مجلة الرسالة/العدد 843/القصص
مجلة الرسالة/العدد 843/القصَصُ
الشقاء المقدّس. . .!
(إلى اللائى يعشن في مأتم الروح. . . عزاء من الحياة)
للأستاذ أنور المعداوي
كانت أجمل امرأة في عصرها، وكانت أشقى امرأة. . . أما جمالها فحسبه أنه كان وحياً لأمير النثر الفرنسي شاتوبريان، وأمير الشعر لامرتين، وسيد كتاب القصة الذاتية بنجامان كونستان. وأما شقاؤها فلو قدر لفنان أن يصنع تمثالاً للجمال البائس، أو يرسم لوحة للأمل اليائس، لما وجد لفنه خيراً من قصة مدام ريكامييه!
عندما وفدت إلى باريس عام 1793، كانت الثورة الفرنسية المجنونة تلتهم أبناءها من غير رفق ولا هوادة. وكانت نفس الصغيرة جولييت برنار تفيض أسى ولوعة، لمنظر الذاهبين إلى المقصلة: نساء ورجال، في ميعة الصبا وفجر العمر. . . يذهبون إلى غير رجعة. وشعب يصفق للدماء المراقة تجري هنا وهناك، وهو أبداً ظمآن لا يرتوي!. . . أية نفوس تلك التي خلت من معاني الرحمة وأية قلوب تلك التي تحجرت فلا ينبض فيها عرق بعاطفة، وأية عقول تلك أذهلتها القسوة فلا تصغي لصوت برئ ولا تحفل بشكاة مظلوم؟!. . كانت جولييت الفاتنة تحدث نفسها بهذا كله وهي تصبح وتمسي على منظر واحد: مقصلة، ودماء، وشعب يلهو بضحاياه كما يلهو عالم التشريح بحيوان بائس، يئن تحت أطراف مبضعه. . . ولكم ودت أن تفر من هذا العذاب إلى بلد آخر، تنعم فيه بالهدوء والصفاء والأمن، وتلقي بنفسها في أحضان الطبيعة الحانية: تشبع عينيها من النهار المشمس والليل المقمر، وتملأ رئتيها من الهواء النقي، يحمل إليها رائحة الزهر لا رائحة الدم، وغناء الطير لا أنين الضحايا، وتلقي نفوساً لم يدنسها حقد ولا ضغينة، بل يجمع بينها صفاء ووفاء، ووداعة وقناعة، ولكن أين هي من هذا كله؟. . . لقد قدر لهم منذ أن فتحت عينيها على الوجود، أن تعيش في العذاب: إحساساً ورؤية!
كانت في ربيعها الخامس عشر حين كان مسيو ريكامييه يتردد على بيت أبويها، وكان أبواها يدركان أن ريكامييه الثرى وصاحب المصرف الشهير، لا يتردد على بيتهما إلا لأنه يحب ابنتهما كلُّ الحب، ويعجب بها كلُّ الإعجاب. . . وما أكثر الذين كانوا يتهافتون على جمالها النادر فيرتدون على أعقابهم إلا ريكامييه، فقد وصل. وصل بماله إلى قلب الأم والأب، ولكنه لم يصل إلى قلب جولييت. . . وحين خطبها إلى أبويها ألحا على ابنتهما أن تقبله زوجاً فقبلت على مضض! كان في الأربعين من عمره. . . خمسة وعشرون عاماً تفصل بين قلبين، ومزاجين، وشعورين. وهنا يلتقي الخريف بالربيع، ربيع حياتها بخريف حياته! وعاشت في قصر ريكامييه كما تعيش الملكات، لكنها كانت تحس القفر في كلُّ مكان تطؤه قدماها. . . لقد مضت بها الأيام قلقة متشابهة، لا يشع فيها أمل يبدد من ظلام القلب والروح. أي شباب هذا الذي تقذف به المقادير في خضم من أعاصير الحيرة، فلا يدري على أي شاطئ ترسو سفينة أحلامه وأوهامه؟!. . . لقد مرت شهور ومدام ريكامييه لا تزال عذراء كما كانت. حياة كلها غموض وأسرار، ولقد كان الحياء وحده هو الذي يمنعها أن تسأله عن سره. . . سره الذي طال! أي إنسان هذا الذي يحوطها بعطفه وحبه وحنانه، ثم لا يقربها كما يقرب الأزواج. . .؟! كانت تتعذب في صمت، وتبكي للجمال يذوي بين يدي الحرمان، ولا تجد الجرأة على أن تفاتحه يوما بما يعتلج في نفسها: أليس رجلاً؟ أليس زوجاً؟ ألا يهزه هذا الجمال؟ ألا يصير راهباً إلا حين تربط بينهما المقادير؟! وتتلظى الكلمات على شفتيها كصفوف جيش أعدت للهجوم، وتلتهب الأفكار فيما بينها التهاب القنابل. . . ولكنها حين تلتقي بزوجها وجهاً لوجه، تموت الكلمات، وتخور العزيمة، وتخمد الجرأة، ولا يبقى إلا الحياء يشل منها اللسان، ويجعل منها إنسانة ضعيفة مسلوبة الإرادة! كانت تتلهف إلى شيء واحد. . . هو أن تعلم سره. ولكن سره الرهيب كان أمنية بعيدة المنال، وعاشت مدام ريكامييه وماتت، دون أن تعلم شيئاً. لقد عاشت عذراء، وماتت عذراء!!
ثلاثة هم الذين كانوا يعلمون سر ريكامييه: الله. . . وهو. . . وأمها! أكان يمكن أن يبوح مسيو ريكامييه بسره إلى زوجته ألا ما أقسى سخرية القدر!. . . أيقول لها إنه أبوها، وإنها ثمرة حبه من أمها؟! أمن الممكن هذا؟ زوج وأب؟ وتريد ابنته أن يعاشرها كزوج؟. . . إنه يحنو عليها كما لم يحن على إنسان، ويؤثرها بحبه وعطفه ورعايته، لينسيها على مر الزمن هذا الذي تفكر فيه، ويرمض جوانحها بالعذاب! واستطاع مسيو ريكامييه على الأيام أن يحل الروح نفسها محل الجسد، وان يزيح عن كاهلها كثيراً مما تعانيه.
أما لماذا تزوجها وهو يعلم أنها ابنته، فذلك سر آخر. . . كان ريكامييه من أنصار الملكية، وكان ينتظر يومه الذي لا مفر منه على أيدي الثوار. وكان يدرك أن المقصلة في انتظاره، وإذا كانت قد أخطأته اليوم فلن تخطئه غداً، فلمن يترك ملايينه بعد مصرعه؟ ليس هناك من يستحقها غير ابنته. . جولييت برنار! ومن هنا تزوجها ليكفل لها حياة هنيئة، يسعد فيها هذا الجمال الذي ينتسب إليه. كان يخشى أن يثير الظنون إذا ما ترك لها ثروته دون علاقة تربط بينها وبينه. . . ولكن المقصلة تخطئه، والثوار يغفلون عنه، ويقدر لمسيو ريكامييه أن يعيش ليتعذب وأي عذاب أكثر من هول الشعور الذي كان يرزح تحت أثقاله. . الشعور بأن زوجته هي ابنته؟! لكم ود أن يطلقها ولكنه لم يستطع، إنها ابنته ومن حقها وحدها أن تنعم بثروة أبيها. وماذا يقول زوجها الآخر إذا ما قدر لها أن تتزوج من بعده، حين يكتشف أنها خرجت من بيته وهي عذراء؟! أليس في ذلك ما يجرح كرامته كرجل يعتز برجولته؟ أليس من المحتمل أن يكشف سره فيتهامس به الناس، فلا يلبث أن يكون حديثاً تجهر به الشفاه؟!. . . ويلح عليه العذاب حين يخلو إلى نفسه، ويشعر أن زوجته، تلك الزنبقة الغضة، قد أرغمت على أن تعيش بسببه بين سفى الرمال ولفح السمائم! شيء واحد كان يعجب له مسيو ريكامييه ولا ينتهي له عجب، هو ما تتحلى به ابنته من طهر وعفاف، على الرغم من أن حياتها الزوجية قد خلت من الرجل!. . . لقد كانت مدام ريكامييه محط أنظار الشباب وحديث أمانيهم، يتهافتون عليها في كلُّ مكان من أجل نظرة أو ابتسامة. وما أكثر ما كانت تنظر إليهم وتبتسم لهم، وتضن عليهم بما دون ذاك. . . إنها امرأة، وجميلة، فلم لا تفيض على ركب المعجبين من هذا النبع الفياض، وهم الذين يشعرونها في كلُّ لحظة بأنها إنسانة ساحرة، تنطق بذلك وجوههم فلا حاجة بها إلى مرآة؟! من هنا كان ريكامييه يعجب بها ويعجب لها، ويزداد حبه لزوجته وتقديره لابنته. . . وكانت مدام ريكامييه تنسى مرارة الحرمان حين ترمقها نظرات المعجبين، وحين تنادي شفتيها شفاههم الظامئة، فتمتنع وفاء للزوج، واستجابة للضمير، وإرضاء للدلال!. . . جمال تتقاذفه أمواج الحرمان فحرم من نعيم الحياة وحرم معه الناس، وزهرة ندية بالعطر فواحة بالأرج، عاشت في تربة من عفاف وصون فعزت على القاطفين! كان قصرها في (كليشي) أشبه بندوة عامرة يؤمها رجال السيف والقلم بين حين وحين، وصالوناً من تلك الصالونات الفخمة التي كانت تزجر بها باريس ويقصد إليها المترفون من الرجال والنساء لتغذية العين والفكر والخيال. . . وفي يوم من أيام قصرها الحافلة بالترف والإيناس والمتعة، يقع لمدام ريكامييه حادث يهز كيانها هزاً عنيفاً، وتتذوق في ظلاله طعم الري، وتنسى حرقة الظمأ، وتشعر كما لم تشعر من قبل. . . بأنها امرأة! كان ذلك في حديقة القصر حين ركض وراءها ابن أخت ريكامييه، وكان شاباً جميلاً من ذلك النوع الذي يخلب ألباب العذارى. . . وكانت هي تنفر منه في دلال، وتضحك من عجزه عن اللحاق بها، ولكنه يلحق بها ويحتويها بين ذراعيه. . . وكادت تصعق من هول المفاجأة، فراحت تقاوم في عنف، ولكنها أحست بوجهها يلتهب تحت أنفاسه المحترقة، وبشفتيها تذوبان في شفتيه، وبكيانها يتلاشى في كيانه. وفي غمرة النشوة رأت نفسها تغيب معه في حلم جميل، وتطوق عنقه بذراعيها، وتدفن وجهها في صدره، وتنظر في عينه نظرة طويلة حالمة. . . نظرة امرأة استيقظ في أعماقها الرجل! وحين أفلتت من بين يديه تطلعت إليه كغزال مذعور، وانطلقت تجري إلى القصر. . . كانت تريد أن تخلو إلى نفسها لتستعيد الحلم الجميل مرة أخرى!
حرك هذا الحادث في نفس مدام ريكامييه كلُّ عاطفة خامدة، وأثار كلُّ شعور كامن. . . وراح الفكر الحيران يسبح في خضم الوجود، باحثاً عن أمنيات ضلت طريقها من طول ما لقيت من ظلام وضباب. والذهن الكليل يحلق في أجواء الخيال، بيني من قصور الأوهام ما شاءت فنونه وشجونه. والقلب الثائر يرسل أناته في نبضاته، فلا يسمع لها صدى من عطف حبيب أو رفيق، والروح الشاردة تعبر عالم الأسى والأنين مرتاعة ملتاعة، تنشد الري فلا تجد إلا الظمأ، وتترقب النشوة فلا تحس إلا الألم، وترجو الفرحة فلا تلقى إلا الشجن، ولا تعود من عالمها هذا إلا بأشتات المنى تحتضر!
