مجلة الرسالة/العدد 839/دراسة الطفل
مجلة الرسالة/العدد 839/دراسة الطفل
من الوجهة النفسية الحديثة
للأستاذ فؤاد طرزي المحامي
بعد بحث وتنقيب دام حوالي النصف قرن قدمت لنا صورة عن طبيعة سلوك الطفل تختلف كل الاختلاف عن الصورة التي قدمها لنا الباحثون القدماء في ميدان التحليل النفسي. فقد قدم لنا العلماء الحديثون القواعد الأولى التي بنيت عليها الدراسات الجديدة، وإن النقاط الرئيسية التالية تلخص وجهات النظر الحديثة في ميدان الدراسات العلمية التجريبية، في علم النفس الحديث يقول:
1 - إن الطفل تركيب عضوي حي نام يتطور على شكل تحولات وتغيرات متناهية في الدقة من الخلية الأولى إلى التكوين العضوي المعقد الذي يؤهل الفرد للعمل وفق مستويات الراشدين. وفي ميدان هذا النمو والتطور يشرح العلماء خصائص الأعمال والتكوينات الجديدة، وعناصر التغيرات التي تتناول الحجم والشكل والتركيب، وصفات التغيرات التي تتناول مستوى الفعاليات وأوجه النشاط. كما أنهم يبحثون أيضاً في المبادئ الأساسية التي تحلل أساليب هذا النحو المستمر وأحواله وهذه الفعاليات النشطة.
2 - إن الطفل وحدة حية مستقلة بنفسها، تعمل بمفردها عملاً منظماً إزاء المواقف التي تواجهها. وهذه الخصائص الجزئية التي يتميز بها السلوك تحتاج إلى تأكيدات خاصة. وتثبت العلوم الكيمياوية والفيزيولوجية بأن الوحدات المنظمة تستطيع أن تنقسم إلى أجزاء متشابهة، وهذه الأجزاء تنقسم إلى أجزاء أصغر منها، وهكذا باستمرار. وبمقتضى هذا فإن القوانين التي تحكم هذه الوحدات المنظمة ستستمر في عملها بنوع من الدقة والتماثل ينتج أعمالاً منسجمة متحدة. وبما أنه لا الطفل ولا سلوكه يتجزأ هذا التجزؤ نفسه، فقد وجدت الصعوبات في ميدان التحليل العلمي للطفل من هذه الناحية، لأن كل الوسائل النفسية والأساليب القياسية التي استعملت لتحليل السلوك إلى وحدات نموذجية معينة قد اقتصرت على الأعمال التي يقوم بها التركيب العضوي بمجموعه. ولهذا السبب عندما نتكلم عن الذاكرة وعن التعليم وعن العاطفة، فإنما نتكلم عن أعمال سلوكية مستقلة صنفت وفق قواعد التماثل والتشابه، لأن هذه المظاهر ليست ظاهرة قائمة بذاتها، ولكنها جمعت مع بعضه لخصائصها الجوهرية المتماثلة، فكل نشاط يمكن أن يصنف تحت عدد من المراتب المختلفة، فإنما نفعل ذلك تسهيلاً لمهمتنا العلمية. ولهذا فإن نفس السلوك الواحد يمكن أن يصنف كإحساس أو كمعرفة أو كعاطفة أو كذاكرة. . . الخ. وهذه الوحدة في قوى النشاط الطفولي تستعمل إجراءات تبدو شاذة ولا تتصل اتصالاً مباشراً بالعلوم البيولوجية.
