مجلة الرسالة/العدد 838/القصص

مجلة الرسالة/العدد 838/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 07 - 1949



قصة من لبنان

رفيق علام

(مهداة إلى الصديق الأستاذ أنور المعداوي)

للأستاذ سهيل إدريس

كانت تشدني إلى رفيق علام صداقة مخلصة وثقت أواصرها خمسة أعوام تلازمنا فيها تلازم الظل وصاحبه، فلم يكن عجباً أن أدرك من شأن رفيق، ويدرك هو من شأني، مثل الذي يتاح للأخ من أخيه. وقد كانت طبيعة عملنا التجاري الواحد، وتجاورنا في السوق بيسر أن لنا اللقاء، كلما وجدنا من وقتنا سانحة. وكنا إلى ذلك نتواعد على قضاء سهراتنا في الملاهي، فيجد كلانا أن صاحبه أقرب إليه من نفسه.

والحق أن صديقي رفيق كان شاباً وسيما جذاب الملامح، ممشوق القامة، تحسبه إذا ما رأيته من أولئك الذين يختارون اختياراً لتمثيل الأفلام السينمائية. . . وكانت الملابس - إذا ما ارتداها - تكتسب أناقة ليست هي من طبعها، فتجتذب إليه أنظار النساء قبل الرجال.

وكان يسعدني أن يجد رفيق فيّ وأجد فيه مستودعاً ينفض كلانا عنده ذات نفسه، فكنا نتعاون على شؤوننا ونتبادل المشورة في الشجون، حتى لم يكن أحدنا يحبس عن صاحبه خبيئة، وقد أتيح لي بفضل ذلك أن أقف من حياة صديقي على نفسية شاب تعد نموذجاً بشرياً في حياة الناس.

لقد تابعت عن كثب قصة حبه الأول، ذلك الحب الذي كانت بطلته فتاة أقسم أني لم أر أجمل منها في النساء اللواتي أعرف وأرى. وقد عاش رفيق هذا الحب بكل ما في أرادته من طاقة الحيوية وبقصارى ما تنطوي عليه جوانحه من رصيد الشباب وحميا الفتوة؛ ثم تحطمت كأس الحب في يده ذات يوم لشدة ما عصرتها أصابعه، فخرج من ميدان المعركة مثخناً بجراحات دامية، لا يكاد يملك وعيه من فرط ما كانت تورث في نفسه من الآم. ولما اندملت الجراحات حسب أنه شفى، وأن بوسعه أن يستأنف طريقه أثبت قدماً، وآمن غاية.

ولقد سلك هذه الطريق حقاً، ولكني رأيته يتهاوى على الجانبين، فأدركت أن آثار الصدمة لا تزال تفقده توازنه.

كنت أعرف الأثر الذي تركه حب (مها) في قلبه وكيانه ونفسه. كنت أعرف عمق هذا الأثر؛ فلم يكن بدعاً أن يبدو أعمق منه جرح خيانتها إياه، في أعنف فترة من فترات حبه. وقد بلغ من شدة هذه الصدمة أن رفيق لم يحدثني عن الخيانة إلا مرة واحدة بكلمات قليلة مقتضبة، كأنما كان يرغب في أن يوفر على نفسه العذاب الشديد الذي تبتعثه ذكراها. . .

ومنذ ذلك اليوم، تبدى لي صديقي كالشبح التائه الحائر، يسير دون أن يعين مقصداً ومن غير أن يستشرف محجة. كان كهؤلاء الذين كتب عليهم أن يقضوا حياتهم هائمين سادرين، في طريق ضالة، يتناولون الأحداث كما تأتي، ولا يفكرون بغير اللحظة التي يحيون.

على أن شيئاً من ذلك لم يكن ليبدو في ظاهر الحياة التي يسوقها صديقي. . . بل لقد كانت آثار السعادة وآيات الرضى والمرح بادية على وجهه، حتى تحسبه قد طرح عنه هموم الدنيا وتدرع باللامبالاة واتخذ من الحياة كلها أداة لهو ومتعة. . . أفيكون هذا رد فعل عنيفاً للصدمة النفسية التي حطمت أعصابه وأوهنت قواه؟

ولعل أعجب ما في أمره أن سعادته تلك كانت تتجلى أكثر ما تتجلى إزاء مبعث شفائه الغامض ومصدر ألمه المكنون. . . إزاء المرأة نفسها. . . سعادة ترتسم بسمة على ثغره لا تفيض، ومرحاً في عطفه لا ينفذ.

وكنت كلما لقيته أستمع إليه يحدثني عن مغامراته فيصدفني الحديث، فلا أعجب من أن تقبل عليه الفتيات كلفات بحبه شديدات الإعجاب بشبابه، وكان هذا يتيح له أن يحظى من المرأة بما تمتنع عن بذله غالب الأحيان.

وقد كنت موقناً أن صديقي يطلب في المرأة أول ما يطلب الجمال الفاره، والفتنة الطاغية، وكان سرعان ما ينصرف عن الفتاة التي لم يجد عليها القدر بحظ بالغ من الجاذبية والحسن. وقد عرفني ذات مساء بفتاة في متجره ظلت صورتها مطبوعة في عيني طوال تلك الليلة، ولم أستطع أن أخنق شعور الحسد الذي داخلني منه! كانت (سميرة) - وهذا هو أسمها - ذات عينين تنفثان السحر، وملامح تعجز يد فنان النابغ عن أن تخط مثلها في الدقة والانسجام، وقامة نحتت في قالب صناع.

وأقبلت على رفيقي في اليوم التالي أسائله؟ - إنها لجديرة بك حقاً. . . فما تنوي أن تفعل؟

فانتفض يقول: - أتزوجها؟ أهذا ما تعنيه؟

فأومأت برأسي إيجاباً، فإذا هو يصمت لحظات؛ ويرنو إلى بعيد فلا أرى في عينيه غير الشرود. إنه لم يفكر في هذا من قبل، وها هو ذا غير مطمئن ولا مستقر، كأنما كانت تخيفه فكرة الزواج.

وكان هذا شأنه أيضاً يوم سألته لماذا لا يخطب ابنة عمه التي كانت تهوى إليه بكل ما في كيانها من حب، وكانت تنعم بحظ وافر من الجمال والأناقة والثقافة. . . وقد حدثني هو نفسه عنها، ولم يخف علي أنه معجب بها، وأنه سعيد في أن يشعر نحوها بالحب، ولكني إذ جابهته بفكرة الزواج، ألقيته يعود إلى حيرته وتردده، كأنما لم يكن له الخيار في أمره. . .

على أن صديقي أخفى عني أمراً واحداً، هو أنه كان على علاقة بفتاة ثالثة لم يحدثني عنها لحظة، وقد رأيته في صحبتها غير مرة في مطعم أو ملهى. . . وفاجأته ذات مساء بذكرها فعراه الارتباك، ثم أخذ يضحك قائلاً:

- لم أحدثك عنها خجلاً منك. . . إنني أبالغ حقاً في علاقاتي مع النساء!

- فبادلته ضحكته، ولكني لم أجرؤ على مصارحته بأني بت أخشى عليه كلُّ الخشية، وإني أود لو يقر في حياته على قرار. . . هكذا كان رفيق: تحسبه إذا رأيته سعيداً مرحاً راضياً، فإذا أحببت أن تكشف عن دخيلته، ألقيت فكره وحسه غارقين في أمواج متلاطمة من الحيرة والشك والاضطراب.

لقد كنت أقرأ في عينيه أن شقي في أعماقه، وأنه لا يدري هو نفسه ما الذي يريد. وكان هذا الاضطراب مسطراً في نظراً الشاردة التي لا تستقر على معنى. . . بل كنت ألاحظ أنه كان يحاول جاهداً أن يتفادى النظر في عيني والتحديق بهما، كأنما كان يخشى أن اشرف من عينيه على عالمه النفسي المتهافت. . .

ولم أجد آخر الأمر مناصاً من أن أجابهه برأيي الصريح، فانتهزت فرصة أدركت أنه كان متهيئاً فيها للبوح والبث، وساءلته بلهجة لا تخلو من تعنيف:

- إلام تنتظر يا رفيق؟ ألست راغباً في أن تستقر بحياتك على قاعدة؟ أنك الآن في فجر شبابك، وإن بيدك المال وافراً، فلماذا لا تتزوج إحدى فتياتك الثلاث، وكلهن رائعات الحسن، فتحظى بالطمأنينة التي تفتقر إليها؟

وحاول أن يضحك وأن يعمد إلى المزاح، ولكن سرعان ما انقبضت أسارير وجهه ونظر إليَّ بإحداد، ثم قال بعصبية:

- لا. . . لست أطمع في واحدة منهن. . . إنهن لسن جميلات. . . وأنا لا أحب إحداهن ولست أرغب في الزواج.

وحين حاولت أن أظهر له خطأ نظرته إلى جمالهن قاطعني يقول:

لا. . . ليست واحدة منهن في مثل جمال (مها) ويخيل إليَّ أني لن ألقى بعد الآن فتاة جميلة مثلها، وإني سابقى أبد الدهر أعزب.