وتمضي الحياة في طريقها تطوي الأيام حتى تقف بمدام ريكامييه عند يوم لا ينسى. . . لقد رآها نابليون في ذلك اليوم في حفلة من تلك الحفلات الصاخبة التي كان يعج بها قصر أخيه لوسيان!
كان لوسيان يهيم بها، ويتقرب إليها، ويلقي إلى الصيد الجميل بكل ما شاء من شباك، ولكنه لم يكن يظفر إلا بابتسامة عذبة تحمل إليه كثيراً من المعاني. . . ولوسيان من هو؟ جمال تحلم به كلُّ فاتنة، ووزير الداخلية، وأخو القنصل الأول والحاكم بأمره! وعلى كثرة الوجوه الفاتنة التي كانت تزخر بها حجرات القصر وردهاته، فإن نظرات بونابرت النفاذة لم تستقر إلا على وجه مدام ريكامييه، وحين مرت بغيره، راح يسأل الجنرال برنادوت عن هذا الجمال الذي لم يحفل بنظرات القنصل الأول:
- برنادوت. . . أتعرف هذه الفاتنة؟
- أية فاتنة يا مولاي؟!
- تلك التي تتحدث إلى أخي لوسيان. . .
- أتعني مدام ريكاميية يا صاحب الجلالة؟!
وهتف بونابرت في صوت حالم: مدام ريكامييه. . . يالها من امرأة. . .!
وغادر المكان وفي رأسه ثورة تحتدم. . . لقد قرر أن ينالها مهما يكن، وأن يكن الثمن، وأن يخوضها معركة حامية. . . ضد امرأة!
ويا لها من معركة كانت أسلحتها من أهداب وجفون. . . معركة لم يكن يقدر لها أن تطول، وأن تنتهي بهزيمة! لقد جرب القائد الشجاع كلُّ سلاح، واستنفذ كلُّ خطة، وحارب في كلُّ ميدان، وحين باء بالخذلان راح يصب نقمتة على الجمال الغادر. . . وابتدأت حياة العذاب، تلفح بنارها الوجه المشرق، والثغر الباسم، والعينين الساحرتين. . . وعلى مر السنين، وتحت وطأة الشجن، ذبل السباب النصر، وسكت الصوت العذب إلا من أنات!
لقد بدأ النضال بين بونابرت ومدام ريكامييه في ذلك اليوم الذي قبض فيه على أبيها، أعنى زوج أمها ليحاكم في اليوم التالي بتهمة الخيانة العظمى. . . كان الرجل مديراً عاماً للبريد، وكان من الذين يدينون بالولاء للنظام الملكي، فاشترك في إيصال بعض المكاتبات للحزب الملكي الذي كان يعمل في الخفاء ضد الحكم القنصلي. . . لقد خارت قواها في ذلك اليوم من هول الصدمة، ومضت تنشد العون عند كلُّ صديق، لتبعد شبح المقصلة عن الرجل الذي كانت تظنه أباها. ويتوسط لها الجنرال برنادوت، ويصحبها إلى قصر التويلري لمقابلة القنصل الأول، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يرى فيها بونابرت مدام ريكامييه. . . وخضع الجبار لسطوة الجمال القاهر، فأمر بحفظ الدعوى والإفراج عن الرجل! وخيل إلى الصقر الفرنسي أنه بهذا الصنيع الذي أسداه إلى الحمامة الوديعة، خيل إليه أنه يستطيع أن يدنيها منه حين يشاء، وأن يخضعها لرغباته!
