مجلة الرسالة/العدد 837/أمم حائرة

مجلة الرسالة/العدد 837/أمم حائرة

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 07 - 1949


11 - أمم حائرة

الإيمان بالله

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية

قوام العقائد الصحيحة، ونظام السير القويمة، وعماد الحياة الروحية السعيدة، ومدد كل خير، ومنبع كل طمأنينة، ومصدر كل سعادة، والهادي إلى الصراط المستقيم، والسنن القويم، والمنير في ظلمات الحياة، والدليل في مجاهلها، والجامع ما ظهر وما بطن من حقائق العالم، والمجلي لما جل ودق من مواهب الإنسان - هو الإيمان بالحقيقة العظمى، حقيقة الحقائق، ومركز الدائرة من الخلائق، الحقيقة التي نطق بها الكون مفصحاً ومعجماً وصريحاً ومجمجماً، وتكلم بها الإنسان ضالا ومهدياً، وسعيداً وشقياً، وقرأها القارئ والأمي، وبصر بها البصير والضرير، وأعرب عنها الناطق والصامت، وتحدث بها المتكلم والساكت، وأقر بها المنكر وهو لا يدري، واعترف بها الجاحد وهو لا يشعر، والتي ظهرت حتى بهرت، واستسرت حتى حيرت. وهي من فضائلها ظاهرة للمتوسمين، وفي ظهورها خافية على الغافلين. الحقيقة التي تخترق كل حجاب، وتدخل من كل باب. ويبين عنها النور والظلام، كسواد المداد وبياض القرطاس، لا تدري أيهما أدل على المكتوب، وأهدى إلى المحجوب، وكالليل والنهار، في نظام الشهور والأعوام، من النور والظلام، فيهما يسير الزمان، ويستمر الحسبان.

ذلكم الإيمان بالله جل وعلا.

(تسبح له السموات والأرض ومن فيهنَّ وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لاتفقهون تسبيحهم.)

الأيمان بالله حياة النفوس وقوامها. يجمعها ويدفعها ويصلها بالكون العام، والروح الشامل، فينظم قواها، ويحكم ملكاتها، ويشرف بها على العالم، مسيطرة عليه، نافذة إلى أسراره، مسخرة لقوانينه لا تتفرق أجزاء متخاذلة، ولا تسقط أهواء متهافتة، ولا تضطرب مطامع ومخاوف، يجذبها ميل ويدفعها آخر، وتقدم بها رغبة، وتصدها رهبة، بل تضئ سريرتها، وتصفو بصيرتها، وتستقيم سبيلها، وتبين غايتها.

والإيمان بالله العظيم، وذكره والاتصال به، تملأ النفس عظمة وقوة، وتصغر أمامها الأهوال، وتذلل العقبات، فتنطلق كأنها إرادة الله في خلقه، وقدره في عباده. ولله من عظماء خلقه أقدار. يسلطهم ويمكنهم، فإذا هم ينشئون الأجيال، ويخلقون الإعصار. لا يعتلون بالزمان والمكان، ولا يفرقون بين اليسير والعسير، والبعيد والقريب، يصدق الله أقوالهم، ويبر أقسامهم. ويقسم بأيديهم أرزاقه، ويصرف بعزائمهم أقداره. بصرهم الإيمان، وأضاء لهم العقل والوجدان. . . لولا الإيمان بالله ما اهتدوا ولا قدروا، وما جاهدوا وما صبروا.

الإيمان بالله الواحد السلام، يوحد النفس ويملؤها سلاماً ووئاماً، وألفة ونظاماً، فتدرك الالتئام في الحق والخير والجمال والحب، وتعرف التنافر في الباطل والشر، والقبح والبغض. فتسير على الأرض سلاماً يهدي إلى السلام، ونظاماً يدعو إلى النظام، وجمالا يهفو إلى الجمال، وحباً يرشد إلى الحب.

وما أحسب الشر وما يتصل به في هذا العالم إلا قلقاً وتنافراً أو سبيلاً إلى القلق والتنافر. ولا أرى الخير وما هو منه بسبيل إلا سكينة وائتلافاً، أو وسيلة إلى الائتلاف والسكينة. وإذا لم يوحد النفس الإيمان، تنازعتها أصنام من آلهة أو أهواء، وتجاذبتها أوثان من أرباب أو مطامع، فلم تلتئم في نفسها، ولم تعرف الالتئام في غيرها.

ذلكم مبدأ الضلال والهدى، والشقاء والسعادة.

والإيمان بالله الذي لا يحده زمان ولا مكان، يطلق النفس من قيودها، ويخرجها من حدودها ويرفعها على الزمان والمكان، فإذا هي، فيما تحب وتكره، وفيما تأتي وتذر، سنة من سنن الله لاتحول، وقانون من قوانينه لا يزول. فتستكبر على الشهوات المحدودة، والنزعات الضيقة، ولا تبالي المنافع والمضار الخاصة، فيسمى الإنسان لنفسه ولأسرته ولطائفته وللناس جميعاً، على قوانين الحق العامة، وسنن الخير الشاملة، لا يسعه غيرها، ولا يتسع هو لغيرها. وكذلك يعلو على الأهواء والعصبيات والنزعات والنزغات المتزاحمة المتصادمة، المتنازعة المتقاتلة، المنفرة المفرقة، المهلكة المدمرة. إنما انتصاره للحق والحق لا يتغير، وتحيزه للعدل والعدل لا يتعدد. فهو في توحيد من إيمانه، ومن عقله ووجدانه، ومن قوله وفعله، في سره وعلنه.

إذا أضاء الإيمان بالله في سرائر الإنسان، وعمل في نفسه فجمعها ورفعها ووصلها بالحق والخير، وعظمها وقواها، وأحكم قواها، ووحدها وملأها سلاماً ووئاماً، وحباً للحق والخير والجمال، ثم أطلقها من قيودها، وأخرجها من حدودها، عملت جاهدة مصلحة راضية صابرة، وأدركت اللذات الروحية وأنست بها، وسكنت اليها، وكلفت بالسلام والوئام، وبكل ائتلاف واتفاق، ونفرت من كل اضطراب واختلاف، وتفرق وتنافر.

وقد جاء في بعض الآثار أن يتشبه المخلوق بخالقه، أو يتخلق العبد بأخلاق ربه. فهذا هو التشبه والتخلق. يسير الإنسان من الخاص إلى العام، ومن المقيد إلى المطلق، ومن المتغير إلى الثابت، ومن الجزئيات إلى الكليات، ومن الأحداث الفانية إلى الباقيات الصالحات، حتى يكون كأنه سنة من سنن الله في خلقه، وشريعة من شرائعه في عباده. وإذا نزعاته وشهواته مهجورة إلى الخير العام. بل نزعاته وشهواته في الخير العام، ولذته وطمأنينته في صلاح الناس كلهم، وانتظام العالم جميعه.

وإن لم يكن هذا هو الفناء في الله كما قال الصوفية فليس بعيداً منه، وإن لم يكن هو البقاء بعد الفناء في طريقتهم فليس نائياً عنه.

عبد الوهاب عزام