وكان هذا كلُّ ما نطق به تلك الليلة، ثم أنصرف عني، على شدة رغبتي في أن أستمع إليه وألتمس المزيد مما يشجيه. . . والحق أن هذه العبارات اليسيرة كانت غامضة لم تحسر لي عن طوايا نفسه. وكل ما خلته ساعتذاك أن امتناعه عن التفكير بالزواج عائد إلى هذا الخوف الغامض الذي تمتلئ به نفسه من الخيانة. . . ومن المرأة. . . ومن الجمال. . . ومع ذلك فهو لا يلتمس غير المرأة وغير الجمال! إنه دون ريب لا يعي هذا الخوف، ولو كان يعيه لما غرق في هذه الحيرة التي تجعله تائهاً في خضم الحياة. . .

ثم وقع صديقي رفيق ذات يوم يرم فجأة في مرض أقعده زهاء ثلاثة أسابيع في داره. وقد عدته في هذه المدة غير مرة، وكان يشكو (الدوسنطريا)، ولكني أيقنت أن مرضاً نفسياً هو الذي أودى بصحته، وإنه كان يشكو عقدة توهن قواه.

وفي تلك الفترة، عادت جراحات الذكرى تدمي روحه وضميره وترهق أعصابه، ثم صارحني بعزمه على أن يهجر البلاد ويسافر إلى أوربا. فإذا وجد راحة لنفسه استقر فيها، وإلا عاد بعد أن يكون قد التمس من العزاء والتفريج قدراً كافياً للانطلاق في طريق جديدة من طرق الحياة.

ولم أجد أنا مبرراً لأن أقنعه بالبقاء، بل لقد شعرت بأن عليَّ أن أحثه على مغادرة الجو الذي فجع فيه بعاطفته البكر، فلعله إذ يبتعد عنه يسلو ويتعزى. . . ولعله يجد هناك - في أوربا - المرأة الجميلة الرائعة التي تمحو من قلبه ونفسه صورة الفتاة الأولى التي يخيل إليه أنه لن يلقي أجمل منها. . .

وكأن هذا العزم أزال طرفاً من الحيرة التي كانت تقلق حياة رفيق، فإذا البشر يعاوده، وإذا سيماء المرح تشيع على محياه، وإذا هو يشفى من نكسته في وقت يسير، ويأخذ يعد عدته للسفر إلى بلاد الغرب.

ولكنه ما لبث أن فاجأني يوماً بأنه قد عدل عن السفر، وأنه لا ينوي أن يغادر بيروت. وحين سألته تعليل هذا الانقلاب، دعاني إلى تناول الغداء معه ذلك اليوم، ووعدني أن يزيل فضولي إذ أوافيه إلى داره عند الظهيرة. وجعلت أترقب حلول موعد اللقاء، وبي عجب لا ينفضي، ورحت أتساءل: لعل رفيق لقي فتاة حظي جمالها من إعجابه بما لم يحظه جمال سابقاتها الثلاث! أو لعل (مها) نفسها عادت إليه تستغفره، فصفح عنها، واستسلم لجمالها الطاغي؟. . .

وظللت في حيرة وتساؤل شديدين حتى بلغت داره عند الظهر فاستقبلني بترحاب لم أعهده منه، وما عتم أن دلف بي إلى غرفة الطعام. . .

وسرعان ما لا حظت أن المائدة كانت قد أعدت لثلاثة أشخاص، وابتسم رفيق إذ أدرك أني لاحظت ذلك. . . ولكنه امتنع عن أن ينغم بحرف.

وإن هي إلا برهة وجيزة حتى قطع صمتنا وقع خطى متجه إلينا، وقبل أن يتاح لي أن ألتفت إلى مصدر الصوت، كان رفيق قد نهض مرحباً. . .

وحين عدت إلى الجلوس، بعد أن جلست هي. . . كنت ملتاث الحس، مختلط الذهن، أكاد لا أميز معاني الأشياء.

لقد كانت هي. . . علياء، خادمة رفيق. . .

يا إلهي. . . إنها هذه الفتاة التي لم تكن تمتاز بأي حظ من الجمال. . . هذه الفتاة التي كانت تخدمه في إبان مرضه، فلم أكن أوليها نظرة من نظراتي. إنها خادمته. . . خادمته. . .

وانتزعني هو من وهدة التفكير المضنى، حين سمعته يقول لي:

- إنها علياء. . . وقد عرفتها ولا ريب. . . لقد خطبتها أمس.

وكنت مطرقاً ببصري إلى المائدة لا أرفعه إليه، حتى رأيت يده تمتد إليَّ منبسطة تبغي المصافحة، وسمعته يسألني:

- ما بالك. . . ألا تهنئني يا صلاح؟

وسرعان ما أحسست بكفي تمتد إلى كفه، فتصافحها، ثم تشد عليها بحرارة، بينما كنت أتطلع في عينيه.

لأول مرة منذ عرفت رفيق، قرأت في عينيه الطمأنينة والاستقرار.

(بيروت)

سهيل إدريس