مجلة الرسالة/العدد 841/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 841/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1949



للأستاذ انور المعداوي

عتاب وطني كريم من السودان

تحية طيبة وتقديرا عظيما، وشكرا على هذا الأدبالحار الذي تمتعنا به في (الرسالة) كل أسبوع. . .

وبعد فقد ذكرت في كلمتك بعدد (الرسالة) (833)

تحت عنوان (بين نعيم الديمقراطية وجحيم الشيوعية) كلمات مدحت بها الإنجليز في حفاظهم على مبدأ الحرية وتأثرهم بالحياة الديمقراطية الحرية حينما تقارنهم بالأمريكيين أو الروس.

وكاتب هذه السطور يحتقر الشيوعية، كما يكفر بكل هذه النظم الغربية الفاشلة. إماالذي دعاني إلى الكتابة إليك، فهو أني استكثرت جدا ذلك المدح المعمم الذي اضفيته على الإنجليز عندما قلت انهم (أصحاب ديمقراطية يؤمن بها الحكام ويستشعرها المحكوم، ويلتقون جميعا في رحاب كأكرم ما يلتقي الإنسان الكريم بالإنسان الكريم). . .

إذ كنت تقصد يا سيدي انهم يسيرون وفق هذا المبدأ في إنجلترا وحدها فهو صحيح، لكن الإنجليز لا يستحقون على ذلك كل هذا المدح، بل يجب ان نقول انهم أنانيون وغير إنسانيين، وانهم لم يؤمنوا بعد بمبدأ الحرية الذي يجعل الناس سواسية كأسنان المشط مستعمرين أو مستعمرين. فالإنجليز خارج إنجلترا حكام إرهابيون بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وأظنك قد سمعتك بالقنابل التي فتكت مواطنيك من أبناء الجنوب في شهر نوفمبر الماضي من (عطبرة) و (بورسودان)، وبمئات الجرحى ومئات الذين ضربوا بالعصى الغليظة في (الخرطوم)، ومئات الذين زجوا في سجون البلدان الأخرى بالسودان لشيء بسيط هو ابسط ما يسمح به للفرد في ظل الحكومة الديمقراطية، هو إعلان الرأي سواء بالكتابة أو الخطابة أو المظاهرة السلمية العزلاء!.

واظنك تسمع بسلسلة المحكمات الجارية اليوم تحت المادة (105 من قانون عقوبات السودان)، لان فلانا كتب مقالا، أو أدلى بتصريح من شانه ان يسبب كراهية الإنجليز أو حكومة السودان، وغير ذلك. . . فما رأي الأستاذ في هذه الديمقراطية المزيفة؟ أقول لن يستطيع الإنكليز الحصول على مدحك هذا عن جدارة واستحقاق حتى يتساوى المحكوم في (الخرطوم) بالمحكوم في (لندن) في كل الحقوق الديمقراطية، وحتى يؤمن الإنكليز ببيتي فيلسوف العرب المعري:

ولو أني جبيت الخلد فردا ... لما أحببت بالخلد انفرادا

فلا هطلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا

واني لفي انتظار ردك الكريم.

(السودان)

ج. ح. البشير

هذا هو العتاب الوطني الكريم الذي تلقيته من الجنوب أشرت إليه في عدد مضى من (الرسالة). . . ان كلماته الملتهبة بصدق الوطنية وحرارة الأيمان لتهزني هزا عنيفا، تهزني لأنها تحمل ألي من أعماق النفوس الأبية نفحات ونفحات، وتنقل إلى من سجل الجهاد النادر سطورا هي في حساب الشعور صفحات. . . إماالعتاب - وان كنت لا استحقه - إلا أنني انزل من نفسي منزلة الود الخالص والاخوة المتسامية، الاخوة التي استروحت انسام الأرض الطيبة على ضفاف نهر واحد وتحت سماء وطن واحد!.

يا اخي، يا اخي في الله والدين والوطن. . . ان الأرض التي جمعت بين قلبي وقلبك لتجمع بين جراح وجراح، وان النيل الذي ربط بين روحي وروحك ليربط بين كفاح وكفاح. . . أنا هنا وأنت هناك، ويا بعد الشقة في منطق الظلم البغيض، ويا قربها في منطق الحب المتغلغل في طوايا الوجدان. . . نحن يا اخي ميدان الجهاد يد تمد إلى يد، وفي معرض التضحية قدم تسعى إلى قدم، وفي مجال الوفاء عاطفة تقبس من عاطفة. . . فكيف تعاتبني على كلمات قلتها في سياق الحديث عن قوم يؤمنون بالديمقراطية في أرضهم، ويكفرون بها في أرض الناس؟!.

