مجلة الرسالة/العدد 838/من كتاب قصور العرب:
مجلة الرسالة/العدد 838/من كتاب قصور العرب:
الخَوَرْنَقْ
للأستاذ كاظم المظفر
إن من يتجول في جهات العراق، ويطلع على آثاره التاريخية المنتشرة في أنحائه وزواياه؛ تلك الآثار التي تشير إلى ما كان لهذه البلاد من الماضي المجيد، والحضارة الزاهية، وما بلغته في تلك العصور من الرقي والعظمة، والفن والذوق؛ وخاصة من الناحيتين - المعمارية والزراعية - بما هو جلي في معالمها التي صارعت الدهور، وبارزت الخطوب، وتمردت على الجائرين والعابثين، وأبت إلا أن تستمر على ما قطعته على نفسها من العهود، تسامر النجوم، وتضاحك الشمس، وتماشي الخلود. . . ولا يستكثر على العراق الذي يسميه المؤرخون (مهد الإمبراطوريات) إذا ضمَّ بين أطباقه من النفائس الأثرية ما كان من الأهمية من الدرجة الأولى، وفي طليعة نفائس العالم. . . وقد شاهدنا مواقع مهمة من هذه الآثار في سامراء القديمة، وفي الحيرة، وفي القادسية، وفي بابل وأور، وهي لا تفتأ تناطح الزمن، وتصمد للحوادث غير عابئة بهجمات العواصف ولا مكترثة بزعازع الأنواء. آثار قيمة وكنوز ثمينة؛ تتمثل فيها عظمة الأجداد وفخر الأسلاف.
ولما عاد الأستاذ البحاثة (وولى) إلى لندن بعد أن تولى الحفر في أور للسنة الخامسة قال في حديث له: (نعلم اليوم أن حضارة العراق كانت في درجة رفيعة حينما كان سكان مصر القدماء في حالة الهمجية) ولا يبعد ذلك فإن الآثار التي نراها ونشاهدها والتي عثر عليها حتى الآن لتدل دلالة واضحة على ما كان عليه العراق سابقاً من تقدم في المدنية ورقي في الحضارة.
أما الحيرة فقد أشتهرت بحضارتها الواسعة، وملوكها الذين أسسو المدن حين توسعوا في ملكهم، وامتد سلم إلى بعيد، فشيدوا القصور الشامخة، وأقاموا الصروح والعمارات العالية المشمخرة التي تعلوها الشرفات، الحدائق الغناء، والرياض الزاهرة. . وقد سارت بذكر قصة الركبان، وتغنى الشعراء بخورنقها وسديرها، وأنشدوا القوافي لحيانها وأبيضها. . وفيها يقول عاصم بن عمرو.
صبحنا الحيرة الروحاء خيلاً ... ورجلاً فوق أثباج حضرنا في نواحيها قصوراً ... مشرفة كأضراس الكلاب
وكان لقصور الحيرة شأن خطير وأحاديث طويلة، دونها التاريخ فأعطانا صورة واضحة عما بذله أولئك الملوك والأمر من جهود جبارة في تشييدها وإقامتها. كما سنرى ذلك فيما.
ومن أشهر قصور الحيرة (اَلخوَرْنقْ) الذي عقدنا هذا الفصل للتحدث عنه. وهو قصر يقع بظهر الحيرة بالقرب منها مما يلي الشرق على نحو ميل أو في شرقي الحيرة في الطريق بينها وبين النجف، وكان على نهر يسمى بأسمه. وقد تجاهل الأستاذ درويش المقدادي قصر اَلخوَرْنقْ وموقعه وآثاره الظاهرة فقال: وفي جنوبي النجف اليوم تل يقال له اَلخوَرْنقْ لعله من آثار المناذرة.
وقد اختلف المؤرخون اختلافاً كبيراً في أصل هذا الاسم ومعناه الأوَّلى الذي اشتق منه، فذهب الخليل إلى أنه عربي الاشتقاق من الخرنق ومعناه الصغير من الأرانب. وارتأى البحاثة الألماني (نلدكة) أنه حرف من العبرية الربانية بمعنى المزرعة والعريش. وذهب (أندريا) أنه إيراني من (كوورنة) بمعنى ذي السقف الجميل. وقيل أنه معرب من (خورنكاه) أي موضع الأكل والشرب. وقيل بل تعريب (خور نقاه) أو على الأصح (خانقاه) وهو الموضع الذي يؤكل فيه ويشرب وإلى هذا المعنى الأخير تميل كفة الرجحان عند معظم الباحثين واللغويين.
