مجلة الرسالة/العدد 837/صور من الحياة

مجلة الرسالة/العدد 837/صور من الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 07 - 1949



زلة. . .!

للأستاذ كامل محمود حبيب

يا عجباً! وي كأن الحياة تأبى إلا أن تسخر منك - يا صاحبي - فتفسح لي مكاناً في زاوية دارك لأكتب قصة حياتك بين جدران حجرتك، أستلهم الوحي مما كان يدور هناك من عبث وسخف، وألتقط المعاني مما كان يشرق به المكان من حماقة وطيش.

خَّبرني، يا صاحبي، أي لذة استشعرتها في الكأس الأول عند أول رشفة تجرعتها من قدح الخمر؟ لا تدع قلبي يرثي لحماقتك وأنت ما تزال فتى في عنفوان العمر، ولا تذر النفس تساقط حسرات لجهلك وأنت موظف كبير تدر عليك الوظيفة ما يكفيك أنت وزوجك وأولادك. آه، يا صاحبي، لو ثاب عقلك فرجعت من غيك! إذن لأصبحت - كما عرفتك منذ سنوات - رجلاً طيب النفس هادئ الطبع رضي الخلق.

لقد عرفتك يا صاحبي، بعد أن تخرجت في كلية التجارة، شاباً كثير الدأب والنشاط شديد القوة مفتول العضل وسيم الطلعة جميل السمت، ولمست فيك توقد الذكاء ورجحان العقل وقوة الحجة، ثم ضربت بيني وبينك نوازع الحياة ومشاغل الوظيفة فما تلاقينا منذ سنوات.

أما أنت فقد تلقفتك الحياة لتلقي بك بين براثن الشهوة وتقذف بك بين براثن الشر. وقال لك شيطانك: لا عليك إن أنت ألقيت بدلوك في الدلاء فتكون قد تذوقت رحيق الحياة ورشفت رضاب اللذة واستمتعت بجمال السعادة.

إن الحياء الذي دفعك عن النساء هو الذي دفعك لتعب الكأس الأولى حتى الثمالة. وسرت حميا الخمر - أول الأمر - في مفاصلك فأحسست بالنشوة تتدفق في عروقك فتشيع المرح في أعصابك والطرب في قلبك. وخيل إليك أن في الخمر سحراً تتجاب له هموم النفس وتنزاح أعباء الروح، فطابت لها خواطرك وهدأت جائشتك: لا ضير علي إن أنا اختلست من عمري فترات أقضيها بين رفاق الحانة أسعد بحديثهم وهو طلي وأشاطرهم الكأس وهي لذيذة، وأنا أجد فيها شفاء من رهق الحياة ودواء من هموم العيش وجلاء من صدأ العقل. ولكن الخمر جذبتك إليها في شدة وعنف فما استطعت أن تنصرف عنها. يا لحماقتك يا من تضع قدميك عند حافة الهاوية ثم تطمع أن ترتد عنها قبل أن تبلغ القرار.

لقد كان راتبك يربو على حاجات عيشك، ومتعة نفسك، ولذة قلبك. ولكن الخمر قد سيطرت عليك فسلبتك مالك، واستنفدت وفرك، فقنعت بالعيش الخشن، واللباس الوضيع، والحياة المضطربة، ثم شعرت بضيق ذات اليد، فتعرفت على (فلان بك)، وهو فتى في مثل سنك من أبناء الذوات، يغمره الثراء ويفهق جيبه المال، ولصقت به في غدوه ورواحه، تشاركه عبثه ولهوه، وتشاطره هزله وجده، وراقه حديثك وطرب له، فصاحبك وسكن إليك. ووجدت أنت في ماله دريئة تقيك ثمن الخمر وهو باهظ، وتزيح عنك تكاليف اللهو وهي ثقيلة، ثم انحطت همتك، وسفلت رجولتك، ففتحت له بابك، وأفسحت له مكاناً بين زوجك وأولادك ليقضي هناك لياليه في عبث ومجون وقد لعبت الخمر بعقله وهتكت عنه أستار الخجل وسلبته نعمة الحياء. ثم مرت أيام وإذا رفيقك - سعادة البك - يحس بثقلك ويضيق بشهواتك ويضن عليك بماله، ثم راح يدفعك عنه - بادئ ذي بدء - في رفق ولين، ويفر من صحبتك في لباقة وذوق. ثم ضاق بك مرة أخرى فانطوى عنك وأنت تطلبه وينفر منك وأنت تتلمسه، ثم طار عنك فما عدت تراه ولا تسعد بماله.