3 - إن الطفل يعيش في محيط لا يتميز هو نفسه لا بطابع الوحدة، ولا بمظهر البساطة، ويعمل باستمرار مؤثراً على سلوك ونمو الطفل. وإن نماذج الدوافع الفعالة تأتيه من خارج محيطه، وبعد ذلك - بصورة غير مباشرة - وبواسطة دفع ذاتي فيه، يختار من بين مظاهر محيطه ما يناسبه ويوافقه. ويظل هذا التبادل المشترك بين الكائن البشري وبين المحيط الاجتماعي الطبيعي مستمراً في جميع الأوقات. وبما أنه قد يحصل نوع من التثبيت والتوقف في النمو، فإن صنفاً من السلوك يتشكل ويتحدد، وإن النماذج النوعية السلوكية تتطور في ميدان البواعث المتحركة وفي ميدان النظام الذاتي الخالص. وإن بعض هذه البواعث تصبح بواعث محركة منتجة بسبب تأثيرها على مجرى النمو بالتجارب العلمية وبالعلاقات الاجتماعية مع الآخرين، بينما تبقى بواعث غيرها غير ذات تأثير، لأنها لم تؤثر في هذه العلاقات المتشابكة المتبادلة. وأما لماذا تصبج يعض البواعث مؤثرة، وتبقى غيرها، مؤثرة، فإن هذه مسألة لم يبت فيها نهائياً في الدراسات النفسية الطفولية.
4 - إن الطفل يبقى خاضعاً لعملية نمو مستمرة متتابعة، لا ترتد إلى الوراء ولا تقف. فلايمكن للبيئة ولا للعلاقات الطبيعية والاجتماعية أن تظهر مرة ثانية بنفس الشكل الذي ظهرت فيه في مرة سابقة، وذلك بسبب تجدد النمو وتجدد العلاقات المشتركة المتبادلة. إن السلوك في أية لحظة من اللحظات هو ثمرة تاريخ الطفل وتعبير عن باعث مؤثر معاصر. وعلى ضوء هذه القاعدة، فإن دراسة الأسباب المفردة والبسيطة يجب أن تستبدل ويستعاض عنها بدراسة البواعث المتجددة، والعلاقات المتبادلة، والتأثيرات النامية المتراكمة.
المشاكل النفسية للطفل:
ينقسم منهج العالم الذي يبحث في المشاكل النفسية للطفل إلى قسمين رئيسين مختلفين من ناحية البحث والعمل. فهو يبحث أولا عن قواعد عامة، أو مبادئ تنطبق على نماذج وأشكال كثيرة تعين على فهم السلوك وعلى السيطرة عليه والتكهن بمداه ونتائجه. وفي هذه العملية يتناول بحثه:
(أ) أعمال الكائن الحي الآلية، أو ما تسمى النوازع الذاتية الأصلية للكائن الحي نفسه التي توجه أعماله توجيهاً مستقلاً عن تأثير خاص يسببه شخص معين أو بيئة معينة.
التأثيرات التي يؤثر بها الكائن الحي على البيئة التي تحيط به، أو ما تتركه الكائنات الحية من مظاهر خاصة على العالم الخارجي الذي حولها.
(ج) التأثيرات التي تؤثر بها البيئة على الكائن الحي، ودراسة كيف يحكي تغيير السلوك وتكييفه البيئة التي ينمو بداخلها الكائن الحي. وأما القسم الثاني، فيتناول تفسير وشرح الظواهر، وهما الأمران اللذان يتمثلان تمثلاً رئيسياً في عدد من العلوم. فالعالم النفسي يحاول أن يفسر عملية النمو نفسها بنماذج متقاربة ومفهومة، إذ يشمل عمله أولاً أن يصنع القواعد العامة المشتركة بين جميع الأفراد. وفي هذا المجال توجد طائفتان من القواعد:
(أ) قواعد النمو التناسلي أو التكويني المتعارض أو المتقاطع.
(ب) قواعد النمو التناسلي أو التكويني الطولي.
ثم يقوم ثانياً بمهمة شرح وتفسير وفهم السلوك الفردي بحثاً عن الوحدة العامة بين أنواع السلوك. وفي هذا المجال يجب التمييز أيضاً بين أمرين:
(أ) ترتيب الأفراد حسب مستواهم.
(ب) شرح حالة الفرد شرحاً يتناوله كوحدة جامعة.
