مجلة الرسالة/العدد 839/صور من الحياة:

مجلة الرسالة/العدد 839/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 08 - 1949



يوم عيد. . .

للأستاذ كامل محمود حبيب

ما أشد وقعك - يا يوم العيد - على نفسي، لأنك قذى في عيني وشجى في حلقي وأسى في قلبي! فالدار خاوية من الأحباء تلفظني في غير هوادة ولا لين، والطريق خلو من الرفيق يدعني إلى غير غاية، والنفس خواء إلا من خطرات الحزن وخلجات الاسى، والقلب يحس لذع الوحدة فيلمس الجدب والامحال فيما حوله وإنه ليرى الدنيا أمامه تموج بالزهر النضير والفرحة المتوثية والعبث البريء والثوب الجديد. وهؤلاء أقاربي قد حبوني بالجفوة والقلى، فرق بيني وبينهم نهم المال وجشع الذهب فما أرى فيهم إلا العداوة والبغضاء وإلا الازورار والعبوس، وأخي. . . أخي الذي أحبه قد أوصد بابه من دوني لأنه أراد أن يكون واحداً من ذوي قرابتي. أما زوجي فقد فزعت عني لاختلاف في الرأي والثقافة وتباين في المشرب والبيئة، فخلعت رشدها واستنامت إلى حماقته فطارت إلى دار أبيها لتذرني وحيداً في يوم العيد. وأبنائي أين هم؟ إنهم لم يدرجوا - بعد - في فناء الدار فتمتلئ به حياة وبهجة، ويطفح في قلبي نوراً وضياء وتزخر نفسي هدوداً وسكينة. وجلست إلى نفسي أشكو بثي وأنا أشرف على الناس من حولي وهم يضطربون في لجة العيد، يرفلون في الجديد ويتدافعون إلى البشرى ويغتمرون في المرح. ووجدت لوحدتي حرقة ضاقت لها نفسي فترقرقت العبرات في محجري تريد أن تنهمر. . وشملني الخزي على أن أكون رجلاً لمعت في فوديه شعرات بيض علامة الرجولة والعقل، وتألقت في رأسه فلسفة الحياة، وكابد حلو العيش ومره؛ ثم استخذى لهذه الخواطر أو أتعبد للضعف الإنساني وآذاني أن أستسلم للوحدة فتصفعني مرة وتعكرني مرة ثم لا أستطيع أن أنفلت من بين مخالبها وإنها لتعصرني عصراً. وأهبت بشجاعتي فطرت عن الدار على أجد السلوى والراحة أو أجد متنفساً من همومي أو أنفض عن نفسي الشجن، فألفيت - آخر الأمر - ملجأ في مقهى من مقاهي القاهرة. وفي المقهى جلست إلى فنجان القهوة والسيجارة إليها أتحدث حديث ميراث ضئيل لم أطعم لذته بعد ولكني أدفع قطرات من دمي الحار أنزفها يوم العيد من خلال هموم تتوالى فلا تذرني إلا حطاماً. وغرقت في خضم الفكرة فاستولت مشاعري فما أحس مما يدر حولي شيئا. وغبرت ساعة فما عن شواغل نفسي غير رجل يطلب صدقة. وفي مقاهي القاهرة مفزعات تغضي عنها الحكومة فتنطلق من مكامنها في وضح النهار لتزعج الآمن في جلسته وتقطع خواطره وتؤذي نفسه. . . مفزعات منها ماسح الأحذية وأوراق النصيب و. . والشحاذ. ليت الحكومة تعرف أن القهوةمثابة يستجم فيها المرء من عناء أو يستريح من نصب، وليتها توقنبأن هذه الزمر من المفزعات وصمة في جبين البلد لا تستطيع يد أن تمتد إليها فتمحوها إلا يدها هي، ليتها تعلم، ليت. . واستقر الرجل إلى جانبي لا يريم فرفعت بصري إليه أنظر وعجبت أن رأيت أمامي شحاذاً في ثوب العيد وسمته، لعله هو أيضاً أن ينعم بفرحة العيد وسعادته! وهو رجل قد تخطى عمر الكهولة فبدا عليه أثر الضعف والهزال، ولكنه تجمل للأيام فهو حليق الذقن مفتول الشارب تفوح منه رائحة خفيفة لا يتنشاها إلا من أصاب قوة في حاسة الشم، وهو يرتدي بذلة إفرنجية أنيقة قريبة عهد بالكواء، وقميصاً أبيض ناصع البياض يزينه رباط رقبة أسود جميل، ويتألق على رأسه طربوش أحمر قان، وحذاؤه لامع نظيف. ووقف الرجل بإزائي في أدب يسأل في هدوء ويطلب في خضوع رغم أنه شديد الإلحاح صفيق الوجه. وراعني أن أرى هذا الرجل في زيه وهندامه يتكفف الناس في غير حياء وخجل، ولكن نفسي حدثتني قائلة (لعل ما ترى بقية عز باد من زمان!) فحبوته بعض عطفي ثم صرفته في لين. ونظر إلى النادل - وهو يعرفني منذ سنوات - نظرة ذات معنى وابتسم حين رآني أنفح هذا الشحاذ الأنيق بشيء من المال ورابني ما رأيت من النادل. فقلت لعل في الأمر حادثة أو متعة فناديته أريد أن أكشف عن الخبر، فقال: (أفلا منحت دراهمك - يا سيدي - لفقير تقتله الحاجة، أو مسكين تلح عليه الفاقة) ولكن الرجل يسأل الناس فما باله؟ وإني لأراه جميل الهيأة، أنيق المظهر، يسري في عروقه دم الشباب، وإن بلغ سن الشيخوخة؟) قال: (إن له حديثاً). قلت: (هات). فقال: هذا الرجل واهي الرجولة، ساقط الانسانية، وضيع الكرامة، وهو شحيح النفس، كز اليد، بخيل الجبلة يقضي نهاره بين مقاهي القاهرة يتكفف الناس في أدب ويسألهم في ذوق، يموه عليهم بخضوعه ويزور بمسكنته، يتخذ من ذلك مهنة يزجى بها الفراغ، وعملاً يقتل به الوقت، فلا يأوى إلى داره آخر النهار أو الليل إلا وقد امتلأت يده وفاض جبينه، ثم هو يحرم نفسه من كل ما أصاب فيقنع باللقمة ويرضى بالكسرة. . .