وكما اختلف في أسم القصر فقد اختلف أيضاً في بانيه فقال ابن السكيت: اَلخوَرْنقْ بناه سنمار للنعمان الأكبر الأعور السائح ابن امرئ القيس وإلى هذا القول ذهب الهيثم بن عدي فقال: إن الذي أمر ببناء اَلخوَرْنقْ النعمان ابن امرئ القيس بن عمرو. وقال الكلبي: صاحب الخورنق والذي أمر ببناء بهرام جوز بن يزد جرد بن سأبور ذي الأكتاف؛ وذلك أن يزدجرد كان لا يبقى له ولد، وكان قد لحق ابنه بهرام جوز في صغره علة تشبه الاستسقاء فسأل عن منزل صحيح ليبعث بهرام إليه خوفاً عليه من العلة، فأشار عليه أطباؤه أن يخرجه من بلده إلى أرض العرب فأنفذه إلى النعمان وأمره أن يبنى له قصراً مثله على شكل الخورنق فبناه له وأنزله إياه. وقال المسعودى في حديثه عن ملوك الحيرة: وملك الحيرة بن النعمان فارس حليمة وهو الذي بني اَلخوَرْنقْ. . .
ولما فرغ سنمار من بناء الخورنق عجب النعمان من حسن بنائه وإتقانه فأمر أن يلقي سنمار من أعلاه حتى لا يبني مثله لأحد. ويقال إنه إنما فعل ذلك به لأنه لما أعجبه شكره على عمله ووصله، فقال: لو علمت أن الملك يحسن إليَّ هذا الأحسان لبنيت له بناء يدور مع الشمس كيفما دارت، فقال له النعمان: وإنك لتقدر على أن تبني أفضل منه، ولم تبنه! فأمر به فطرح من أعلاه. وقيل: بل قال: إني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله. فقال النعمان: أيعرفها غيرك؟ قال: لا. فقال لأدعنها وما يعرفها أحد؛ ثم أمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع. ويقال إن الذي قذف بسنمار أحبحة بن الجلاح بعد أن فرغ من بناء أطم له وهذا القول ضعيف بالنسبة إلى أغلبية أقوال المؤرخين فيما نقلناه أولاً.
والعرب تضرب المثل بفعل النعمان مع سنمار في المكافأة على الفعل الحسن القبيح. فيقال: جازاه مجازاة سنمار. وفيه يقول بعض الشعراء:
جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رمه البنيان ستين حجة ... يعل عليه بالقراميد والسكب
وقال أبو الطحان القيني في قصة سنمار:
جزاء سنمار جزوها وربها ... وباللات والعزى جزاء المكفر
وقال سليط بن سعد:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار
وقال آخر:
جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
وقال يزيد بن إياس النهشلي:
جزى الله كمالاً بأسوء فعله ... جزاء سنمار جزاء موفرا
وكان النعمان هذا قد غزا الشام مراراً، وكان من أشد الملوك بأساً؛ فبينما هو ذات يوم جالس في مجلسه في اَلخوَرْنقْ إذ أشرف على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المشرق، واَلخوَرْنقْ مقابل الفرات يدور عليه على عاقول كاَلخوَرْنقْ فأعجبه ما رأى من الخضر والنور والأنهار، فقال وزيره: أرأيت مثل هذا المنظر وحسنه؟ فقال لا والله أيها الملك ما رأيت مثله لو كان يدوم. قال. فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة. قال: فيم ينال ذلك؟ قال: بترك هذه الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده. فترك ملكه في ليلته ولبس المسوح، وخرج مختفياً هارباً، ولا يعلم به أحد؛ ولم يقف الناس على خبره إلى الآن. وفي ذلك يقول عدي بن زيد:
وتبين رب اَلخوَرْنقْ إذ أش ... رف يوماً وللهدى تفكير
سره ما رأى وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضاً والسدير
فارعوى فلبه وقال فما غب ... طة حي إلى الممات يصير
وقد أكثر العرب من ذكر اَلخوَرْنقْ في أشعارهم وصار مضرب أمثالهم ولم يتصدوا لوصفه وصفاً مسهباً. غير أن المؤرخ يستنتج من أقوالهم أنه كان طرفة من طرف البناء جامعاً بين العظمة وبهاه الزخرف وروعة الموضع. وجاء في كتاب (البرهان القاطع) مادة سنمار: إن السنمار البناء الرومي بنى اَلخوَرْنقْ وأجاد في صنعة كلُّ الإجادة، حتى أن القصر الذي بناه كان يتلألأ ليلاً ونهاراً بالألوان المتنوعة نظير أبى قلمون، فكان يظهر صباحاً أزرق وظهراً أبيض وعصراً أصفر. وفي ذلك خطاب شريح القاضي للضحاك بن قيس: يا أبا أمية أرأيت بناء أحسن من هذا؟ قال: نعم السماء وما بناها.