أعمال الكائن الحي الميكانيكية:
في كل نظام من الأنظمة تنجز فيه الأعمال بمجموعها ومتحدة نتائج معينة في مرحلة وزمن معينين يفترض العلم بأن هذا النظام يقوم على مبادئ منطقية، وأن هذه المبادئ تعمل مستقلة استقلالاً يتفاوت كثرة وقلة عن المجهودات الآلية للكائن الحي، وعن تأثيرات البيئة التي تحيط بهذا الكائن، وأن هذه المبادئ تعمل بصورة ميكانيكية مختلفة ومتعددة وفي بيئات مختلفة، فإذا عرفنا هذه المبادئ فهمنا سلوك الأفراد واستطعنا السيطرة على هذا السلوك، وان كنا لم نعرفها فلا نحصل على ما يسمى السلوك غير المفهوم. هذه هي - بصورة عانة - المبادئ الأولى في علم النفس، ومن استعراضها يظهر لنا بان التجربة أصبحت الأساس الفني لتنظيم الدوافع والعوامل والسيطرة عليها. لذلك فإن فهمنا يزداد وإنتاجنا يغزر كلما:
1 - رتبت الدراسات بشكل يسمح للدوافع والحوافز بأن تعمل بكل قواها لتجنب الانهماك بأجزاء صغيرة من العلافات موضوعة البحث.
2 - ونظمت الدراسات على أساس اتصال العوامل والحوافز وأشراكها.
3 - وأعطى اهتمام أكثر سواء عند وضع التجربة وتنظيم المبادئ، أو عند المباشرة في الدرس والبحث، إلى المبادئ المتشابكة وتوافقها مع البيانات الإيضاحية. ولذلك بدلا من إشاعة الاضطراب والفوضى في البحث باستعمال الأساليب التقليدية التي تخضع الكائن الحي لآراء متنوعة بدلاً من إخضاعه للطرق البيانية المستمدة من الوقائع والتجارب. وهناك مسألة أخرى - تجابهنا في حقل الدراسات النفسية لمشاكل الطفل - وهي اختلاف قابليات النمو، واختلاف الأعمار وتأثيرها على الآراء والتجارب، ثم درجة وطبيعة التغير بالنسبة لهذه الاختلافات في الأعمار والقابليات.
تأثير الكائن الحي على البيئة:
يجب أن ينظر إلى الطفل في أية لحظة من اللحظات كنموذج خاص، أو كنظام تركيبي مشغول في مواجهة البيئة الخارجية، وكلما تحرك إلى الأمام مع الزمن، فإن علاقته بالعالم الخارجي تتحدد في جانب منها بانفعالاته الخاصة، فإن الأطفال يختلفون اختلافاً كبيراً من ناحية الذكاء، والقابلية الموسيقية، والقدرة لإنتاجية، والقابلية الأساسية، والأحوال البيئية. فإذا أمكن ترتيب الأساليب حسب ما يمكن قياسه من هذه الخصائص مفردة ومجتمعة، فإنه يمكن فيما بعد تسجيل وتحديد وتعميم الإنجازات الفردية التي لوحظت بدرجات متقاربة. ولكن هذه الملاحظات جميعها قد أجريت - وهذا مما يؤسف له في قياس الذكاء - مع أنه ليس هناك ما يمنع من توسيع هذا القياسات لتتناول مجالات أخرى غير دراسة الذكاء وقياسه، إذ أن مواضيع علم النفس المقارن كتلك التي تتناول الفروق الجنسية والعنصرية من الممكن أن تؤدي إلى وضع تصميمات نافعة جداً إذا أمكن تصنيف الجماعات في المراحل الأولى وتبع ذلك دراستهم دراسة مثمرة. ومثل هذه الدراسات الآن غير كاملة تماماً لاختلاطها بالتأثيرات الطبيعية الكثيرة المزدحمة. ولهذا، ففي هذه الناحية يستعمل الفرد كنشاط متطور مستقل نام، أو ينظر إليه كبيئة نفسية يقوم هو نفسه ببنائها.
تأثير البيئة على الكائن الحي:
يقوم المجتمع عن طريق إرشاد وتدريب الأطفال بتكييف البيئات التي ينمو بداخلها الطفل، فالعالم يهتم بتكيف البيئات تكييفاً تجريبياً مقصوداً لاستكشاف المبادئ الرئيسية والإجراءات العملية التي يمكن استعمالها في تعليم وتدريب الأطفال.
وهنا تجابهنا مواضع كثيرة تتعلق بالأسلوب المنتج الذي يمكن الاستفادة منه في التعليم والتدريب. . . كيف يحدد مستوى المناهج؟ ما هي المواد التي يجب أن تدرس في الجغرافية مثلا؟ وهل الصور المتحركة والصور الحركية تساعد في تحسين نوعية التعليم؟ إن الدراسات التي تتناول تكييف البيئة تشمل في بعض الأحيان على دراسة العوامل والبواعث الموجهة كل على انفراد، بينما تشتمل في ظروف أخرى على رأسه نماذج معقدة جداً من قوى النشاط، ومن الواضح بأن التصميم التجريبي يتألف من تصنيف جماعات من الأطفال كل جماعة تتميز بعامل من العوامل موضوعة البحث، ويؤخذ بهذه الطريقة، لأن دراسة عوامل وبواعث بسيطة أسهل من تناول بحث يتألف من عناصر متشابكة ومتداخلة. وعلى كل يجب أن لا نفترض بأن المشاكل في هذا المجال تتمركز فقط حول مثل هذه العوامل والبواعث، إذ الحقيقة أن العامل الفرد ذا التأثير الواحد يعتبر حالة محددة من طرف واحد، وان البيئة مع كل تأثيراتها تعتبر حالة محددة من طرف آخر. ولذلك فإن هدفنا النهائي يتناول جميع العلاقات البيئية في جميع درجات الاشتباك والتعقد، فإن كافة البحوث في هذه الدراسات تنتهي بتعميم يعبر عنه باصطلاحات عددية، وبفروض تنبؤية، وبتحديدات معينة تطبق على الجماعات والأفراد. إن مهمة علم النفس في الماضي كانت تنحصر في جمع إنجازات السلوك والرجوع إلى الوراء للبحث عن العوامل المسببة. وهكذا يقارن تحت ظل هذا النوع من الدراسة بين الأطفال الحاذقين وغير الحاذقين، وبين الحسودين وغير الحسودين، وفي هذه الدراسات كذلك يعتبر (النموذج) النتيجة النهائية. وعلى كل فإنه إذا حصل تقدم في معارفنا عن الطفل، فإن البيئة يجب أن تصبح ظاهرة مستقلة متطورة، ويصبح السلوك نشاطاً متحولاً غير مستقل، وذلك بشكل يمكننا أن نتعرف على السلوك من دراسة البيئة لا التعرف على البيئة من دراسة السلوك. ولكن هناك في هذه الناحية صعوبات عديدة، فقد قام العلامتان شيرمان وهنري (1933) باختيار خمس بيئات متفاوتة حسب قربها وبعدها من المدينة، ثم قاسا بعد ذلك الأطفال، وفي النهاية فشلا في الوصول إلى نتائج واضحة قاطعة من وجهة نظر التعميم العلمي. ويعود سبب هذا الفشل إلى حقيقة أن أية بيئة توجد لمدة طويلة من الزمن ستجرب إخضاع أفرادها إلى نوع من التأثير البيولوجي الانتقائي. ولكن إذا ما رتبت سلفاً البيئات التي تختلف اختلافاً جوهرياً فيما بينها، ثم وزع الأطفال عليها توزيعاً متناسباً يمكن بواسطته السيطرة على العامل البيولوجي الانتقائي، فإنه يمكن الحصول على نتائج هامة.
وقد أمكن الحصول على تعميمات عديدة حول تأثير النظام والإدارة على الأطفال ومن دراسة الأطفال العاديين ومن شرح حالات البيوت التي يجيء منها الأطفال وشرح خصائص جيرانهم ومعارفهم. وعلى كل فإذا أمكن ملاحظة نماذج من البيوت المتباينة من ناحية الأنظمة السائدة فيها والمتشابهة من النواحي الأخرى، وأمكن كذلك قياس سلوك الأطفال، فمن الممكن الحصول على نتائج هامة أكبر. إن السؤال العلمي الدقيق في بحوث علم النفس الحديث اليوم ليس هو من أي بيت جاء الطفل الذي تبدو عليه متناقضات السلوك، بل هو: ما هي أنواع الحالات البيئية التي تعرض الأطفال لمتناقضات السلوك؟ لأن الانتقال في العصر العلمي الجديد من السلوك إلى البيئة أقل إنتاجاً من الانتقال من البيئة إلى السلوك.
فؤاد طرزي