مجلة الرسالة/العدد 847/صور من الحياة:

مجلة الرسالة/العدد 847/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 09 - 1949



ربة الشاطئ

للأستاذ كامل محمود حبيب

يا ويح قلب ينبض بالحب والهوى ةيخفق بالصبا والغرام على حين قد جاوز سن الطيش وطوى أيام العبث! ولكن ماذا عسى أن يضير المرء إن هو نفض عن نفسه أغلالها ساعة من الزمان ليستمتع برواء الحياة ورونق العمر، هناك على سِيف البحر، حيث تضطرب الدنيا بالجمال والمرح وتموج الأرض بالشباب والحركة؟

لشد ما راع صاحبي أن أستمرئ الوحدة وأستعذب الخلوة فأقضي صدر يومي وحيداً في ناحية من الشاطئ، أستروح نسمات البحر في شغف ولذة، وأنشق عبير الحياة في هدوء بعيداً عن نزوات الشاطئ ومباذله، وأنطوي على نفسي أحدثها حديث عقلي حيناً وحديث قلبي حيناً آخر، ثم أوفق خواطري بين أضعاف كتاب اخترته رفيقاً لي. ولشد ما آذاه أن ألصق في مكاني لا أريم إلا حين تدعوني حاجات الدار أو رغبات الابن أو شهوة البطن.

وإنه لنزَّاع إلى اللذة وصاحبي فتى عذب تتدفق الحياة في قلبه مرحاً وسعادة، وتتألق الدنيا في ناظريه حبوراً ودعة، تجذبه الفكاهة ويستخفه الطرب، لا تشغله الزوجة ولا يرهقه الولد ولا تثقله الدار.

وعجب صاحبي أن أفزع من حر القاهرة لأتخذ خلوة على الشاطئ، فأراد أن يستشف ما وراء. . . وحاول - مرات ومرات - أن يكشف عن سر صاحبه - أنا - وإنه ليرى فيه شغل البال وقلق الضمير، فما كان ليظفر مني إلا بنظرة خاطفة أو كلمة عابرة ثم يضيق بي فينطلق من لدني ليتسكع على الشاطئ أو ليسبح في البحر أو ليملأ ناظريه من جمال الأجسام العارية الملقاة على الرمال.

ولكن صاحبي كان ضيق الصدر قليل الصبر فأصر على أن ينفذ إلى سر نفسي - كزعمه - في لباقة ومكر، فجلس إليَّ يحدثني قائلاً: هلا حدثتني عن بعض ما يفدحك؟ (قلت) يفدحني؟ يفدحني أنا؟ ماذا بك؟ (قال) لعلك جئت إلى هنا تريد أن تدفن همومك في رمال الشاطئ أو تطمع في أن تغرقها في لجة اليم! فقلت له مقاطعاً (على رسلك! يا صاحبي) ولكنه استمر في حديثه لا يعبأ: فلما أعجزك أن تفعل جلست في ناحية تبدأ فيها ثم تعيد فعميت عن أن ترى هنا غير خواطرك السود وتفعم الشاطئ والبحر معاً وتسدل بينك وبين الحياة ستراً ثقيلاً (قلت) ها. . . ها! وَيْ كأنَّ حاجة في نفسك دفعتك إلى أن توهمني بأن أعباء تثقلني لتبلغ غاية في نفسك! (قال) فما بالي أراك ساكتاً في سهوم تنضم على خطرات قلبك وتنطوي على دفعات نفسك تغضي الطرف عن الدنيا في قناعة وتكبت القلب عن المتعة في زهد ومن حواليك بسمات الشاطئ تتكشف عن نشوة ولذة (قلت) وماذا عساي أن أفعل وأنا من ترى؟ ثم أشرت إلى شعرات بيض تلمع في فودي. فقال (أرى؟ أرى؟) ثم جذبني وهو يضحك في سخرية ويقول (أراك شاب القلب واليد واللسان!)

