مجلة الرسالة/العدد 842/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 842/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 08 - 1949



البلاغة العربية في دور نشأتها

تأليف الدكتور سيد نوفل

بقلم الأستاذ علي العماري

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

2 - ولو أن هذه الروح جاهلية لوجدنا أثرها في عصر البعثة. يوم تحدى القرآن العرب وأفحمهم إفحاماً، فقد لجئوا إلى الطعن عليه طعناً عاماً؛ فقالوا سحر مفترى، وقالوا أساطير الأولين، ولو أن لديهم تلك الروح البيانية لكان من المنتظر أن ينقدوا القرآن على نحوها، وأن يفزعوا إليها في تلك الخصومة العنيفة التي ظلت نيفاً وعشرين سنة، هذا إلى أن تلك الروح للنقد لا أثر لها في العصر الإسلامي، لا عند الأدباء ولا عند متقدمي النحاة واللغويين.

3 - على أن من نحاة القرن الرابع من لم يطمئن إلى ما سبق، أبو الفتح بن جني يحكى عن أبي الفارس أنه طعن في صحة هذه الحكاية. هذه الزيادات لا تثبت للروح العلمية، ولا للتاريخ. وبعيد كل البعد أن توجد ملكة الفكر في النقد الجاهلي، وأن توجد على هذا النحو الدقيق، الذي يحلل ويوازن ويفرق بين الصيغ تفريقاً علمياً.

4 - وردت القصة في الجزء الثاني من نقائض جرير والفرزدق، وليس فيها إشارة إلى شئ من ذكر النابغة أو النقد الذي قيل في عكاظ.

وهكذا يسوق صاحب تاريخ النقد عند العرب الأدلة التي لا تدع مجالاً للاطمئنان إلى صحة هذه القصة، ولكن المؤلف يكتفي بقوله أنها تلائم طبيعة الحياة الفنية، ويرى ذلك داعياً إلى الاطمئنان إليها، أما ما هي الحياة الفنية في ذلك العصر، وكيف تلائمها هذه القصة، فلا خبر، ولا أثر؟

2 - ذكر مذهب الجاحظ في إعجاز القرآن، فقال أنه في نظم القرآن، ولكن الله صرف العرب في الوقت نفسه عن محاولة محاكاته خشية الفتنة. ومر سريعاً، واكتفى بنقل أثبته من كتاب الحيوان والمؤلف في نشأة البلاغة في حاجة شديدة إلى أن يتحدث عن مذه (الصرفة) وما كان له من الأثر في نشأة هذه العلوم، والمؤلف في بلاغة الجاحظ على الخصوص لا يقبل منه أن يلصق هذا المذهب بالجاحظ ثم يمر كأن الأمر من الهوان بحيث تكفي فيه الكلمات. بل كان الواجب أن ينقب في كتب الجاحظ عن هذا المذهب، ويحققه، ويبين مدى تأثر الجاحظ به، ومدى تأثيره في علماء عصره، وقد رجعت إلى النص الذي نقله من كتاب الحيوان، فبدي لي فيه أمر أنا ذاكره بعد أن أثبت هنا ما يقوله الرافعي رحمه الله في نسبة مذهب الصرفة إلى الجاحظ قال عن هذا المذهب أولا (وهو عندنا رأي لو قال به صبية المكاتب وكانوا هم اللذين افتتحوه وابتدعوه لكان ذلك من تخاليطهم في بعض ما يحاولونه إذا عمدوا إلى القول فيما لا يعرفون ليوهموا أنهم قد عرفوا) ثم قال ثانيا عن مذهب الجاحظ نفسه: (أما الجاحظ فإن رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، وله في ذلك أقوال تشير إلى بعضها في موضعه، غير أن الرجل كثير الاضطراب، فإن هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا من عصرهم في منخل. . . ولذلك لم يسلم هو أيضاً من القول بالصرفة، وإن كان قد أخفاها، وأومأ إليها عن عرض، فقد سرد في موضع من كتاب الحيوان طائفة من أنواع العجز وردها في العلة إلى أن الله صرف أوهام الناس عنها، ورفع ذلك القصد من صدورهم ثم عد منها (ما رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة لقراءته بعد أن تحداهم بنظمه) وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أثر أستاذه، وهو شيء ينزل على حكم الملابسة، ويعتري أكثر الناس إلا من تنبه له، أو نبه عليه، أو هو يكون ناقلا ولا ندري).

قلت وفي كلام الجاحظ ما يؤيد الشطر الأول من هذا الكلام وهو أنه يرى في الإعجاز ما يراه أهل العربية، فقد قرأت في كتابه البيان والتبيين تصريحاً بأن العرب يعجزون عن أن يساموا الرسول في البلاغة، قال (فإذا رأت مكانه - يريد النبي - الشعراء، وفهمته الخطباء، ومن تعبد للمعاني، وتعود نظمها، وتنضيدها وتأليفها وتنسيقها، واستخراجها من مدافنها وإثارتها من أماكنها علموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم، واستغرق مجهودهم، وبكثير ما قد خولوه قليلا مما يكون معه على البداهة والفجاءة من غير تقدم في طلبه، واختلاف إلى أهله). فإذا كان هذا رأيه في بلاغة الرسول، فلا يمكن أن يكون رأيه في بلاغة القرآن ما يفهمه العلماء من مذهب الصرفة، وهو أن العرب قادرون على الإتيان بمثل القرآن، ولكن الله صرفهم عن أن يعارضوا على أنه في ذاك الموضع من كتاب الحيوان التصريح بعجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن قال: (وفي كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد. الخ).