وتدور عجلة الزمن، ويصبح القنصل الأول إمبراطوراً تدين له فرنسا وما حولها بالطاعة والولاء. وعلى الرغم من المهام الكثيرة الملقاة على عاتقه، وما يشغل فكره من أمجاد وأطماع، فإن صورة مدام ريكامييه ما فتئت تداعب أحلامه وأمانيه. . . عرض عليها أن تكون وصيفة لزوجته الإمبراطورة فاعتذرت عن قبول هذا الشرف في لطف ولباقة! كانت خطة محكمة رسمها القائد العظيم لينهي بها المعركة التي طالت، وكان يهدف من ورائها إلى يدني منه مدام ريكامييه. . . وحين ألح عليها أن تقبل ما عرضه عليها، اعتذرت مرة أخرى في عزم وإباء. . . كلُّ شيء قد خضع لنابليون إلا مدام ريكامييه! ومن هنا أعلنها حرباً سافرة لا تبقي ولا تذر. . . وتحت ضرباته الرهيبة المتوالية، هوى الجمال النادر من قمة الثراء إلى حضيض الفاقة. . . وفقدت مدام ريكاميية كلُّ صديق، وانطلقت الأراجيف تنال من سمعتها كلُّ منال، ولقي كلُّ من ينتسب إليها أعنف ألوان الاضطهاد والتشريد. . . هذه صديقتها الكاتبة الفرنسية الشهيرة مدام دي ستايل يلقي بها بونابرت بعيداً عن أرض الوطن، ولا يلبث أن يلحق بها صديقها الآخر بنجامان كونستان! أما مسيو ريكامييه فقد أمر بونابرت بأن يقطع عنه بنك فرنسا كلُّ معونة مالية، وأسرع الناس يسحبون ودائعهم من مصرفه، وحين أوشك على الإفلاس، لم تجد مدام ريكامييه بداً من أن تتوسل إلى الجنرال مينو حاكم باريس ليشفع لها لدى الإمبراطور. . . ويرفض بونابرت، ويصيح بشماته صارخاً في وجه صديقه:
قل لمدام ريكامييه إنني لست عشيقاً لها حتى أنتشلها من مهاويها. . . وهكذا تردَّى مسيو ريكامييه إلى هوة الفقر والشقاء، وذاقت معه مدام ريكامييه طعم البؤس والحرمان كما لم يذقه إنسان
وحين فقدت أمها وهي آخر أحبابها وأعز أمانيها؛ قررت أن تهجر فرنسا أرض العذاب، لتلحق بصديقتها الوفية مدام دي ستايل. . . وهناك على شاطئ بحيرة ليمان في سويسرا، التقى قلب بقلب، وتصافحت روح بروح، وامتزجت دموع بدموع! وفي رحاب صديقتها وعلى مر الأيام استطاعت مدام ريكامييه أن تنسى بعض آلامها وأن تجد لقلبها بعض العزاء. . . لقد التقى بها أحد الأمراء البروسيين، وكان له من جماله وشبابه ونبل محتده ما ألهب عواطفها الخامدة. وحين صارحها بحبه، تفتح له قلبها المغلق كما تتفتح الزهرة تحت أنداء الفجر. . . وراحت تكتب إلى زوجها مسيو ريكامييه، طالبة إليه أن يطلقها لتتزوج من الرجل الذي أحبها وأحبته. وعندما تلقت رد زوجها من باريس لم تملك إلا أن تبلل سطوره بالدمع! ومضت تقرأ وهي لا تكاد تتماسك من الأسى واللوعة: (عزيزتي جولييت. . . لم أكن أنتظر أن أفقد كلُّ شيء في دنياي حتى زوجتي الحبيبة. . . ذلك الأمل الأخير الذي كان يسطع في أفق حياتي فينير لي الطريق. . . ما أقساك يا جولييت؟. . . إنك لا ترحمين وحدتي وغربة روحي. أتريدين أن تتخلي عني لأنني أصبحت فقيراً؟. . . أنا الذي ضحيت بمالي في سبيل إسعادك!. . . إن كان ذلك يسعدك يا جولييت، فلا يسعني إلا أن أفسح لك الطريق. . . وإلا أن أدعو لك الله. . . دعاء تباركه الدموع). وحين فرغت من تلاوة رسالته الحزينة، تطلعت إلى الأمير أوجست وهي تقول له: يا صديقي، أرجو أن تغفر لي. . . لقد عدت إلى قلبي أسأله، فوجدت أن زوجي هو الرجل الوحيد الذي أحببته. . . لك دعواتي، ووداعاً! وشدت رحالها مرة أخرى إلى فرنسا إلى أرض العذاب، فما عادت تطيق البقاء في ذلك المكان الذي لف حبها في أكفانه.
