مجلة الرسالة/العدد 848/صور من الحياة:
مجلة الرسالة/العدد 848/صور من الحياة:
وفاء. .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قلت لصاحبي: ما لهذا الرجل يسير الهويني يتخلع في مشيته وإن إهابه يكاد ينقد من أثر الخيلاء، وينفض الشاطئ بالنظر الشزر وإنه ليتنزى ترفعاً وكبرياءً، ويزهي في تبَّانه وبرنسه وقد ورم أنفه من صلف كأنه رب هذا البحر لا يلوي على أحد ولا ينزل إلى دنيا الناس ولا تتطامن من عظمته ولا تهدأ غطرسته!
فقال صاحبي: آه إن في الناس رجالاً لو انشقَّ عنهم ثوب الإنسان لتراءت من ثناياه صورة خنزير أو حمار. وإن لهذا الرجل حديثاً عجيباً لو اطلعت عليه لألفيته ذئباً لا يترفع عن أن يبلغ في دم الإنسان حتى يرتوي. وإنه ليتصنع ما ترى ليوهم الناس بأنه شيء وما هو بشيء.
قلت لصاحبي: إن له حديثاً؟ هاته! فإن في النفس شوقاً إلى حديثك فأنا أحس فيه طلاوة وراءً وعقلاً.
قال: هذا الرجل ضابط كبير في الجيش، والجيش دائماً رمز القوة والفتوة وعلامة الترفع والإباء، وهو مدرسة تعلم الرجل كيف يصبح قوي القلب في شجاعة، ثبت الحنان في حزم، رابط الجأش في عزم، شديد المراس في بأس. ليكون - حين يجد الجد - فتى الوطن الأول يذود عن حوضه ويحمي حوزته، لا يقعد عن أن يغشى غمرات الموت في غير رهبة، ولا يفزع عن أن يرد مضلاَّت الردى في غير خوف، فهو فخر الوطن عند الجلاد وذخره في ميدان الجهاد. ولكن هذا الرجل تاه في نزوات نفسه فما لمس في الجيش معنى واحداً من معانيه السامية.
كان هذا الرجل - منذ سنوات - ضابطاً صغيراً في مقتبل العمر وزهرة الحياة يتوثب قوة ونشاطاً ويتألق فتوة ورواءً، يبسم للأمل ويبسم هو له، ويسكن إلى أخيلة المستقبل وهي - في ناظريه - وضاءة مشرقة. ثم بدت له في ثنايا حياته فتاة كانت حلم قلبه ونور عينه وسحر فؤاده فما تلبث أن أنطلق إلى أبيها يخطبها: ورضى الأب الثرى بالضابط الفقير زوجاً لابنته الجميلة الفاتنة حين رأى فيه الرجولة والصلاح وحين بدا له أن المستقب يوشك أن ينفرج أمامه عن منصب في الجيش ذي شأن، ورضيت الفتاة به حين خلبها بشبابه وزيه وحين أسرها جماله وحديثه.
وعاشت الفتاة إلى جانب زوجها تسعد برفقته وتطمئن إلى رأيه، وترعى شأنه، وتصبر على شظف العيش وراتبه ضئيل تافه؛ وأبوها يرى ثم لا يقبض يده عنها. وعاش الزوج شقياً بجمالها تأكله الغيرة حين يراها تشع نوراً يخطف البصر، وتصفعه الأنانية حين يلمس فيها معاني الشباب تخطف القلب. لطالما حدثته نفسه بأن يضرب بينها وبين العالم بحجاب لا تستطيع أن تظهره. ولكن أنى له أن يفعل وهو لم يرى عليها من سوء ولم يحِّس فيها من عقوق. وتصرمت الأيام تبذر فيها معاني الإخلاص والمحبة، وتؤرث فيه هو معاني الأنانية والغيرة. والفتاة تسبح في حمق عميق لا ينفذ بصبرها - وهي في عمايتها - إلى بعض ما يتأجج في صدر زوجها.
ومضت سبع سنوات جنت الزوجة في خلالها ثمرتين من ثمار الحياة فيهما سعادة القلب وراحة البال وفيهما جمال الحياة وفرحة الدار. . ثمرتين هما الابن والابنة. واطمأنت الزوجة إلى حياتها والى ولديها، فهي تقضي يومها بين حاجات الزوج ورغبات الطفلين لا تحس الضيق ولا تجد الملل.
وطمع الزوج الأحمق أن تنحط الأيام على الزوجة المسكينة فتتوزعها بين شغل الدار وشغل الابن وهم الزوج جميعاً فتستلبها من جمالها أو تعبث بسحرها. ولكن الأيام لم تزد الفتاة إلا إغراء وفتنة، وغاظ الزوج ما رأى فاندفع يذيقها فنوناً من العنت والإرهاق لعل الأسى يمد يده الجاسية إلى مفاتنها فيمسح سمات الجاذبية والروعة ويمحو آثار الحسن والرواء. غير أن الفتاة العاقلة لم تلق بالاً إلى حماقات يرتكبها زوجها عن عمد ليثير في الدار لظى من خلاف يعصف بها وبولديها في وقت معاً.