وألقيت السلم إلى صاحبي وفي رأيي أنني أهرب من سجني. . . من المظلة والكتاب، وخُيَّل إليَّ أن المظلة هي سجن جسمي وأن الكتاب هو سجن عقلي، فانطلقت إلى جانبه.

واندفع صاحبي ينشر أمامي تاريخ قلبه منذ أن فزعنا من لظى القاهرة إلى ربيع الإسكندرية، ومنذ أن انطلق هو على سنته تدفعه حرية الشباب والعزوبة، وجلست أنا تحت المظلة تقيدني أغلال الرجولة والأسرة. وقال فيما قال. . . ورأيت هنا ربة الشاطئ، وهي فتاة أشربت روح الخمر، في جسمها نشوة، وفي عطرها سكر، وفي نظراتها سحر، هي زهرة الشاطئ اليانعة وجماله الخلاب وروحه الرفافة، وهي. . . (فقلت مقاطعاً) كفى! لقد أصبحت شاعراً وعهدي بك بليد اللسان بليد العاطفة. ولا عجب، فالشاطئ الآن - في ناظريك - يلد ألف ربة (قال) لا تعجب فسأريكها.

وأقبلت ربة الشاطئ تتهادى في رقة وتخطر في دلال فتعلق بها بصري ما يطرف، ورأيت فتاة تشع جمالاً يعصف بالقلب ويعبث بالفؤاد، وهي تسير الهويني في تبَّان أنيق حاكته يد صناغ فبدت عليه سمات الذوق السليم والفن السامي، وإنه ليكشف عن فتنة يقظي ويواري فتنة عارمة، وإن نسمات البحر الهادئة تداعب شعرها الذهبي المرسل فيضطرب على كتفيها ويداري صفحة خدها الأسيل حيناً ويكشف عنها حيناً فتتراءى الروعة والبهاء من خلالها. ورأيت في نظراتها عزوفاً عن التطلع وفي مشيتها كبرياء الأنفة وفي حركتها امتهاناً للنظرات النهمة وفي أذنيها وقراً عن كلمات الإعجاب والملق، كأنها تعيش في عالمها هي. . . عالم الجمال والسحر والفتنة، عالم السمو الترفع والصلف. ومرَّت بي فأحسست بقلبي يعربد بين ضلوعي في شدَّة وعنف ويتشبث بها في إصرار وعناد فوهي ما اشتدَّ من عزمي وتحطم ما تماسك من قوتي، وحاولت عبثاً أن أصرف عنها خواطري لأن قلبي كان قد علقها على حين غفلة مني. ورأيتني أندفع خلفها، بالرغم مني، وأنا أجرُّ صاحبي خشية يبتلعها الجمع الزاخر على سيف البحر.

وانتحت ربة الشاطئ مكاناً قصياً من منأى عن أمواج البشرية المتلاطمة على سيف البحر عسى أن تسكن ساعة إلى نفسها. وهناك، نزلت إلى البحر ثم اندفعت بين طيات الماء تصارع الموج في عزيمة لا تخشى نصباً ولا رهباً.

وفي صباح اليوم التالي شهد الشاطئ أمراً عجيباً، شهد هذا الرجل الذي ظلَّ أياماً طوالاً يعيش في ثنايا فلسفته، ينطوي على نفسه ويسكن إلى كتابه وحيداً تحت مظلة لا يمل الوحدة ولا يأنس إلى رفيق. . . شهده - لأول مرَّة - يذرع الشاطئ في تبَّانه وبرنسه ونظراته زائغة ما تستقر وعقله قلق ما يهدأ وفؤاده مضطرب ما يسكن.

