مجلة الرسالة/العدد 840/من ظرفاء العصر العباسي:
مجلة الرسالة/العدد 840/من ظرفاء العصر العباسي:
أبو دلامة!. . .
توفي سنة 161هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
وحين ندرس نفسية هذا الظريف من خلال قصصه ونوادره - وهي غاية ما وصل إلى أيدينا من حياته - سنضطر إلى ذكر بعض مداعباته لنستدل بها على شيء مما نراه. ومن تلك المداعبات التي نشير بها إلى ما كان من انسجام بين أبي دلامة وزوجته اشتراكهما في خداع المهدي وزوجته الخيزران: فقد دخل أبو دلامة يوماً على المهدي وهو يبكي. فقال له مالك؟ ماتت أم دلامة، وأنشده فيها:
وكنا كزوج من قطاً في مفازه ... لدى خفض عيش ناعم مؤنق رغد
فأفردني ريب الزمان بصرفه ... ولم أر شيئاً قط أوحش من فرد!
فأمر له بثياب وطيب ودنانير، وخرج. فدخلت أم دلامة على الخيزران فأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فأعطتها مثل ذلك، فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلتهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه.
ومثل هذا الاشتراك في الخداع الذي كان يمضي طليقاً حتى يصل إلى الخليفة وزوجته - يدل على تفاهم عميق بين الزوجين، وعلى وحدة في نظرتهما إلى الحياة، فكأنهما يشرفان على العالم من منظار واحد فيه مرح النكة، ولطف الدعابة.
وهنا نرغب في معرفة اسم هذه المرأة الخبيثة - زوجة شاعرنا الظريف - فتضن به علينا المصادر كأنها لا ترى في ذكره فائدة.
ونعلل هذا - كما يبدو لنا - بأن أمثال هذا الظريف تروى في كتب الأدب حياتهم للإشارة إلى جانب يستحق الدراسة فيهم وهو ظرفهم ومرحهم وسلاطة ألسنتهم، وما بعد هذا الجانب فأمور تتعلق بأحدهم من قريب أو بعيد كما تتعلق بآحاد الناس فلا تستأهل الدراسة، ولا تستحق التسجيل.
لذلك سنمر - في أثناء عرضنا لحياة أبي دلامة - مروراً رفيقاً بما يتصل بأسرته، أنه كان له أولاد غير دلامة وأن فيهم بنتاً قبيحة ولكنا لا نعرف أسماءهم، ولا نحاول أن نعرف ما إذا كان له أخوة، فقد سكتت عن هذا كله النصوص التي بين أيدينا. ولكن الذي يجدر بنا أن نعرفه منزلة هذا الظريف لدى أبي العباس السفاح، وأبي جعفر المنصور والمهدي أيام انقطع إلى مجالستهم ومناداتهم.
ويبدو أنه كان رفيع المكانة لدى السفاح، وأنه - للطف محله منه - كان ينال ما يشاء من المطالب ولا سيما إذا أحسن في أسلوب الطلب: من ذلك أنه وقف يوماً بين يدي السفاح - فقال له: سلني حاجتك. قال أبو دلامة: كلب أتصيد به. قال: أعطوه إياه. قال ودابة أتصيد عليها. قال: أعطوه دابة. قال: وغلام يصيد بالكلب ويقوده. قال: أعطوه غلاماً: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه. قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك فلابد لهم من دار يسكنونها. قال: أعطوه داراً تجمعهم. قال: فإن لم تكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أعطيتك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وما الغامرة؟ قال: ما لا نبات فيه؟ قد أعطيتك أنا يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد. فضحك وقال: اجعلوها كلها عامرة. قال: فائذن لي أن أقبل يدك. قال: أما هذه فدعها. قال: والله ما منعت عيالي شيئاً أقل ضرراَ عليهم منها.
فانظر في هذه القصة - إلى مكانة أبي دلامة لدى السفاح، تلك المكانة التي تهيئ له أن يجاب له كل طلب بعد أن يصير عليه الخليفة فلا يسكته، بل يتقبل جرأته ويثيبه عليها فيجزل ثوابه، ثم انظر - كما قال الجاحظ - (إلى حذقة بالمسألة ولطفه فيها: ابتدأ بكلب فسهل القصة به، وجعل يأتي بما يليه على ترتيب وفكاهة، حتى نال ما سأله بديهة إليه!)
