مجلة الرسالة/العدد 84/الشيخ الخالدي

مجلة الرسالة/العدد 84/الشيخ الخالدي

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1935



مجلس أخر من مجالسه

للدكتور عبد الوهاب عزام

كتبت في عدد من الرسالة ما سمعته من الشيخ الخالدي في أحد مجالسه بحلوان. واليوم أنشر حديثاً آخر حدث به في مجلس بالروضة:

جمعني والشيخ الجليل مجلس في دار الأستاذ عبد الحميد العبادي ليلة الاثنين الثالث والعشرين من رمضان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف، فلما اطمأن بنا المجلس قلت: قد سمعنا حديث شيخنا العلامة عن المدراس في المشرق إبان مجد المسلمين، فهل له أن يتم الحديث بذكر مدارس مصر والمغرب

قال: بقي من دارس المشرق مدارس الأناضول، ومنها مدرسة آلتون باي التي بناها السلاجقة في قونية، وبقيت معمورة الى زمن الحرب الكبرى. وقد طلب العلم بها السيد الشريف الجرجاني والفناري (وها من ذرية سيدنا عمر. وسيف الدين الآمدي عربي من بني ثعلية إخوة بني يربوع). وفيها مدرسة قره طاي كبير في قونية، ولا تزال آثاره قائمة وهي من بناء السلاجقة أيضاً، وقد درس فيها جلال الدين الرومي، وفي بروسة مدرسة السلطان مراد الأول ومدرسة السلطان محمد حلبي. ومن علمائها الخيالي وخواجه زاده الذي كتب (تهافت الفلاسفة) يتوسط فيه بين الغزالي وابن رشد؛ ومن علمائها كذلك ملاخسرو وحسن جلبي. وله حاشية على كتاب المطول في البلاغة

ومن مدارس حلب المدرسة الحلوية وكان يقرأ فيها الكاشاني صاحب كتاب البدائع في الفقه، وكان يفتي هو وامرأته، لا يخرج الفتوى حتى تعرض عليها. ثم المدرسة المستنصرية في بغداد في غنى عن التعريف

ومن مدارس مصر المدرسة الكاملية التي بناها الملك الكامل الأيوبي ومدرسة صلاح الدين، بناها للأمام نجم الدين الخبوشاني قرب مسجد الإمام الشافعي. والخبوشاني منسوب إلى خبوشان إحدى قرى نيسابور. وقد دفن بجانب الإمام الشافعي واندثر قبره، والمدرسة الصالحية التي أسسها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكانت لمذاهب الفقه الأربعة، والمدرسة الشيخونية , وكل هذه المدارس كانت صغيرة القدر بالقياس إلى جامع عمرو الذي كان مباءة العلوم الإسلامية منذ الفتح الإسلامي إلى القرن التاسع. وقد رأيت بالآستانة كتباً قديمة قرئت بجامع عمرو وعليها سماعات العلماء إلى سنة 700 وسنة 800 والشاطبي إمام القراء درس بهذا الجامع. ومن دور العلم في القاهرة خانقاه سعيد السعداء بالجمالية، وكان ينزل بها كبار العلماء، وممن نزل بها القطب الشيرازي والشريف الجرجاني، ومبارك شاه المنطقي، وقطب الدين الرازي. ويؤسفني ان وزارة الأوقاف لا تعني بها عناية تكافئ مكانتها في التاريخ الإسلامي: ومن مدارس القاهرة مدرسة المؤيد

وأما الأزهر فقد صار من دور العلم الكبير بعد سنة تسعمائة، وعلماؤه الذين ذكرهم الجبرتي متأخرون وأقدمهم الشيخ خالد الأزهري. وأما ابن هشام وابن عقيل فلم يتعلما فيه

وكان في الإسكندرية دار الحديث، ومدرسة الحافظ السلفي، وكان ينزل بها العلماء الوافدون من المغرب، ومدرسة الأمام الطرطوشي مؤلف سراج الملوك

ودور العلم في المغرب كانت جامع القيروان؛ قرأ فيه أصحاب الإمام مالك وأئمة مذهبه ومنهم سحنون، وابن عكر، وابن الحداد، وسحنون الصغير، وابن اللباد، والإمام اللخمي أحد محرري مذهب مالك، وعبد الحميد الملقب بمالك الصغير، وهو شيخ المازري، وغير هؤلاء ممن ذكروا في كتاب معالم الإيمان في تاريخ القيروان لابن ناجية، وهو شارح الرسالة التي ألفها عبد الله ابن أبي زيد صاحب كتاب النوادر، وهذا الكتاب واحد وعشرون مجلداً في مكتبة أياصوفيا، وبعض مجلداته في مكتبة القرويين بفاس

