مجلة الرسالة/العدد 841/أخي عزام

مجلة الرسالة/العدد 841/أخي عزام

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1949


قرأت فصولك الأربعة عشر التي كتبتها لقراءة الرسالة بقلم المؤمن الصادق والمصلح الحكيم والخبير المجرب والكاتب المفتن، من هذه الحيرة الاجتماعية التي عوقت الأمم، وهذا القلق النفسي الذي أشقى الأفراد؛ فكنت كلما قرأت منها فصلاً نشأت في خاطري فكرة، وحفزتني إلى الكتابة رغبة؛ فإذا قرأت الفصل الذي يليه ذهبت فكرة وجاءت فكرة، وسكنت رغبة وتحركت رغبة، حتى قرأت (الخاتمة) فوجدتك قد جمعت شتيت الأخطاء والأدواء ثم رددتها إلى مصدر واحد هو ضلال الإنسان، ووصفت لها طباباً واحداً هو هُدى الله، فلم تدع في الموضوع فضلةً يناقشها أديب، ولا علةً يعالجها طبيب.

كلام يشرق في الحق وعلاج يهدي إليه العقل، فما كان يجوز أن يختلف فيهما صاحب دين ولا صاحب دنيا، ولا أن يعمى عنهما أهل شرقٍ ولا أهل غرب؛ ولك الله لأمره يعلمه شاء أن يجوز العمى على البصير فلا يرى إلا بتنبيه، وإن يجري الصمم على السميع إلا بتبليغ!

ولقد كان من بداءة المنطق ومسلمات الطبع إلا تستبد الحيرة والقلق بقوم يأمر ربهم بالعدل والإحسان، ويقوم شرعهم على الهدى والفرقان؛ ولكن المسلمين اليوم قد اتبعوا سبيلاً غير سبيل محمد، واتخذوا دليلًا غير دليل الله؛ فأصبحوا كسائر الأمم الغربية عباداً للذهب والسلطان والهوى، لا يتبعون غير رجال المال والسياسة بالطمع، ولا يطيعون غير رجال الحكم والحرب بالخوف. إمارجال الفكر ورجال الدين فقد جعلوهم من نوافل الحياة؛ مكانهم على الهامش لا في المتن، وميدانهم نوازع الكمال لا دوافع الضرورة؛ إلا من استغنوا منهم فقد استحبَ عماهم على هداه، وآثر هواهم إلى عقله.

ورجال الفكر أمثالك يا أخي قومُ جعلوا (وظيفتهم) التفكير للناس. فهم ينتجون الفكر كما ينتج أصحاب العمل المال، ورجال السياسة الخداع، وأرباب الحكم الغطرسة! فما كان اجدر بابن آدم وهو لا يزال يتبجح بالعقل ويتمزى به على غيره أن يجعل قياده لرجل الفكر! ولكن ابن آدم إنسان وحيوان، فإن استجر بإنسانيته للقلم، فلن يستجر بحيوانيته إلا للعصا!

لقد قرأ الناس ما كتبت واعجبوا بما قرأوا. ولكن إعجابهم به لا يعدوا أن يكون إعجاباً بالجمال في ذاته. سيزعم كل قارئ انك عنيت بكلامك سواه. فالفرد يقول أنا ضعيف؛ فليتني أقوى لتكون لي إرادة. والشعب يقول أنا جاهل؛ فليتني أعلم ليكون لي رأي.

والحزب المعارض يقول أنا غير مسؤول؛ فليتني أحكم ليكون لي أمر. الحزب الحاكم يقول أنا غير مستقر؛ فليتني أثبت ليكون لي تنفيذ! فإذا قوى الفرد عمل لنفسه، وإذا تعلم الشعب عصف الطغيان في رأسه، وإذا حكم المعارض لها بيومه عن أمسه!! وإذن تذهب كلماتك الطيبة وأمثالها يا عزام كما تذهب النغمات الرخيمة في هزيم العاصفة، أو النسمات الرخيمة في لفاف الغابة!

أغلب الظن يا صديقي أن أبرار الكتاب سيظلون يقولون الخير لأن لذتهم في أن يقولوه، وأن فجار الساسة سيظلون يعملون الشر لأن لذتهم في أن يعملوه؛ حتى يشاء الله وحده للوئام أن يعم وللسلام أن يعود، فيهيأ حينئذ لكلام الكتاب السبيل إلى أذهان الأحزاب والأقطاب، فتتجدد دعوة الأنبياء، وتتصل الأرض بأسباب السماء، ويصبح الإدلاء في ركاب الحياة من أمثال عمر وصلاح الدين، لا من أمثال ترومان وستالين.

فكر يا أخي وعبر، ضير عليك ألا يفهم الناس عنك؛ فإن التفكير متعة العقل، كما أن التعبير متعة الروح.

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات