مجلة الرسالة/العدد 84/القصص

مجلة الرسالة/العدد 84/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1935



إبليس يعشق

للأديب حسين شوقي

كان إبليس يقيم في مصيف (دوفيل)، ولم تمض أيام معدودة على قدومه إليها حتى كان من أثر وجوده بها عدة حودث انتحار، وقعت بين رواد قاعتي (الروليت) و (البكارا). .

ولكن هبطت عليه ذات يوم برقية من مجلس الشياطين الأعلى المنعقد في (بروكن) تعدوه الى الذهاب من فروه إلى قرية س. . . في جبال الألب ليقضي هناك على أسرة صغيرة تعيش في سرور وهناء لا حد لهما، لأن الشياطين كما تعلم لا يطيقون رؤية بني البشر سعداء. . بلغ إبليس القرية، ولم يكد يصل إليها حتى قصد الدار التي تسكنها هذه الأسرة السعيدة لينتهي من أمرها في سرعة، ثم يعود على عجل إلى مصيفه في (دوفيل) حيث كان يتلذذ من إلحاق الأذى بلاعبي الورق. .

كانت هذه الأسرة السعيدة مؤلفة من ثلاثة: الزوج، وهو شاب جميل في الخامسة والعشرين والزوجة، وهي فتاة جميلة أيضاً في سن العشرين، والولد، وهو طفل لطيف في الأشهر الأولى من عمره. .

وكانت هذه الأسرة تسكن منزلاً صغيراً جميلاً شيد على رابية تشرف عليها جبال الألب الشاهقة وكأنها أسوار رفعتها يد العناية لحماية القرى المجاورة وسكانها الهادئين، من حوادث الطبيعة العظيمة. .

ذهب إبليس يزو الأسرة السعيدة في زي بائع أم متجول، كي يتعرف موضع عمله، فلم يجد الزوج إذ كان في عمله بالحقل، ولكنه وجد الزوجة في الحديقة تدلل طفلها، وقد ضمته إلى صدرها. حقاً! إن السعادة كانت بادية بأجلى مظاهرها على وجه الزوجة، ولكنها اعتذرت في لطف عن عدم الشراء، قم قدمت إليه قدحاً من النبيذ ليرفه به عن نفسه من عناء المسير، فشربه إبليس ثم شكر الزوجة وانصرف وهو حانق على مجلس الشياطين الأعلى الذي أزعجه في مصيفه (بدوفيل) لأمر تافه مثل هذا، لأن القضاء على سعادة هذه الأسرة بسيط جداً، فقد يكفي إعطاء الطفل جرعة من جراثيم الدفتريا، ليقضي عليه فوراً، فتصبح الأسرة في يأس ونكد كم واجه إبليس حوادث أدق في (دوفيل)! إنه ما يزال يذكر مع الغبطة حادث البارونة س. . التي وسوس إليها أن تبيع حليها لتعطي ثمنها إلى عشيقها كي يخسر هذه النقود على المائدة الخضراء أولاً فأولاً، ولما نفذت الحلي وهدد العشيق البارونة بالهجر، لجأت إلى تزوير إمضاء وجها على شيك، ولكن اكتشف التزوير فاضطرت البارونة أن تنتحر اتقاء للفضيحة والعار

في مساء يوم زيارته لمنزل تلك الأسرة، اقتنص إبليس بضعة جراثيم دفتريا فوضعها في قنينة ثم حفظها في جيبه. . ثم ذهب إبليس في اليوم التالي يزور الزوجة، وقد تزيا في هذه المرة بزي بائع حرائر، ولن لم يكد يقترب من المنزل حتى سمع صوتاً جميلاً ينبعث من الحديقة لم يسمع أعذب منه منذ خروجه من الفردوس، فوقف يصغي إليه. . ثم تقدم خطوات. . . فشاهد الزوجة الجميلة مكبة على طفلها وهو راقد في مهده تناغيه. تأثر إبليس بجمال هذا النظر تأثراً شديداً، فألقى القنينة بعيداً وانسحب كي لا يعكر صفاء هذه الأم الجميلة. .

أحس إبليس في طريق عودته الى الفندق بسعادة عميقة تغمر نفسه، فخبأ وجهه بين يديه حتى لا يراه شيطان آخر على هذه الحالة، فيحاول أن يقضي على سعادته!

يا للعجب! إن إبليس عاشق! إنها حقاً نهاية النهايات!

أخذ إبليس طوال الليل يفكر في حاله، لا يدري ما يفعل. . فكرأولاً في قتل الزوج ليتقدم بعد ذلك الى المحبوبة في صورة شاب جميل سري، ولكن تراءى له عندئذ المحبوبة سابحاً في الدموع على فقدها زوجها، فأقصى عنه تلك الصورة القاسية المنطوية على الحقد والأنانية، لأن إبليس لم يعد شريراً وقد طهر الحب قلبه. .

وللمرة الأولى، أحس إبليس انه بائس، أشد بؤساً من متسولي الهند. . .

وللمرة الأولى أيضاً، بكى إبليس، وكانت دموعه هذه المرة دموعاُ بشرية بيضاء على غير العادة، إذ كانت عيونه قبل ذلك تفرز سائلاً أسود مثل نفسه السوداء. . .

ولما لم يجد إبليس وسيلة للاستيلاء على المحبوبة دون تكدير صفوها، قرر أن ينتحر. .

غادر إبليس الفندق وسط الظلام، ثم ذهب فتسلق أعلى قمة في الجبل وقفز منها الى السماء، فاحترق جسمه من السرعة التي انطلق بها في الجو. . .

وهكذا قضى إبليس نحبه حاملاً معه أول وآخر حب له!

ولكن هذا لم يمنع المراصد الفلكية أن تذكر في تقريرها، في اليوم التالي، أن شهاباً هوى بجهة قرية س. . . في جبال الألب، وهو شهاب يجهله عالم الفلك للآن فاحدث سقوطه نوراً ساطعاً

كرمة ابن هانىء

حسين شوقي