وجامع الزيتونة بتونس، وهو قديم عمره بند الأغلب سنة 145. ومن علمائه المازري شارح صحيح مسلم، وشارح التلقين للقاضي عبد الوهاب وهو عشر مجلدات كبار. ولا تزال اسطوانته معروفة في الجامع، وابن عبد السلام، وابن عرفة، وابن خلدون، وابن راشد القفصي وهو أعلمهم، والوانشريسي صاحب كتاب المعيار، والأبي شارح صحيح مسلم (وشرح المازري الذي ذكرته آنفاً اسمه المعلم في شرح صحيح مسلم، وكتاب الأبي اسمه متمم المعلم، وللقاضي عياض شرح اسمه إكمال المعلم)، ويحيى بن خلدون أخو عبد الرحمن بن خلدون المعروف، وأبو الحسن الشاذلي، وله أسطوانة في الجامع معروفة. ومن دور العلم بجاية وتلمسان، وكان بها مدرسة السلطان أبي الحسن المريتي، ومدينة سبتة، وقد ألف فيها القاضي عياض كتاب العيون الستة في أخبار سبتة. وهو كتاب يشهد بكثرة العلماء الذين نبغوا فيها.

ومن دور العلم العظيمة جامع القرويين بفاس أسسه مولاي إدريس الأصغر. وهو يضاهي جامع القيروان بفاس أسسه مولاي إدريس الأصغر. وهو يضاهي جامع القيروان في سعته، وواجهته مركبة على 200 اسطوانة بين كل اثنتين خمس خطوات

وقد ألف في تاريخ علماء فاس كتابان: الأول جذوة الاقتباس فيمن حل من العلماء بفاس، وهو لابن القاضي الفشتالي (نسبة إلى فشتالة على نهر ورغة)، والثاني جذوة الأنفاس فيمن اقبر من العلماء بفاس، وهو للشريف الكتاني من المعاصرين ومن مدارس المغرب مدرسة يوسف بن تاشفين في مراكش

وكانت مدن العلم في الأندلس، قرطبة، واشبيلية، وطليطلة، ومرسية، وبلنسية، وشاطبة، وسرقسطة، وغرناطة، في الزمن الأخير

وكان أهل الأندلس يحفظون دواوين شعراء الجاهلية بالرواية والاسناد كالحديث النبوي، وقد جاء في تاريخ قرطبة (كانت قرطبة في الدولة الإسلامية قبة الإسلام، ومجتمع علماء الأنام والأعلام. بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية. وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر والشعراء)

وقد بلغ من تشددهم في الرواية أن أبا علي القالي جاء الى الأندلس ومعه كتاب سماع في اللغة، فاستعاره الخليفة (لا أدري أكان الخليفة الناصر أم ابنه المستنصر؟) وأبقاه عنده زماناً فلما أرجعه أبطل القالي العمل به في الرواية. لأن الكتاب خرج من يده زمناً طويلاً قرأت هذه الحكاية في كتاب (الألماع في أصول السماع) للقاضي عياض. رأيت نسخة من هذا الكتاب في الأستانة (أيا صوفيا) وأخرى في الشام، وللقاضي عياض (الشارحة) في الحديث. أعجب به ابن الصلاح فقال:

مشارق أنوار تجلت بسبته ... وذا عجب كون المشارق بالغرب

مشارق أنوار طلعن بمغرب ... أنرن جميع الشرق بالطالع الغربي

فلله ما ابدي عياض فأشرقت ... مشارقه في كل قطر بلا غرب

ومن اجل عناية آهل الأندلس برواية الشعر نبغوا في اللغة.

وحسبك ابن سيده صاحب المخصص والمحكم، وقد رأيت الجلد الأول من المحكم بخط الجواليقي

هذا ما اقتبسته من حديث شيخنا الخالدي في هذا المجلس، أفاض فيه دون أن يرجع الى كتاب أو ورقة. وكم من مجالس للشيخ العلامة لم تدون. ولو كتبت أحاديثه ونشرت معها كتبه ونتفه في تاريخ العلم والعلماء لاستفاد المسلمون علماً واسعاً، وظفروا بما فقدوه من تاريخ أسلافهم. ولعلنا نسعد بكتابة بعض مجالسه. والله ولي التيسر

عبد الوهاب عزام