وفي الروايات أن بناء اَلخوَرْنقْ دام ستين سنة فكان يبنى سنمار السنتين والثلاث، ويغيب الخمس سنين وأكثر من ذلك، فيطلب فلا يوجد؛ ثم يأتى فيحتج حتى فرغ من بنائه. ولا يخفى على القارئ المحقق ما في هذه الروايات من المبالغة القصصية، وما عليها من مسحة الافتعال؛ لأننا إذا دققنا النظر في زمان ملك النعمان نرى أنه حكم تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر، فكيف جاز أن تستغرق مدة بنائه ستين سنة مع أن ملك النعمان الذي أمر ببنائه لم يتجاوز الثلاثين بعد أن قتل سنمار وبقي في القصر مدة طويلة.
ومما كان يزيد هذا الجوسق بهاء وروعة موقعه الطبيعي الفتان، فكان يشرف على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار. وكان البحر تجاهه، وفيه الملاحون والغواصون والحوت، وخلفه البر وفيه الضب والظبي، ويقابل الفرات فيدور عليه على عاقول كالخندق ولهذا افتتن المؤرخون والشعراء بهذا القصر وهاموا في الإشادة بذكره فقال المنخل اليشكري من قصيدة:
ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير فإذا سكرت فإنني ... رب اَلخوَرْنقْ والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
وقال الأسود بن يعفر النهشلي:
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد أياد
أهل اَلخوَرْنقْ والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
وقال المتلمس للمحرق عمر بن هند مهرط الحجارة:
ألك السدير وبارق ... ومرايض ولك الخورنق
وقال ابن كناسة:
الآن حين تزين الظهر ... ميثاؤه وبراقه العقر
بسط الربيع بها الرياض كما ... بسطت قطوع اليمنة الحمر
وجرى الفرات على مياسرها ... وجرى على أيمانها الزهر
وبدا اَلخوَرْنقْ في مطالعها ... فرداً يلوح كأنه الفجر
وقال سلامة بن جندل:
ألا هل أتى أبناءها أهل مأرب ... كما قد أتى أهل النقا واَلخوَرْنقْ
وقال الأعشى:
ويجبى إليه السيلحون ودونها ... صربفون في أنهارها واَلخوَرْنقْ
وقال الثرواني:
يا دير حنة عند القائم الساقي ... إلى اَلخوَرْنقْ من دير ابن براق
وقال الثراوني أيضاً يصف دير مارت مريم:
بمارت مريم الكبرى ... وظل فنائها فقف
فقصر أبي الخصيب المش ... رف الموفى على النجف
فأكناف اَلخوَرْنقْ والس ... دير ملاعب السلف
إلى النخل المكمم والحم ... ائم فوق الهتف
وقال ابن المولى:
موركة أرض العذيب وقد بدا ... فسر به للآئبين اَلخوَرْنقْ وقد بقى اَلخوَرْنقْ إلى عهد الفتح الإسلامي حين دالت الحيرة بدخول القائد خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ونزوله باَلخوَرْنقْ.