ونظرت حواليك فإذا سعادة البك قد ضربك بالقلى والهجران وصفعك بالاحتقار والازدراء، وإذا راتبك لا يكفيك إلا أياماً. لقد خذلك رفيق اللهو وان الذكاء ليتألق في ناظريك، وإن الحيلة لتضطرب في خيالك، وأنت موظف كبير في مصلحة الضرائب. وركبك شيطان الخمر وشيطان الحاجة معاً حين عز عليك ألا تجد ما تنفقه في ملذاتك التافهة، وألا تجد ما تسد به طلبات زوجك وأولادك، وخشيت أن تنهار حياتك في المنزل وأن تبدو على أولادك سمات الذلة والمسكنة، فانطلقت تريد أن تتلمس فرجة تنفذ منها إلى رغبات نفسك ورغبات الأسرة.

وخلوت إلى نفسك تحدثها حديث شهواتك والشيطان من ورائك يوسوس لك ويزين الشر في عينيك، ورأيت في مصلحة الضرائب فجوات يستطيع المرء أن ينفذ منها إلى المال في غير مشقة وأن يبلغ الثراء من خلالها في غير جهد، ولكنك نسيت أنها فجوات لا يسترها إلا الرياء والمداهنة، ولا يداريها إلا المكر والخداع، ونسيت أيضاً أنك إن واريت الجيفة التراب لم تستطع أن تكتم رائحتها النتنة أن تفوح فتملأ الخياشيم فتتقزز لها النفس ثم غدوت تجمع حواليك أصحاب رءوس الأموال من التجار والصناع تناقشهم في يسر وتخضع لهم بالقول وتتبسط معهم في الحديث حتى أنسوا إليك. لقد كان الواحد منهم - من قبل - يخشى وطأة قلمك ويرتعد لحدة ذكائك ويشفق من سلاطة لسانك ويفزع من جفوة حديثك. أما الآن فقد أنفتح الباب ولان الحاجب و. . .

وهمست الألسن بكلمات، وطارت شائعة بين موظفي مأمورية الضرائب انك - لأمر ما - نزلت عن جفوتك ونأيت عن غلظتك وجمعت كبار التجار والصناع في مكتبك تحبوهم بعطفك وتسبغ عليهم من رقتك وظرفك.

وجاءك - ذات مرة - تاجر أجنبي من كبار التجار يساومك لترفع عن ظهره الرقيق سوط المصلحة وهو جاف غليظ ويوحي إليك أنه يريد أن يدفع ثمن رأيك وجاهك، فوعدته. . . وجلس التاجر أمامك في صمت وأمل ليرى ما عساه أن يكون. وأمرت أنت فجاءك موظف شاب سمهري القوام مرفوع الرأس علامة الكبرياء، ثابت الخطوة علامة الثقة بالنفس، تتأجج في عينيه نار الذكاء وتبدو على قسمات وجهه علامات الفطنة وتتوثب حركاته نشاطاً وحياة وهو - إلى ذلك - جميل الطلعة طلق المحيا أنيق اللباس من أثر النعمة والثراء. . .