هذا. والذي يظهر - والله أعلم - أن القائلين بالصرفة لم يكونوا يقصدون إلى أن العرب قادرون على الإتيان بمثل القرآن، وأن الله صرفهم عن هذا الإتيان، حتى يثبت أن القرآن في متناول البشر، كما فهمه طائفة من العلماء، وأطالوا الرد عليه، وبديهي أن هذا لا يشمل آراء أولئك اللذين صرحوا في مقالاتهم بأن القرآن غير معجز وأن الناس يقدرون على مثله، وعلى أحسن منه، ومن أمثال الجعد بن درهم - وإنما الذي افهمه من مذهبه أن الله منع العرب أن يأتوا بمعارضة للقرآن، مع أنهم غير قادرين عليها، وإنما صرفهم لئلا تكون فتنة، وهذا صريح في كلام صريح في كلام الجاحظ حيث يقول: (وصرف نفوسهم - يعني العرب - عن المعارضة للقرآن بعد أن تحداهم الرسول بنظمه، ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه، ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلف بعضهم ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شبهة لعظمت القصة على الأعراب وأشباه الأعراب، والنساء وأشباه النساء ولألقى ذلك للمسلمين عملا، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض الأعراب، ولكثر القيل والقال) وهذا كلام واضح جداً وصريح في أن الجاحظ لا يجعل الصرف عن المعارضة هو السر في الإعجاز، وإنما يجعل الصرف أمرا ثانويا جاء بعد التحدي والعجز، وأنهم لو عارضوا لوجدوا من يستجيد كما يقول في موضع آخر (فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه، ويكابر فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستجابة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم، وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال) ونحن يعنينا الشطر الأول من هذا الكلام، أما الشطر الثاني فسقناه لأنا نلمح فيه أن الجاحظ يرى أن المعارضة كانت ميسورة للعرب، ولكن بعد التدقيق في كلامه يظهر أنه لم يجعل هذا العجز سراً من أسرار الإعجاز بل جعله دليلا على أن المعارضة لم تكن، ولم يكن لهم أن يأتوا بسورة ولو مفتراة، وليس أدل على عجزهم عن المعارضة أنهم تركوها وهي - لو أمكنت - كانت افسد لأمر الدعوة، وأسرع في تفريق أتباعها، ومما يؤيد ما ذهبت إليه، أن لكل من الجاحظ، وأستاذه النظام - وينسب إليه مذهب الصرفة - رأيا في الإعجاز غير الصرفة، فالنظام يرى أن الإعجاز كان من حيث الإخبار عن الأمور الماضية، والآتية، والجاحظ يرى الإعجاز في النظم، على أن ترديد العلماء في ماهية المذهب يقوي جانبنا (أنظر الطراز ج3ص392). ومهما يكن من شئ فأنا أستبعد أن يكون الجاحظ قائلاً بالصرفة على ما فهمها العلماء، وأرجح أن يكون ذكاها على المعنى الذي أشرت إليه، وفوق كل ذي علم عليم.

4 - في حديثه عن السجع ذكر عبارتين تؤديان إلى حكمين متناقضين وهما يتعلقان بأمر ذي بال، قال: (وليس من شك في أن معارضة المتنبئين للقرآن، واصطناعهم السجع في هذه المعارضة كان له أثر كبير في كراهية النبي والخلفاء له، وخشيتهم الفتنة به) ومعنى هذا الكلام أنه كان للمتنبئين معارضات، ثم قال: (وقد روت كتب السيرة نماذج من سجع مسيلمة وطليحة وسجاح وغيرهم قصد رواتها - في أغلب الظن إلى تسخيف أولئك المتنبئين) ومعنى هذا أن هذه المعارضات من وضع الرواة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن مسيلمة تنبأ في آخر حياة الرسول، فهل بلغت معارضاته حداً جعل الرسول يكره السجع؟ أما طليحة، فإنه وإن كان تنبأ في حياة الرسول، إلا أن أمره لم يعظم إلا بعد وفاته ، وقد ذكر الرافعي أنه لم يدع لنفسه قرآناً لأن قومه من الفصحاء ولم يتابعوه إلا عصبية، وإنما كانت له كلمات يزعم أنها أنزلت عليه، ولم نظفر منها بشيء، ففي أي كتب السيرة وجد المؤلف معارضة لطليحة؟ أما أنا فقد عثرت على كلمة له نشرت في مقال سبق من الرسالة ولكني لم أظفر بها في كتب السيرة، وأما سجاح فتنبأت بعد وفاة الرسول، ولم تدع قرآناً وإنما كانت تزعم أنه يوحي إليها، أفليس من حق العلم على المؤلف أن يحرر عباراته، ويحققها، ولا يلقي القول هكذا. .؟!

5 - وقد سبق أن ذكرت أن في الكتاب مآخذ كثيرة جزئية، وأنا سأعرض منها، وسأفي، ولكني لا أجد مندوحة من ذكر بعض أغلاط، ربما لبست على الناشئة من قراء كتابه: ذكر أن الخطبة التي لم تشتمل على شئ من القرآن تسمى (بتراء) وذكر مثلا لذلك خطبة عمران بن حطان، وليس الأمر كذلك فالخطبة البتراء هي التي لم يحمد الله فيها ابتداء، وذكر كذلك الجاحظ في أول الجزء الثاني من البيان، وذكرته معاجم اللغة ومثلت له بخطبة زياد بن أبيه، ولا محل للإطالة وأما خطبة عمران وأشباهها مما لم يشتمل على شئ من القرآن فتسمى (شوهاء).

وذكر قوله تعالى (إن اللذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً) وقال إن في الآية استعارة، والذي نعرفه أن في الآية مجازا مرسلا، والفرق بينهما معروف للمؤلف.

ولا يسعنا في النهاية إلا أن نثني على المؤلف، ونرجو أن تتبع محاولاته هذه محاولات، وأن يكون - كما يقول - بداية تنتهي إلى غاية.

علي العماري