وإلى جانب مسيو ريكامييه راحت في مأتم الأحلام تقتات على بقايا الذكريات. . . ولكن الذكريات تلح على القلب الحزين فيطول ليلها ويطول أرقها في رحاب الشجن. ويشير عليها الأطباء بتناول بعض المخدرات لتمنع عن نفسها الأرق فلا يفلح الدواء. . . ويخطر لها ذات يوم أن تضع حداً لهذه الحياة المريرة، فتتناول زجاجة فيها سائل مميت، وحين تهم بوضعها على شفتيها يسرع ريكامييه وهو لا يملك نفسه من الفزع. . . ويختطفها من يديها وهو يصيح صيحة ملتاعة: ابنتي. . . ابنتي!. وتطلعت إليه في ذهول كمن أفاق من حلم مروع، وأخذت تنظر إلى عينيه كأنما تريد أن تستل من أعماقها سر ما نطق به لسانه. . . وحين أوشك ريكامييه أن يفضي إليها بسره الرهيب، دخل أبوها برنار! وانتابها شعور خفي لم تدرك له كنها، شعور فيه حيرة تجلت في عينيها تساؤلاً ولهفة، ومضت تنقل بصرها بين الرجلين، وصاحت وهي ترتمي في أحضان برنار: أبي. . . أحبك يا أبي! أما ريكامييه فكان يغالب دموعه!! وعلى الرغم من كلُّ هذا العذاب، فقد أمر نابليون بنفيها إلى خارج فرنسا حين علم أن بعض الرسائل تصلها من مدام دي ستايل، تلك الكاتبة التي أصلته بقلمها ناراً حامية، هي وصديقها بنجامان كونستان. . . ومرة أخرى يممت شطر صديقتها الوفية، والتقى قلب بقلب، وتصافحت روح بروح، وامتزجت دموع بدموع!
وحين دالت دولة الجبار، عادت من جديد إلى أرض العذاب لتقضي بقية أيامها في أحد الأديرة. . . بعيداً عن الناس. وفي مكانها هذه المنعزل يقضي إلى جانبها أمير النثر الفرنسي شاتوبريان أكثر أوقاته، ويضفي عليها من عذوبة روحه، وسحر حديثه، وذوب قلبه، ما يعزيها عن فقد الأحباب، ولكن أين من يعزيها عن فقد الشباب؛ لقد أطفأت الأيام بريق عينيها، وعبثت بنضارة وجهها، وحكمت على شبابها بالأفول!
وقالت له وهو يعرض عليها أن تكون شريكة حياته: يا صديقي. . . إن حبك لي هو آخر واحة ترسل ظلالها في صحراء حياتي. . . ولكن أصوات من سبقوني إلى الله، تهتف بي أن أظل كما كنت. . . مدام ريكامييه!. . ومع ذلك فماذا يجدي من التقاء قلبينا وضم جسمينا، ونحن نحث الخطى إلى القبر؟!.
وهكذا عاشت مدام ريكامييه. . . وكانت حياة كلها شقاء. . . شقاء مقدس!!
أنور المعداوي