اجل، يا صديقي، لقد كنت أتحدث عن الإنجليز في بلادهم، انهم هناك أصحاب ديمقراطية يؤمن بها الحكام ويستشعرها المحكوم، ويلقون جميعا في رحابها كأكرم ما يلتقي الإنسان الكريم بالإنسان الكريم. . . حقيقة نسجلها في اطمئنان ويسجلها التاريخ، حتى إذا ما سجلنا النقيض كنا أمناء على الحق سواء أشدنا بالعدل أم أشرنا إلى الظلم والطغيان!.

من الحق ان ننعت الإنجليز بأنهم مثاليون في بلادهم، مثاليون في قيم النزاهة ومعايير الخلق وموازين الإنسانية والضمير! ومن الحق ان ننعتهم أيضا بأنهم مثاليون في غير بلادهم، مثاليون في الأنانية والجشع، وضيعة الضمير والخلق، وانتفاء العدل والإنصاف. وتلك هي العناوين الضخمة التي يسطر تحتها التاريخ كلماته الخالدة حين يعرض للحكم البريطاني في أرضه وكل أرض سكنها الأحرار في كل زمان ومكان!

يا أخي، يا أخي في الله والدين والوطن. . . ان الأنشودة الرائعة التي بدأناها في شمال الوادي، أنشودة الجهاد التي انطلقت من قيثارة الأحرار، قد أذن الله ان ترسل أنغامها في جنوبه. وكل نغم إلى فناء، وكل نار إلى رماد، وكل ذكرى إلى نسيان. . . ولكن أنغامنا ستضل إلى الأبد ترن في مسمع الزمن، ولكن نارنا ستضل إلى الأبد تضيء الطريق للسالكين، ولكن ذكرانا ستضل إلى الأبد قصة تروى وعطر يفوح!

ولا عليك يا اخي من تلك القيود. . . ان معدنها الرخيص سيذوب يوما تحت وهج النار المتأججة في حنايا الضلوع!

ولقد قال أبو العلاء ما قال لأنه إنسان، ولكن أين من يستمع لنداء الإنسانية وقانون السماء؟ ألا ليت الطغاة قد جعلوا شعار حكمهم هذه الكلمات التي انطلقت من أعماق بطل الحرية أبرا هام لنكولن: (ان ضوء الشمس لا يفرق في يد الله بين أحرار وعبيد، فلم يفرق ضوء الحرية في أيدينا بين انصار وخصوم)! ومع ذلك فنسير يوما جنبا إلى جنب، وقلبا إلى قلب، وعيوننا أبدا إلى الأفق البعيد!.

ضجة أدبية حول كتاب لأرتير رامبو:

