مجلة الرسالة/العدد 845/الظمآن. .!
مجلة الرسالة/العدد 845/الظمآن. .!
للأستاذ راجي الراعي
في ذلك المساء كنت عائداً إلى بيتي لأطرح على عتبته أعباء اليوم وأنا أمسح العرق الذي يتفصد به جبيني وألتقط حجارة البؤس وأرجم بها الدنيا، فشعرت بيد ناعمة تمتد إلى ونظرت فإذا بشبح في عينيه ألف شعاع انتصب أمامي وبادرني قائلاً: أنت من البائسين ولكن خفف عنك فالحياة التي ترجمها تدعوك الليلة إلى جلسة شراب تقيمها لك ولأمثالك في القصر القائم على تلك الرابية التي تراها فاذهب واشرب وتمتع، فسألته: ومن تكون أيها الشبح المشع؟ فأجاب: أنا الرحمة، وما هي إلا طرفة عين حتى حملة النسيم وتوارى عني فقلت لنفسي: هل لمثلي أن يتمتع بشيء في هذه الدنيا؟ هي ولا شك مهزلة جديدة فلأذهب إليها لأشهد فصولها وواصلت السير إلى حيث ألقيت بأحمالي على عتبة البيت، وخرجت والليل يشتملني، أهبط الوادي وأتسلق الجبل حتى بلغت القصر فإذا هو يعج بالخلائق يتدافعون بالمناكب ليستمعوا إلى الكلمات التي كانت تعيدها عليهم امرأة توسطت المكان، طويلة القامة بدينة، ورحت أشق الصفوف المتواصلة حتى دنوت من تلك المرأة فسمعتها تقول: أنا الحياة. . . أعرف أنكم البائسون من أبنائي الذين طالما عبست في وجوههم وقد رأيت أن أجمعكم منذ اليوم مرة في العام لأعرض لكم أثمن ما لدي من الكؤوس وأسكب لكم منها فتبتل شفاههم الجافة ببعض ما حرمتموه من دناني. . . أنا الحياة، ولي كؤوس وأفخرها وأجملها وأعزها ثلاث:
ورفعت بيدها الكأس الأولى وقالت: هذه هي الكأس الصفراء كأس الثروة من شربها اتسع أمامه مدى العيش وأقام القصور الناطحة السحاب واقتنى الأرض الفسيحة الرحاب ونال ما يشتهيه من الطيبات وتحدى الأقدار، ورفل بالدمقس والحرير وبسط الموائد المثقلة بما لذ وطاب من الطعام والشراب. . . ورمت الحضور بقبضة من الدنانير فهجموا يلتقطونها وصبت خمرة الثروة فشربوا جميعهم. . . أما أنا فلم أشرب. . .
ثم رفعت الكأس الثانية وقالت: هذه كأس الكؤوس، كأس المرأة يحفها الحب والجمال، من شربها فرشت له الجنات تجري من تحتها الأنهار وتدفقت عليه قبل الحسان وحملته أجنحة القلب إلى آفاق الغبطة والنعيم وتنشق الرياحين وسجع له الحمام وانتقل بين الزهر والورد وذاق الشهد. . . وأطلقت في تلك القاعات فتاة غضة بضة سمراء الوجه دعجاء العينين رشيقة القد يفوح منها عبير الحسن وتشع عيناها بالإغراء والفتنة فتخاطفت وجنتيها وتنافست في ثغرها القبلات. . . وصبت الحياة خمرة المرأة فشرب الجميع. . أما أنا فلم أشرب. . .
ورفعت الكأس الثالثة وقالت هذه هي الكأس الحمراء، كأس المجد، كأس الفاتحين الغزاة من شربها دقت له الطبول وخفقت في سمائه الرايات وسارت في ركابه الجيوش واكتسح البلدان وأخضع الشعوب وثمل بخمرة النصر ونصبت له التماثيل والعروش. . . ودارت في الناس بأكاليل من الغار فزينوا بها رؤوسهم، وصبت خمرة المجد فشرب الجميع. . . أما أنا فلم أشرب. . .
كنا عشرة آلاف من بائسي (هيجو) يغص بنا القصر، وكان الجميع من حولي يهللون للحياة ويترنحون بخصرها ويثنون على كرمها وحنانها إذ جادت عليهم وهم المحرومون بساعة من ساعات نعيمها. . وكانت الحياة تطرب لبنيها وهم يطربون ولكن ساءها أن لا أكون من دعاتها المهللين وسكاراها الطروبين وراحت تسأل عني وقد جرحت كبريائها وما لبثت أن أقبلت علي والعيون تحدق إلينا والفوم يتهامسون وسألتني: من أنت؟ فأجبتها: أنا الظمأ. . الظمأ القامح، الظمأ كله! فقالت: ولم لا تشرب من كؤوسي التي أدرتها على رفاقك؟ فقلت: أنت تجهلين نفسك أو تعرفينها ولكنك تخدعين فالكؤوس التي عرضتها وسكبت فيها أيتها الضالة المضللة كؤوس وهمية خداعة لا تجدي ولا تروى. . إنك لا تستطيعين أن تعطي أكثر مما عندك، وما عندك ليس بالشيء الكثير ولا هو بالترياق لعليل مثلي فلو أعطيتني كل ما لديك من الذهب ونفحتني بكل ما لديك من النساء وصور الحب والجمال وزينت رأسي بكل ما لديك من أكاليل الغار ووهبتني الدنيا بأسرها لما اكتفيت ولا هدأت نفسي. . ما الفائدة من الكأس إذا لم ترو شاربها؟ أنا هو الإنسان، أنا هو الظمأ المستديم وليس في كؤوسك ما يرويني، أنا لسان من اللهيب يندلع وليس في وسعك أن تقطعيه، أنا نار ليس في يدك رمادها. . إن بينك وبين نفسي منذ تعرف أحدنا إلى الآخر لفلوات شاسعات كتب لي أن أظل مكتوباً بضرامها حتى يفتح الله لي شرفة من دارك على الآخرة حيث آمل أن أرى وجه الله وأذوب فيه وأرتوي. . أنا الظمأ وأنت لا ترويني، أنا الإنسان الكبير وأنت الحياة الصغيرة وما هو ذهبك، ما هي نساؤك وما هو مجدك إذا جاشت الجائشات في صدري وأطلقت خيالي. . . أنا ظمآن، ظمآن إلى الله وأنت كافرة ظمآن إلى الحق وأنت الباطل، ظمآن إلى الوفاء وأنت الخيانة، ظمآن إلى الخلود وفي كأسك ثمالة الموت! أنا ظمآن خلقت ظمآن من قوم ظامئين وأجتاز صحاريك ظامئاً وسأموت ولساني جاف وشفتاي المرتعشتان تتلمسان الغيب وتلتهبان شوقاً وحنيناً إلى الماء الذي هو الماء والخمرة التي هي الخمرة. . ومن أجل ذلك أنا واجم كئيب وبائس يائس فلا ترأفي بي أيتها الحياة، إن رأفتك لا تجديني ولا تفخري بكؤوسك بعد اليوم ولا تسكبيها فهي تؤلمني ولا تكفيني. . .
راجي الراعي