وحين اندفعت ربة الشاطئ إلى البحر - كدأبها - اندفعت أنا من ورائها أغالب الموج وأنا أحس بفورة الشباب تتدفق في عروقي وتدفعني - في حرارة - إلى غاية. وشعرت الفتاة بي وأنا أتأثرها في خفة وصمت فنظرت فارتاعت - بادئ ذي بدء - ولكن حديثي بعث في نفسها الرضا والطمأنينة، فانطلقنا معاً جنباً إلى جنب لا أستشعر الكلال ولا أحس التعب

وعدنا إلى الشاطئ صديقين جمعتنا أمواج البحر على الصفاء ساعة فيها لذة القلب وسعادة العمر، عدنا لنتلاقى - بين الحين والحين - على ميعاد.

وأحسست بالسعادة تتسرب إلى قلبي وبالهدوء يتدفق في فؤادي وبالنشاط يتألق في عروقي وبالشباب يفعم روحي، وانطوت أيام. . .

لك الله يا صاحبي! لقد جذبتني من خلوتي لأكون صديق روحاتك ورفيق غدواتك، ففقدت في الصاحب والرفيق حين دفعتني إلى الفتاة التي سحرتك. . إلى ربة الشاطئ.

وعز علي صاحبي أن تستشعر الدار فقدي، وهو من ذوي قرابتي الأدنين، وأن يحس هو مني الإهمال وإنه لذو دالة علي، فجاء يشكوني إلى نفسي. وأنصت إلى حديثه بأذني وقلبي هناك. هناك عند الفترة التي صرفتني عن الزوجة والابن والدار جميعاً.

وبدا لعينيه أن الفتاة قد سيطرت على مشاعري فغدوت مسلوب العقل مختلب اللب لا أجد النور إلا من خلال نظراتها الساحرة ولا ألمس السعادة إلا في نبرات صوتها الموسيقي ولا أحس بالدفء إلا إلى جانبها، فأراد أن يبلغ غايته من بين خفقات قلبي، فقال: (لقد شغلت - منذ حين - عني وأنا أطمع أن أظفر ببعض وقتك لأصحبك في نزهة جميلة) قلت في جفوة (أي نزهة تريد؟) قال (نقضي معاً سهرة الليلة في كازينو كذا) قلت (ولكنني أمقت السهر لأنه عناء ينفث العلة في الجسم ويبذر الضعف في الشباب وبلد الخبل في العقل) قال (إنك ولا ريب تحتال لتضنَّ عليّ ببعض فراغك، وأنا معك من تعلم) ثم نظر إلى نظرة فيها الرجاء والاستعطاف رق لها قلبي فما استطعت أن أرفض طلبته.

وهناك في الكازينو شملني جو المرح وسيطرت علي روح البهجة فرحت أنا وصاحبي نبعث في هدوء ونسخر في أدب ونضحك في رقة. وعلى حين فجأة قال لي صاحبي وهو يشير إلى المسرح (انظر، ما أجمل هذه الراقصة!) ونظرت. . . نظرت فإذا الراقصة هي فتاتي. . . هي ربة الشاطئ.

وأصابتني الدهشة والذهول لما رأيت. إنها راقصة من بنات الهوى تنفث السم في قلوب الناس لتسرق الرجل من رجولته وماله وتستلب الزوج من زوجته وأولاده. إنها عون الشيطان يريد أن يهدم الدار ويشتت شمل الأسرة.

وهدني الحزن لما رأيتها - بعد حين - تتنقل بين موائد الشباب والشيوخ على السواء كذبابة خمصانة بها نهم فهي تسقط فلا تسقط إلا على القذر والنتن. وأوشك الأسى أن يعصف بي لولا صبابة من رجولة ما تبرح تتأجج بين ضلوعي.

وانطلقت إليها وفي نفسي ثورة مكفوفة، ورحت أهزها في عنف وأحدثها في كمد ثم دفعتها عني وأنا أناديها وداعاً. . . وداعاً، يا ربة الشاطئ).

يا ربة الشاطئ! إن حب الابن في قلب الرجل فوق حبك، وإن هوى الزوجة فوق هواك، وإن راحة الدار فوق رغباتك! فوداعاً. . . وداعاً يا ربة الشاطئ.

كامل محمود حبيب