ارترير رامبو شاعر من شعراء الرمزية في الأدبالفرنسي توفي في أواخر القرن التاسع عشر عام 1891. . . ولقد كان رامبو صديقا حميما لشاعر الرمزية الأول بول فرلين، حتى لقد تعرضت تلك الصداقة الوطيدة لتجريح بعض النقاد من ناحية السلوك الأخلاقي! ونترك هذه الناحية الشائكة لنقول ان إحدى دور النشر الكبرى في باريس قد اعلنت في الأيام الأخيرة عن حصولها على مجموعة شعرية لرامبو، وانها على أهبة طبعها لتكون بين أيدي القراء. . . ولقد كان معروفا ان هناك أديبا فارسيا كبيرا يمتلك هذه المجموعة التي كتبها رامبو بخط يده وتركها بعد موته دون ان تأخذ طريقها إلى المطبعة. ومن هنا احدث الخبر ضجة كبرى في الأوساط الأدبية الفرنسية، حتى لقد تهافت المعجبون بفن رامبو على ألوف النسخ المطبوعة فنفذت في مدى يومين! إماالنقاد الفرنسيون، فقد استقبلوا الكتاب بحفاوة بالغة دفعت أحدهم وهو (باسكال بيا) إلى ان يكتب عنه كلمة مستفيضة رفع فيها شعر رامبو إلى القمة من الأدبالفرنسي الحديث. . . وحين فرغ الكاتب الفرنسي الكبير (فرانسو مورياك) عضو الأكاديمية الفرنسية من مطالعة المجموعة تناول قلمه ليكتب مقالاً يصب فيه إعجابه البالغ بفن رامبو، ذلك الإعجاب الذي فجر الدموع في عينيه وهي ينصت لهمسات الشاعر في كل قصيدة من قصائده! وفي الوقت الذي هم فيه مورياك بان يبعث بمقالة إلى جريدة (الفيجارو) أذاع أحد الكتاب الفرنسيين وهو (بيير بريسون) خبرا فحواه ان هناك خدعة كبرى وقعت فيها (المار كيردي فرانس) حين أقدمت على نشر كتاب لا يمت إلى الشاعر الفرنسي بصلة من الصلات، مؤكدا ان النسخة الخطية التي طبعت لم يكتبها رامبو وإنما كتبها شابان عابثان يسعيان إلى جمع المال عن طريق غير شريف! واهتزت الأوساط الأدبية الفرنسية تحت وقع الخبر، وبخاصة حين أعلن الكاتب السريالي الكبير (اندريه بريتون) ان النسخة الخطية التي كتبها رامبو بين يديه وان تلك التي نشرت ما هي إلا تقليد بارع! وانقلبت الضجة إلى خصومة عنيفة انقسم بسببها الأدباء الفرنسيون إلى فريقين: فريق ينتصر لباسكال بيا وفرانسو مورياك حين يزعمان ان التقليد لايمكن ان يسمو إلى مثل هذا الأداء الفني الرفيع، وفريق آخر ينتصر لندريه بريتون وبيير بريسون حين يؤكدان ان الأمر لم يكن الا خدعة نسجت خيوطها بمهارة! واخيرا انتهت الخصومة العنيفة إلى مهزلة ليس لها نظير. . . لقد اعترف الأديبان الناشئان بفعلتهما الجريئة، ذاهبين إلى انهما لم يهدفا إلى الحصول إلى المال عن طريق غير شريف، ولكن هدفهما ان يحصلا على شهرة أدبية لا يستطيعان ان يصلا إليها عن طريق اسمين غير معروفين، وقد دانت لهما تلك الشهرة عن جدارة أيدهما بقلبه وقلمه عضو من أعضاء الأكاديمية الفرنسية. . . هو فرانسو مورياك!.

قصة فريدة نهديها إلى أدبائنا الناشئين ممن تعرض على إنتاجهم دور النشر وتوصد المجلات الأدب يه أبوابها في وجوههم. . . نهديها إليهم لندلهم على اقصر طريق يصلون منه إلى الشهرة الأدبية وقلوب الناشرين!!.

بعض الرسائل من حقيبة البريد:

رسالتان من (العراق) وكلتاهما من (بغداد)، إماالأول فمن الأديب الفاضل عمر عيسى السأمرائي بمعهد التربية البدنية وبها سؤال عن بعض ما بكتاب (على هامش السيرة) من آراء متناقضة للدكتور طه حسين، وإماالثانية فمن الأديب الفاضل إسماعيل محمد السامرائي وبها سؤال آخر عن بعض ما جاءبمسرحية (شهرزاد) من فلسفة لفضية تخالف منطق الواقع للأستاذ توفيق الحكيم، وسأجيب على السؤالين في العدد القادم من (الرسالة). وهذه هي الرسالة الثالثة من (عمان - شرق الأردن) تحمل إلى معلومات طريفة صبت في قالب التهكم اللاذع على ذلك القصاص العامي النابغ الذي قلت عنه انه درس فن القصة في كتاب القرية، ولقد كنت أود ان اثبت هذا التهكم غير أني تذكرت ان المقصود به أهون إليه ان يشار بأي لون من ألوان الذكر، ولذا اعتذر للأديب الفاضل أحمد عزيز بيتوغن شاكرا! له كريم تقديره. والرسالة الرابعة من (المحرق - البحرين) اشكر لمرسلها الأديب الفاضل مبارك راشد الخاطر حسن ظنه، وأجيبه ان رأيي في شعره هو ان أداءه اللفظي لا بأس به وان كل ما ينقصه هو العناية بالأدبالنفسي، وتلك ناحية سأعرض لها بالتحليل والنقد في عدد مقبل من (الرسالة) تحت عنوان (الأداء النفسي في شعر المهجر). والرسالة الخامسة من (عدن) يا أخ علي بها الأديب الفاضل علي باذيب ذلك الرأي الذي سبق وان أبديت فيه اعتراضي عن إخراج كتاب مادام الجمهور معرضاً عن شراء الكتب، يا صديقي أنا شاكر لك ثنائك وثقتك الغالية، إماالإعراض عن التأليف فهو إلى حين، وليس بمستبعد ان تنتهي أزمة القراء ويتجدد الأمل!.