وكما أحسن السفاح إلى أبى دلامة الظريف مقيماً على الوفاء له يمدحه في كل مناسبة ويذكره بكل خير، بل لقد أقام يذكر جميله حتى بعد موته، فرثاه بأبيات كثيرة. ومما قاله في قصيدته الهمزية:
وكنا بالخليفة قد عقدنا ... لواء الأمر فانتفض اللواء
فنحن رعية هلكت ضياعاً ... تسوق بنا إلى الفتن الرعاء
ولم يكتف بهذا، بل إنه دخل على المنصور والناس عنده يعزونه في السفاح فأنشأ يقول:
أمسيت بالأنبار يا ابن محمد ... لم تستطع عن عقرها تحويلا ويلي عليك وويل أهلي كلهم ... ويلا في الحياة طويلا
فلتبكين لك النساء بعبرة ... وليبكين لك الرجال عويلا
مات الندى إذ مت يا ابن محمد ... فجعلته لك في الثراء عديلا
إني سألت الناس بعدك كلهم ... فوجدت أسمح من سألت بخيلا
ألشقوتي أخرت بعدك للتي ... تدع العزيز من الرجال ذليلا
فلأحلفن يمين حق برة ... بالله ما أعطيت بعدك سولا
فلم سمع الناس هذه الأبيات بكوا. فغضب المنصور غضباً شديداً وقال: لئن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك. فقلا أبو دلامة: يا أمير المؤمنين إن أبا العباس أمير المؤمنين كان لي مكرماً وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء الله بأخوة يوسف إليه، فقل كما قال يوسف لأخواته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) فسرى عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً - وهو مريض - ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعرف هذا؟ فقال: هؤلاء، وأشار إلى جماعة ممن حضر، فوثب سليمان بن مجالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة، نحن نعلن ذلك فقال المنصور لأبي أيوب الخازن وهو مغبظ: يا سليمان ادفعها إليه.
ولو لم يكن السفاح يكثر العطاء والصلة لأبي دلامة مقرباً إياه على سواه لما مدحه الشاعر هذا المدح العظيم، ولما رثاه أمام المنصور ذاك الرثاء البليغ، ولما بقى مقيماً على الوفاء له. ويظهر أن لحذق أبى دلامة في المسألة ومهارته في إظهار حاجته ولباقته في طلب ما يريد - أكبر الأثر في رغبة الخلفاء العباسيين بوصله ولا سيما الذي اشتهر ببخله، ومع ذلك (لم يصل إلى أحد من الشعراء ما وصل إلى أبي دلامة منه خاصة) كما قال صاحب الأغاني.
وحسبك أن تعلم أن أبا دلامة دخل على المنصور يوماً فأنشده:
أما ورب العاديات ضبحا ... حقاً ورب الموريات قدحا
إن المغيرات على صبحاً ... والناكئات من فؤادي قرحا
عشر ليال بينهن ضبحا ... يجلعن مالي كل عام صبحا. . .
فقال له أبو جعفر: وكم تذبح يا أبا دلامة؟ قال: أربعاً وعشرين شاة. ففرض له على كل هاشمي أربعة وعشرين ديناراً، فكان يأخذها منهم، فأتى العباس بن محمد في عشر الأضحى يتنجزها. فقال: يا أبا دلامة، أليس قد مات أبوك؟ قال بلى. قال: انقصوه دينارين. قال: أصلح الله الأمير لا تفعل، فإنه ترك على ولدين. فأبى إلا ينقصه. فخرج وهو يقول:
أخطاك ما كنت ترجوه وتأمله ... فأغسل يديك من العباس بالياس
واغسل يديك بأشنان فأفقهما ... مما تؤمل من معروف عباس
جزاك ربك يا عباس عن فرج ... جنات عدن وعن جرزتي آس
فبلغ ذلك أبا جعفر فضحك، واغتاظ على العباس، وأمره بأن يبعث إليه بأربعة وعشرين ديناراً أخرى
فرجل يفرض له المنصور عطاء على كل هاشمي لا بد أن يكون محبوباً، مقرباً عنده. ولم لا يقرب المنصور أبا دلامة وهو لا يستريح إلى منادمة أحد سواهن بل يضحك لدعابته في أدق الظروف؟
توفيت حمادة بنت عيسى وحضر المنصور جنازتها. فلما وقف على حفرتها قال لأبي دلامة: ما أعددت لهذه الحفرة؟ قال: بنت عمك يا أمير المؤمنين حمادة بنت عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها! فضحك المنصور حتى غُلب فستر وجهه.
وما أظنك إلا ضاحكاً مع المنصور لو سمعت من أبي دلامة مثل هذا الجواب الذي يدل على بديهة حاضرة، ونكتة سريعة، لا يستطيع صاحبنا أن يغلبها حتى في أحرج المواقف.
ويمثل هذه الطلاقة في الرد والسهولة في الجواب تستطيع أن تفرق بين نكتتين إحداهما متكلفة مصطنعة، والأخرى صادرة عن طبع وملكة. وأنت نفسك إذا سمعت النكتة الباردة - أو التي يسمونها (بايخة) - رفضتها وضجرت من سماعها ونبا عنها ذوقك، وإن أنت سمعت النكتة الموافقة المحكمة أدركت حلاوتها فضحكت لها من صميم قلبك، لأنك تحس فيها روح الدعابة كما تحس في الشعر الرفيع عبقرية الإلهام، فتنتقل من عالمك الصغير المحدود، إلى عالم الجمال والخلود!
(يتبع)
صبحي إبراهيم الصالح