وضاق الفتى بصبر زوجته فانطلق ينفِّس عن نوازع شيطانية تثور في نفسه ويكفكفها على كره منه. انطلق ينفس عن نفسه فتعرَّف على فتاة من بنات الهوى، وسوَّلت له نفسه الوضيعة أن يدس لزوجته من يخبرها خبر حبه الجديد. وقالت الزوجة الحصيفة للرسول (ويل لك! لا أخال زوجي يرضى بأن ينحط في مهاوي الرذيلة بعد أن جاوز سن العبث!) قال الرسول (لعلك ترمينني بالكذب! إنه يلقاها مساء كل يوم في مكان كذا من القاهرة) فقالت الزوجة (وماذا يعنيني! سأدعه يستمتع بأي امرأة شاء ما دمت أرى بين يدي هاتين الزهرتين الجميلتين أجد فيهما اللذة والسلوة) وأحس الرسول بالخيبة والإخفاق فانفلت من لدنها لا يلوي على شيء. وأسرت الزوجة في نفسها أمراً. . .
وفي المساء انطلقت الفتاة تسترق الخطى. . . انطلقت لترى زوجها بين يدي فتاته التي أحب. وأحست بالدوار يكاد يغلبها على أمرها من عنف الصدمة وشعرت أن قلبها الطاهر يكاد ينشق عن صدع يتوثب من خلاله الضيق والكمد، وأن عقلها يتضرم ناراً حامية توشك أن تلتهمها هي، فأسرعت إلى الدار لتضع عنها أصرها في زفرات كاوية يتلظى الغيظ من جوانبها، ولترسل الأسى من عينيها عبرات متدفقة هتانة ما تستطيع أن تكفكفها إلا حين تسمع وقع أقدام زوجها وهو يرقى درج السلم، وإلا حين يهفو ولداها نحوها فتضمهما إلى صدرها في شوق وحنان.
يا لقلب الأنثى! إنك صلب عنيد لا تضرب إلا أن تحس الخيانة من قلب رجل حملت أنت له الإخلاص والوفاء!
يا لقلب الأنثى! إنك راسخ متين لا يعصف بك إلا أن تستشعر المهانة والاحتقار والإهمال من قلب رجل أحببته ساعة من الزمان!
أما أنت أيها الرجل، فلقد سفلت أسفل سافلين، حتى بعت زوجك وأولادك بالثمن البخس بفتاة من عرض الشارع تستلبك من رجولتك ومن شهامتك ومن إنسانيتك في وقت معاً!
وانضم قلب الفتاة على أسى فتَّاك تخر الجبال من هوله، فما استطاعت أن تكشف عن حسرتها أمام أبيها. ولا أن تحدث أمها بحديث كربتها، فراحت تتلمس السلوة في ولديها وفي كلب صغير كان هملا في الدار من قبل، فأخذت تدلله في رقة وتحدب عليه في عناية. وأحس الكلب بسليقته الحيوانية أن سيدته تحنو عليه، فذهب يتمسح بها ويخضع لها ويقع عند قدميها. ورضى الكلب بأن يكون عبد السيدة حين أحس فيها الشفقة والرحمة!
ومضت الأيام والشهور تبذر في دار غراس الشقاق والاضطراب، والزوجة تصبر على ضيق وتغضي على مضض، وهي تنظر إلى طفليها في عطف وتضمهما في حنان. . . ثلاث سنوات عجاف والمسكينة في الميدان تجاهل الرجل وهو غليظ الكبد واهي الرجولة لا يرعوي ولا يرتدع.
يا عجباً! أفيكون شيطان الكبر قد ركبه لأنه تدرَّج في مناصب الجيش العليا في سرعة فأخذت نفسه تهوى إلى أسفل كلما سما منصبه إلى أعلى؟
وضاق صدر الزوجة على رحابته، ونفذ صبرها على سعته. . . فجاء حكم من أهلها وحكم من أهله، فما استطاعا أن يصلحا ذات البين، واتفق الزوجان - بعد لأى - على الطلاق!
وخيل للزوجة أنها تهرب من سجن أرغمت على البقاء فيه سنوات، فهبت تعد حاجاتها في نشاط، وتلم شعثها في جد، وإن قلبها ليضطرب اضطراباً شديداً كلما تراءى لها أن أبنيها سيعيشان في كنف هذا الشيطان الفظ، وإن كلبها ليتبعها في خضوع ويتمسح بها في ذلة. . . ثم انطلقت صوب الباب فاندفع الكلب على أثرها، ولكنها صفقت الباب من دونه لتحول بينها وبين كلب هذا الرجل. . . الرجل الجاثم في ركن تجذبه خواطره الأرضية إلى أسفل، فلا ينبض قلبه بعاطفة ولا تخفق أفكاره بنسمة روحانية.
وأحس الكلب بسليقته الحيوانية أن سيدته قد خرجت من هذه الدار ولن تعود أبداً، فانطلق إلى الطنف يريد أن يودعها الواع الأخير. يا لله! أفأصيب الكلب بمس من الجنون فراح يذرع الطنف في سرعة، ينظر إلى الشارع من هنا ومن هناك وهو ينبح نباحاً عالياً فيه الشجو والبكاء؟ ولذَّ للسيدة أن تستمتع بقلق الكلب وحيرته، فوقفت حيناً تشير إليه وتناديه وهي تبسم، ثم همت أن تركب سيارة أبيها وهي تنتظرها لدى الباب، فما راعها إلا الكلب وهو يقذف بنفسه بين يديها.
ووقع الكلب فانكسرت رجله، ولكنه - برغم ما يقاسي من ألم - اندفع صوب سيدته وهو ينبح نباحاً فيه الشجو والبكاء، اندفع ليدفن نفسه في حجرها.
وطفرت من عيني السيدة عبرة. . . عبرة واحدة. . لأن كلباً حفظ عهد الود ورعى حق الوفاء على حين لم يفعل الرجل.
آه، يا صاحبي، إن في الناس رجالاً لو انشق عنهم ثوب الإنسان لتراءت من ثناياه صورة خنزير أو حمار او. . .
كامل محمود حبيب