ولقد كان موظفاً في الحكومة أحيل على المعاش لبلوغه سن التقاعد، سن الستين. والحكومة تلفظ الموظف حين يصيبه الكلال من أثر الكبر والشيخوخة، ولا تطرده إن انحلت أخلاقه واتضعت كرامته وتمزقت إنسانيته. وهي تطلب من ذي العمل الشريف أن يحصل على رخصة، فترهقه في الطلب وتسد عليه المسالك وتضيق الخناق، ثم تذر صاحب المهنة الوضيعة يتقلب في الشوارع كيف يشاء. وهي - دائماً - تزعج التاجر في متجره أو الصانع في مصنعه، تكلفه الشطط وتحمله الرهق، على حين تطلق العنان للشحاذ يستلب الناس من أموالهم في غير رقبة ولا حذر. إن أخي - يا سيدي - خياط، دفعه الأمل إلى أن يفتح دكاناً عسى أن يصيب منه قوت عياله، وطمع أن يدر عليه إخلاف الرزق بعد عسرة، فانحطت عليه وزارة الصحة ومصلحة العمل في وقت معاً، حتى أرغمته أن يغلق الدكان بعد أن سار شوطاً فيه التوفيق والنجاح. فماذا ترى؟ لعل الحكومة تريد أن تقول للعامل الشريف: كن عاطلاً. وتقول للشحاذ: تمتع كيف تشاء! هذا الرجل أحيل على المعاش، وإن دخله ليربو على خمسة عشر جنيهاً، وله زوجة وأولاد. فلما أحيل على المعاش سول له خرف الشيخوخة أن يطرد زوجه وأولاده ثم ينطلق هو في نواحي القاهرة يتكفف الناس، فطرد أولاده جميعاً وإن فيها الصبي واليافع، ألقي بهم إلى الشارع ليذوقوا مرارة الحرمان وحرقة الفاقة ولذع الضياع، ولفظتهم المدرسة حين لم يجدوا ثمن العلم، وفيهم الذكي المجتهد والسابق المتفوق، ورآهم هو على حالهم هذه فلم ينبض قلبه برحمة ولا خفقت نفسه بشفقة. ثم غوى مرة أخرى فطرد زوجه وهي عجوز انهد كيانها وذوى عودها، وهي فقيرة لا تجد ما تتبلغ به إلا دريهمات يغلها وقف. والوقف ملك ضائع وقع بين فكين شديدين: ناظر الوقف وهو رجل لا يرتدع من دين ولا يرعوى من ذمة، يثقل الوقف بما لا يطيق، ثم يزعم بأن الأرض لا تغل شيئاً. ووزارة الأوقاف وهي ترقب في غير رعاية وتحاسب في غيردقة، والمستحق يقف ببابها مثلما يقف الشحاذ فيه الحياء بباب كز شحيح فلا يظفر إلا بالشتيمة والطرد. . . يقف دهراً لينال فضلة من مال لا تسمن من جوع ولا تغني من عرى. . . أما هو فهو كما ترى. . . . وتركني النادل وأن الأفكار لتصطرع في خاطري من أثرحديثه، وأصابني الجزع أن تثور حماقة صعلوك عجوز فتلقى بصبية صغار إلى عرض الشارع، تضربهم الفاقة وتصفعهم الحاجة وقد فقدوا - على حين فجأة - عطف الأب وحنان الأم وسعادة العيش في وقت معاً، وأن أرى زوجة عجوزاً تضطرب في غمرات الكرب تأسى على تاريخ طويل كانت تنعم فيه براحة الضمير في الدار، وبهجة القلب في الأولاد، وعز الحياة في الزوج. وآذاني أن يكفر هذا الرجل بحق زوجته وهي رفيقة الصبا وصديقة الشباب وعمود الأسرة، وأن يجحد فضلها وهو قد قضى عمره في كنفها يسعد بالهدوء والطمأنينة، وأن ينسى أن الأسرة معنى من معاني الإنسانية السامية لا يفزع عنها إلا الأحمق والمجنون! أفأمن الرجل أن تتدفق عليه بلايا الأيام أو أن تنصب عليه مصائب الزمن، فتذره حطاماً في ناحية من حجرة يقاسي العنت والشدة، ثم لا يجد الأسى في زوجته ولا العون في أولاده؟ ولكن. . . آه، إن في الناس وحوشاً ضارية لا تشبع إلا أن تلغ في دم الأنسان، وأن تهش لحمه، وأن تفرى عظمه! يا لقلبي! لقد فزعت من داري لأنفض عن نفسي هماً واحداً فرجعت بهيمن: همي وهم هذا الحيوان المفترس الذي يتكفف الناس في غير حياء ولا خجل! فما أشد وقعك على نفسي. . . يا يوم العيد!

كامل محمود حبيب