وقال في ذلك عبد المسيح بن بقيلة:
أبعد المنذرين أرى سواماً ... يروِّح باَلخوَرْنقْ والسدير
تحاماه فوارس كلُّ حي ... مخافة ضيغم عالي الزئير
وأنشد علي بن محمد العلوي الكوفي الحماني:
سقياً لمنزلة وطيب ... بين اَلخوَرْنقْ والكثيب
بمدافع الجرعات من ... أكناف قصر أبي الخصيب
دار تخيرها الملو ... ك فهتكت رأي اللبيب
قال الحماني أيضاً:
فيا أسفي على النجف المعرى ... وأودية منورة الأقاحي
وما بسط اَلخوَرْنقْ من رياض ... مفجرة بأفنية فساح
وقال أيضاً:
كم وقفة لك باَلخوَرْنقْ ... ما توازى بالمواقف
بين الغدير إلى السد ... ير إلى ديارات الأساقف
وقد بقي هذا القصر عامراً - كما ترى من أقوال الشعراء فيه - بعد الفتح الإسلامي وتخطيط الكوفة زمناً؛ وإن كلاً من ولاة الكوفة أحدث فيه شيئاً من الأبنية ومنهم الضحاك ابن قيس بنى فيه مواضع وبيضه وتفقده. وقد سكنه الأمراء العباسيون، وبقي قائماً إلى القرن السابع الهجري، ومفاد ذلك ما جاء في مراصد الاطلاع: والمعروف أنه - أي اَلخوَرْنقْ - القصر القائم إلى الآن بالكوفة بظاهرة الحيرة. بل ظل عامراً إلى القرن الثامن الهجري وذلك حين ذكره محمد بن بطوطه في رحلته المشهورة إذ قال: ولما تحصلت لنا زيارة أمير المؤمنين علي عليه السلام سافر الركب إلى بغداد وسافرت إلى البصرة صحبة رفقة كبيرة من عرب خفاجة وخرجنا من مشهد علي عليه السلام فنزلنا اَلخوَرْنقْ موضع سكنى النعمان بن المنذر وآبائه من ملوك بني ماء السماء وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة في فضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات. . . أما ما جاء في المعلمة الإسلامية مادة خوَرْنقْ من أنه أصبح خراباً في القرن الرابع عشر للميلاد فليس بصحيح لما قدمناه من قول ابن بطوطه والحنبلي صاحب مراصد الاطلاع.
وفي أواخر القرن الثالث عشر الهجري أرادت الحكومة العثمانية إنشاء سراي وثكنة وأنبار (مخزن) لواردات الخزينة العينية فأوعزت ولاية بغداد إلى حكومة أبي ضمير أن تشرع بهذا العمل فلم يكن من تفكير قائمقام أبي صخير العثماني في إنشاء هذه البنايات إلا القضاء على قصر اَلخوَرْنقْ هذا الأثر العربي القديم فأمر بهدم ما كان مائلاً من جدرانه وقبابه ونقل تلكم الأحجار والأنقاض إلى أبي صخير وبنوا بها المواقع التي أشرنا إليها ولا زالت قائمة إلى اليوم. وحكى بعض الشيوخ أنهم وجدوا أثناء الحفريات في إحدى غرف اَلخوَرْنقْ المطلة على بحيرة النجف عصاً من الخشب الأسود وعليها نقوش وزخرف، ولما أخبر القائمقام وإلى بغداد بذلك أمره بإرسالها إلى بغداد، ومن ثم أرسلت إلى الأستانة بطلب من السلطان عبد الحميد.
وقد زرت موقع اَلخوَرْنقْ منذ أيام معدودة لقربه من مدينتي النجف، فوجدت آثاره ظاهرة بالقرب من نهر السدير أو ما يسمى اليوم بنهر كرى سعد، ويقع جنوبي النهر المذكور بمسافة قدرها (300) متراً تقريباً، ويبعد عن بدء آثار الكوفة الحادثة على عهد الإسلام بمسافة تقديرها ستة كيلو مترات، وعن بدء آثار مدينة الحيرة بمسافة قدرها أربعة كيلو مترات، وعن النجف (12) كيلو متراً أيضاً. وتقع آثاره على أرض رملية جافة مرتفعة ومتصلة بسلسلة مرتفعات طف الحيرة، ويبعد عن فضاء أبي صخير ستة كيلو مترات تقريباً من جهة الغرب، كما يبعد عن آثار مدينة الحيرة القديمة (كنيدرة) بمسافة تقدر بأربعة كيلو مترات تقريباً ويشرف على أرض منخفضة من أراضي الطف انخفاضاً يقدر بعشرين متراً تقريباً من جهة الجنوب الشرقي، ويطل على مناظر جميلة من الرياض الرحبة والبساتين والأنهر. وإذا توجهت إليه من جهة الجنوب تراه واقفاً على قمة جبل مرتفع وهو يتصل من جهاته الثلاث الأخرى بأراض سهلة من أراضي كوفان الرملية، فضاؤه رحب وهواؤه طلق، مبتعداً عن آثار مباني المدن شأو قصور الملوك، أما مساحة أثار هذا القصر فتقدر بعشرة آلاف متر مربع تقريباً بما في ذلك آثار المباني المندرسة والملحقة به والمرافق المتصلة فيه.
(النجف - العراق)
كاظم المظفر