف يدعوك؟

- يأثم ويشذ عن الصراط القويم، ويجن جنونه، فتحترق كبده، ويجف عرقه، ويتضخم قلبه. . .

إن معظم الذين يموتون يقبلون علي قبل أن أقبل عليهم، ويسوقونني إليهم سوقاً الحياة عبء عليهم، وكأنهم يستطيبونني!

- ألم تتعب بعد من الحصاد أيها الموت؟

- وهل تعبت الحيات من زرع بذورها؟

- أليس لك ساعة تموت فيها؟

- الأقوياء الخالدون يميتونني، ثم أبعث في الضعفاء حْيا

- من يشحذ منجلك؟

- حنين التراب إلى بنيه.

- كم بلغ عدد الذين قبضت عليهم حتى اليوم؟ - أن عددهم في التراب عدد ذراَّ ته. . . فكيف أحصيهم

- أين أنت مني الآن؟

- كلما نبض قلبك نبضة خطوت إليك خطوة!

- ما هي كلمتك في لغة الأحياء؟

- الرحيل. . .

- أحقاً أنك القبح كله والقسوة كلها؟

- يقولون ذلك، ولكن من أراح الإنسان من ألم الحيات، وطول البقاء، وأطل به على دنيا قد ينتظره فيها النعيم، لا يكون قاسياً قبيحاً، بل جميلا رحيما. . .

- أتكون الموت وتذكر الجمال والرحمة؟

- نعم، أذكرهما شيئاً آخر هو الغبطة التي يشعر بها الراقد في سريري.

- ما هو كتابك؟

- أنا كتاب عنوانه الولادة، وسطوره مطموسة، وخاتمته رسم يتكشف عن جفن مطبق على قلب مطعون. . .

- ما ألذ ما تلذك رؤيته في الأرض؟

- قطع السنابل في الحقول، وجمع الكثبان من الرمال!

أين تقيم؟

- وراء الباب، وفي الزاوية. . .

- وأين أيضاً؟

- في العلة العاصية، والشريان الجاف، وفي عقل المجنون، وإرادة العاشق، وشهوة الزاهد، وثمالة الخمر؛ وفي موجة البحر، وموجة اللهيب، وفم المجد، والصاعقة، والبركان، وناب الأفعى، وضمائر بعض الناس، وجبين الأبله. . .

- أين ترى ظلك في الناس؟

- في الحْصاد والحطاب والحفار والجزار والجلاد والمنتحر.

- كيف أنت وهذه الأولوية الخفاقة؟

- لوائي هو اللواء الذي يخفق في أفسح الأجواء.

- أي الألوان والأصوات أحب إليك؟

- السواد والحشرجة.

- كيف أنت والحروب؟

- أرى فيها أخصب مواسمي.

والحب؟

- الحرب بيننا سجال.

- والجريمة؟

- أنها حليفتي. . .

- والشمس؟

- إن لهذه المتعجرفة الهازئة بي في أعالي الفضاء يوماً من أيامي، وقبراً من قبوري. . . إن أشعتها أصابع النور، وهذه الأصابع ستقطع يوماً. . . وفي ذلك اليوم تنتهي المهزلة الأرضية، وأقبض عليكم جميعاً في لحظة واحدة. . . أنظر إليها، لقد جاوزت حد الشباب، وهي الآن في كهولتها، وعما قريب يدب فيها الهرم. . سيملكم النور وأنتم في فنون حيوانيتكم لا تستحقونه. . إنكم تقابلون هذه الشمس التي تكرمكم كل يوم باللؤم والجحود. إن سماجتكم تكره جمالها، ولو أمكنكم أن تصعدوا إليها وتطفئوها لفعلتم!

- كيف تريد أن أرسمك أيها الموت؟

- ارسمني قمة لجبل الحياة، أو حجراً في القلب، أو صليباً في الحب، أو شبحاً يقهقه في رحم المرأة، أو عظَمة في حلق الأمل

- من أنت في الأدب؟

- أنا ناثر أنثر ما تنظمها الخليقة.

- كيف أنت والجوع والظمأ؟

- لا أعرفهما، فمنذ ولدت والتخمة تقتلني، والدماء في فمي. . .

والرقاد. . . هل تعرفه؟

كيف أرقد وأنا هو اليل، وهل يرقد الليل؟ أنا إن رقدت هللت الخلائق، ومرت الحياة فوق أحلامي هازئة بي، وأفلتت من يدي. . أنا اليقظة الكبرى، فكيف أطبق أجفاني؟ كيف تراني أيها الموت؟

أراك تنأى بخيالك عن الحياة، وتدنو مني. . . إنك تعيش في عالم الأشباح، وهو من عوالمي. . . إن مطارق الخيال والتصوف تهدم فيك تمثال للبقاء. . .

لي حاجة أسألك قضاءها

وما هي؟

إذا دقت ساعة الرحيل، فلا تقبض علي وأنا مقوس الظهر أتوكأ على عصاي. . . اقبض علي ورأسي ينطح الأفق، وقدمي راسخة فيالأرضلكي يقال أنني صارعتك، وفي ذلك عزائي في بلية الترب. . . أنا لا أحب الغنيمة الباردة. . . اقبض عليَّ وأنا أحدق إلى الشمس، وأفتش عن وجه الله، حتى إذا مثلت بين يديه تذكر أنني كنت بريئاً جريئاً. . . فتش عني في أعماق قلب الحياة، وانتزعني منها إذا استطعت. ولا تنتظر أن اجمع بقاياي لأرمي بنفسي على باب بيتك. . . والويل لك ثم الويل إذا أنت مسست روحي، وتجرأت على خيالي. . . إن خيالي أقوى منك فحذار. . .

أن خيالك يتكلم الآن. . . أما أنت. . . وهنا نفخ الموت نفخة جمد لها دمي، وحدق في منجله الملقي إلى جانبه، وأخذ يهز رأسه ويحملق ويغمغم، فخيل إلي أنه يقول لنفسه: لقد أتعبني هذا الوقح بتحديه وأسئلته التي لا آخر لها، فإذا وكزته بهذا المنجل، أو لوحت به أمام عينيه كف عني. فتملكني الرعب وكاد يهوى قلبي، فشددته بيدي ورحت أهرول مطلقاً ساقي للريح، لا ألتفت إلى الوراء، وأنا أحسب أن الموت يجد في أثري. . . وبعد قطع المئات من الأميال وأنا أعدو كجياد المتنبي الذي قال فيها:

عقدت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغي عنقاً عليه لأمكنا

وقفت عند ينبوع يتدفق بالحياة وأنا أرتجف وألهث إعياء، ورحت أعب الماء، وأجس رأسي وصدري وما فيَّ من شرايين وأوردة ودماء بعد أن تحدثت إلى الموت. . .

نعم، الموت الذي لا يفتح فمه إلا ليشرب الدماء. . .

راجي الراعي