جاء الموظف الشاب يتأبط أوراقاً وفي رأيه انك تسهلت بعد صعوبة، ولنت بعد صلابة، وأسلست بعد شماس، ونظر فرأى التاجر إلى جانبك فبدا له ما تكن نفسك، وآذاه أن تحدثه في شأن من شئون العمل وهذا التاجر الأجنبي يسمع ويرى، ولكنه صبر على مضض وسكن على غيظ، وبدأت أنت تحدث الموظف الشاب بقولك: (ماذا فعلت - يا بني - بهذا الملف) فقال في هدوء: (يا سيدي، لقد انتهيت من فحصه وربطت عليه الضرائب، والأمر الآن في سبيل التنفيذ). فقلت أنت: (ولكني أريد أن تجيل بصرك ورأيك فيه مرة أخرى، لأن التاجر يشكو عنت المصلحة وغلوها فأجابك (لا سبيل إلى ذلك، فالعمل من ورائي يستحثني وقد خلصت من هذا الأمر منذ زمان) فقلت له في غلظة (ولكنني آمرك) فنظر إليك الموظف الشاب في احتقار ونفضك في مهانة ثم قال لك (تأمرني، نعم، لأنك رئيسي، ولكنني لن أطيع أمرك) فنهرته في شدة قائلاً (ماذا؟ ماذا تقول؟ كيف؟ إنني آمرك ولابد أن تطيع) فألقى الموظف الشاب أوراقه على مكتبك وخرج من لدنك وهو يقول (هذا هو الملف خذه، افعل به ما تشاء. أما أنا فسأعرض الأمر على سعادة المدير العام!) وسقط في يدك، يا صاحبي، حين ألقى الموظف الشاب عليك درساً عنيفاً قاسياً لن تنساه أبداً، لأنه أمتهنك أمام التاجر الأجنبي ولأنه سخر من أمرك وعبث برغبتك، فما فاستطعت أن تفعل شيئاً.

الآن برح الخفاء واستحالت الهمسات إلى كلام يسمع، تتناقله الألسن في نواحي المصلحة ويتشدق به صغار الموظفين، فما لبث أن بلغ مسمعي المدير العام. وذعر المدير للخبر وعجب أن يرتدغ في هذه الحمأة موظف في المصلحة ذو رأي ومكانة. وتحدث إليك بالأمر فما استطعت أن تنكر وأمامك الموظف الشاب يرمقك بنظرات يتطاير الشرر من خلالها. وترفق بك المدير فأرغمك على أن تترك المصلحة كلها في أقرب وقت.

ولفظتك المصلحة لتلقي بك في زاوية من وزارة المالية وان رائحة النتن لتفوح من بين مخا زيك، وأصبحت مفتشاً بالمالية. والمفتش في رأي الحكومة موظف واهي الهمة أو وضيع الكرامة لا يستطيع أن ينهض بعمل ولكنه يعتاص عليها أن تقذف به إلى الشارع لأن القانون يحميه، وهو - دائماً - يكتب التقارير لتلقى في سلة المهملات.

والآن، يا صاحبي، لقد انثلمت كرامتك ولوثت الأقذار ذكرك من اثر الإدمان على الخمر، ولكنك ما تزال تأنس إلى الشراب وتطمأن إلى الكأس، فعمى بصرك عن حاجات البيت فهذه زوجك تضيق بك لأنك تنفق جل مالك في التافه الوضيع وتغضي عن رغبات نفسها، ولأنك - دائماً - محطم الأعصاب ثائر النفس كثير الشغب في المنزل وفي الديوان وفي الشارع. وإن أولادك ليفتقدون عطفك أحوج ما يكونون اليه، ويفتقدون مالك حين يحسون الضياع والشقوة وإن شهواتهم لتدفعهم إلى اللباس الأنيق والطعام الشهي والى الحلوى واللعب فلا يجدون شيئاً منها، ويفتقدون عقلك حين تترنح في فناء الدار من أثر الخمر، ويفتقدون الهدوء حين يعج المنزل برفاق السوء.

فهل تستشعر - يا صاحبي - اللذة في الكأس أو تلمس السعادة في الشراب؟ إن قلبي يرثي لحماقتك وإن نفسي تساقط حسرات لجهلك، لأنني عرفتك يوم أن كنت فتى متوقد الذكاء راجح العقل قوي الحجة تفور شباباً وقوة وجمالاً. . .

كامل محمود حبيب