مجلة الرسالة/العدد 844/أنا. . . والقمر!

مجلة الرسالة/العدد 844/أنا. . . والقمر!

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 09 - 1949



للأستاذ راجي الراعي

لقيت القمر أمس، وكان بدراً، وإليك ما دار بيننا:

- من أنت أيها القمر؟!

- أنا. . . أنا هو القمر!

- ولم هذه الغطرسة؟!

- ألا ترى أين أنا؟ إني أتوسط الأفق. . .!

- ولكنك مع علائك لست بالعصامي، فأنت تستعير نورك من الشمس. . .

- وهل ترى في ذلك ما يشير إلى الضعف. . . من هو الذي لا يحتاج ولا يستعير ولا يستجير. . . أتحسب أن في الأرض والسماء حراً مستقلا غير الله؟. . . الإنسان مدين لدمه، ودمه مدين للأرض التي غذته بثمارها، والأرض مدينة لعناصرها التي تصون كيانها، وقلب الأرض مدين لقلب الأفق الذي يسقيه ويحييه. . . الغمامة التي تراها عالقة بأهداب السماء، مدينة للبحر الذي قذف بها إلى سمائها. . . البحار مدينة للأنهار، والأنهار للينابيع، والينابيع للجبال، والجبال لذرتها التي تضامنت فكونتها. . . نعم، أنا مدين للشمس، والشمس مدينة لدائنها، ودائنها مدين لدائنه. . . الحياة مدينة للأرحام التي تقذف لها بالأجنة، والموت مدين للحياة التي تملأ لحوده. . . القرون مدين بعضها لبعض، وكلها مدينة للرجل الأول. . الموسيقى والغرام والتصوير والنقش والشعر فنون مدينة للخيال، والخيال مدين للمرأة، والمرأة مدينة للحب والجمال. . . الليل مدين لشمس التي غابت، فلولاها لم يضرب خيامه في الأرض، والفجر مدين لليل، فلولاه لم يطلع. . . أنا مدين للشمس أستعير نورها، ولكن الليالي مدينة لي، وأنت مدين لي ساعة تتسكع في الظلمة، وساعة أثير صدر حبيبتك النابض في ظلى فتضمك إليه، إن في كل قبلة من قبل حبك شيئاً مني. . . أنا هو القمر. . . أنا القمر. . أنا البدر وكفى. . .

- ما عهدتك يا صاحبي فصيحاً إلى هذا الحد وغزيراً. . . ولم أر قبلك من يدافع عن نفسه بمثل هذه البلاغة. . . حقاً إنك لنقيب المحامين، وإنك لجميل، وأجمل ما فيك وضوحك وجلاؤك! عبقريتك عبقرية الوضوح والجلاء. . . ليس فيك شئ من الإبه والاضطراب، وهي نعمة أحسدك عليها. . .

- لا، لا تحسبها نعمة ولا تحسدني. . . أرأيت تلك النجمة التي تقلق الناظرين إليها وتدفعهم إلى السؤال عن وجهها، إنها أجمل مني، لأنها تحجب بعض ما فيها عن الخلائق ولا ترفع الحجاب عن محياها فيبدو بكل ما فيه، ولا تقف مثلي على ملتقى الطرق لتهدي بوضوحها التائهين. . . إنها تتشبث بسرها، وتخفي عنك ضميرها، فهي ليست عارية مثلي، وعيبي الذي تحسبه جمالا هو أنني نزعت كل ثيابي وانبطحت أمامك فأريتك نفسي. . . أنا رجل ساذج أبله. . . وهل يتعرى أمام الناس إلا السذج البله. . أنا رجل صريح سرَّه في وجهه وقلبه على لسانه، ولكن صراحتي وسذاجتي ووضوحي صور لا يعرضها الجمال الحقيقي على لوحته، فهو يرتاح إلى ما تفتش عنه العيون، إلى الأسرار، إلى الإبهام الذي يهز أعماق النفوس ويثيرها. . انظر إلى الموسيقى كيف تؤجج النار في نفسك كلما زادت إبهاماً، وانظر إلى الليل كيف يقلّب صفحات قلبك وأنت تتلمس فيه طريقك، والى المستقبل كيف يجذبك إليه وأنت محجوب عنه، والى الشعر كيف يطربك وأنت لا تدري لذلك من سبب، والى الحب المفعم باللذات لأنك لا تعرف له بداية ولا نهاية. . . حبذا لو كان لي وشاح واحد من أوشحة هذا الليل الذي يكتنفني!

- ما الذي تراه فيك جميلا أيها القمر البدر؟

- رأفتي بالمتسكعين في الظلمة!

- ولمن أَنت؟

- أنا لامي الشمس

- من هو عدوك الأكبر؟

- الفجر

- من يقيم في دارك؟

- العاشق والفيلسوف والشاعر

- ومن أيضاً؟

- المرأة. . . المرأة. . . المرأة!

- كيف تحتج أيها القمر، وكيف تغضب إذا ما طفحت كأسك وضاق صدرك؟ - بخسوفي

- هل جاءك يوماً جارك النسر وهمس في أذنيك من كلماته؟

- أنا في رأفتي بالعباد أكره منقار الذي ينقض به على الفريسة. . .

- كيف أنت والنجوم؟

- القوي والضعيف لا يتحابان ولا يتصافيان. . .

- هل أنت راض عن الليل؟

- لي معه يومان: يوم ولاء، ويوم عداء!

- ألم تسأم من العلياء؟

- ومن يسأم منها؟

- ألم تحدثك نفسك يوماً بالتخلي عن عرشك؟

فضحك القمر البدر حتى ضحكت لضحكه، وما زلنا نضحك في أعالي الفضاء حتى أقبل علينا الفجر متململا من ثرثرتها وانقض على جنون البدر وجنوني، وأعادنا من سماء الخيال الرفيع إلى الحقيقة الكثيفة. . .

راجي الراعي