وأنتقل بعد ذلك إلى الرسالة السادسة وهي من (عطبرة - سودان) لأقول لصاحبها الأديب الفاضل مكرم سعيد أنني مقدر له هذا الشعور النبيل المتدفق من كلماته، ولست املك الا ان استجيب لرغبته في الأيام المقبلة. وإلى الرسالة السابعة وهي من (الخرطوم - السودان) أيضا لاقدم خالص امتناني للأديب الفاضل عبد الرحيم محمد أحمد على تحيته الصادقة، ولاجيب عن رغبته في ان أخص الأدبالسوداني بشيء من العناية بأنه يؤسفني كل الأسف الا يكون بين يدي من نصوص هذا الأدبما يمكنني من الكتابة عنه، وحبذا لو بعث ألي كتاب السودان وشعراؤه بإنتاجهم الأدبي مطبوعا لاقوم بدراسته وتقديمه إلى القراء. إماالرسالة الثامنة فمن الأديب الفاضل عبد الرحمن السياسي بهيئة الإذاعة البريطانية (بالخرطوم - سودان) وفيها يرد على الأستاذ محمد غنيم بمناسبة تخطئته لي حين قلت (لم اكن اعرف) مستشهدا بالآية الكريمة من سورة المدثر (ولم نكن نطعم المسكين) ان تعقيبي على هذه اللفتة الموفقة بعد خالص الإعجاب هو ان الأستاذ غنيم معذور لأنه (لم يكن يعرف): ان التعبير صحيح لا غبار عليه.

وتبقى بعد ذلك أربع رسائل مصرية. . . الأولى من الأديب الفاضل السيد علي الشوربجي الطالب بكلية الحقوق، وفيها يناقشني نقاشا طويلا حول الكلمة التي كتبتها عن أبى العلاء، يا صديقي أرجو ان تعود مرة أخرى إلى ما كتبت لان هناك بعض معاني قد خفيت عليك ولعلها تتكشف لك بعد التأمل والمراجعة. والثانية حول أبى العلاء أيضا وهي من جندي فاضل بالجيش المصري رمز لنفسه بتلك الحروف الأولى من اسمه (م. ف. أ). . . أنا شديد الإعجاب ان يكون بين جنودنا من يقرا (الرسالة) ويعشق الأدب، ويغوص في بفكره فيما كتبت عن أبي العلاء، ويخاطبني بقوله (سيدي طبيب الأدب، أنا مؤمن بما جئ به عن الحرمان النفسي والأدب ي عند أبي العلاء، ولكن ماذا تقصد بالحرمان القلبي حين قلت ان قلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة مع ان هذا القلب كان عامرا بالعاطفة الإنسانية)؟. . . عزيزي أديب الجيش، أنا اقصد العاطفة الأنثوية لا العاطفة الإنسانية.، تلك التي تنسب إلى المرآة وكان يمكن ان تملا بعض الفراغ في حياة أبي العلاء. إماالرسالة الثالثة فمن الأديب الفاضل (م. م. س) بمعهد أسيوط الديني، ان ردي عليه انه يستطيع ان يدرس اللغة الإنجليزية وهو باقي في دراسته الأزهرية، وذلك عن طريق الدروس الخاصة من أحد المدرسين الأكفاء، وهذا هو الطريق الوحيد الذي يحقق له ما يصبو إليه. وأنتهي إلى الرسالة الرابعة أو الثانية عشر والأخيرة لشكر لمرسلها الأديب الفاضل محمد فتحي سعيد بدمنهور هذا الإخلاص الرائع للمثل العليا الفكرية، إماالشعر الذي بعث الي به فأود ان يتعهد بالصقل لأرضى عنه بالمستقبل القريب.

أنور المعداوي