مجلة الرسالة/العدد 85/القصص

مجلة الرسالة/العدد 85/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1935



من الادب التركي

باقة زهر

بقلم الآنسة (فتاة الفرات)

إن لبعض المناظر تأثيراً عميقاً خاصاً في نفس الإنسان لا يشاركه فيه غيره من المناظر، لو أنني شهدتها في زمان غير هذا الزمان، أو في مكان غير هذا المكان

لقد سحقتني المدينة بجلبتها وضوضائها، ففررت بفكري المجهود وعقلي المكدود إلى قرية قائمة في وسط صحراء هادئة نائمة لأداوي بسكوتها فكري الثائر. وكنت في كل يوم ألقي بنفسي في أطهر ضواحي القرية من أنفاس الناس، فأستنشق فيها رائحة الطبيعة الجميلة تحت أشعة شمس الربيع التي كانت تسيل بغزلرة من بين قطع السحاب، فتحرك النفوس الجامدة ونثير القلوب الخامدة

كان يمر بتلك القرية نهير براق ينصب فيه الماء من بين أحضان تلك الجبال الشماء، فاذا انحدر منها إلى السهول بصوت جذاب يشبه الصوت الذي ينبعث من مجلس مجالس السرور جرى متغلغلاً بين الأحراج والغابات، متوارياً عن أشعة الشمس التي ملأت الأرجاء وطغت على الأنحاء، فاتراً هادئاً حابساً أنفاسه في صدره، كأنه فتاة عاشقة تسير نحو غايتها في لطف حتى لا يسمح خشخشة ثوبها سامع، ثم يجتمع شيئاً فشيئاً ويزج بنفسه في مقبرة تظللها أشجار السرو العاتية، وتنبعث منها روائح الموت القاسية، فتبعث في النفس ذكرى الدار الآخرة، وتوقظ في القلب عظمة الموت ورهبته، فاذا تجاوز هذه المقبرة سار في جريان بطيء فاتر مدفوعاً بقوة لا يمكن مقاومتها ولا يستطاع دفعها، مبتعداً عن الجبال والأحراج والصحارى حتى يغرق بحرقة الخسران وألم الفقدان في بحر لجيٍ لا يسبر غوره ولا يدرك قراره

وكثيراً ما كنت أتبع في سياحتي مجرى ذلك النهير، فأسير على ضفته مأخوذ اللب، موزع الفكر في أمواجه الضحاكة التي تنيرها أشعة الشمس اللماعة، وضفاته الحزينة التي تظللها الأشجار الملتفة، فتنشر عليها بساطاً من الكدر والحزن، وكم حبست سمعي على زمزمة مياهه اللطيفة تداعب الأحجار القائمة في طريقها بلطف، وتلامسها في غير عنف، وعلى نقيق ضفادعه تستقبل بواكير الربيع الضاحك، وكم غرقت في هذا وذاك غرقاً لا أخرج منه إلا بعد سفر طويل. هناك في ذلك المكان رأيتها، وكان ذلك في يوم ملول فاتر، والضباب المعطر النفحات الرطب الذرات يتطاير رويداً رويداً فوق ذري الجبال. ثم ينتشر في السهول والقيعان والآكام والوديان فرحاً بالربيع الغض النضير، باعث الحياة في الأموات

أما المناظر البديعة التي كانت تمتد بامتداد البصر، وتسترسل على قدر ما يبلغه النظر، فقد كانت تؤلف بصورها المتنوعة سلسلة من البدائع، تتجلى في طيف الخيال كأنها عالم من العوالم الشعرية المبهمة، وتظهر في صورة خيالية لو مرت بها نسمة من النسمات الفاترة لذهبت بها أباديد

إن في سكون الصحراء العميق نفساً عميقاً لا يكون إلا في سكون الصحراء، إنه سكون حي قوي الحياة، لو نظرت اليه بدقة وإمعان لخيل اليك بقوته أن الطبيعة تتنفس كما يتنفس كل ذي روح

لقد طفت كثيراً في النواحي أمتع النفس بالنظر إلى الضباب القائم يطير بين تلك الجبال كأنه الدخان، والى الزهرات الناضرة سقطت عليها حبات الندى فارتجفت تحتها ومالت أعناقها لثقلها، وأصغى إلى الأطيار على الأشجار تتغنى في هدوء بأصوات مملوءة بنشوة الطرب وسكرة النشاط، وبلغت من لك كله ما أريد

لقد أحيت في نفسي تلك الحال الجذابة، وتلك المناظر الخلابة، وتلك النزهة الواسعة الأطراف، المترامية الأكناف، روحاً جديداً، وأثارت رغبة كامنة، فكنت أقف أثناءها وقفات تسكن فيها الحواس، ويذهب الفكر إلى أبعد مداه، لقد كنت مأخوذاً أمام تلك الطبيعة التي تغرق الفكر، وتشتت اللب، حتى يكون التفكير ذهولاً، لقد كنت مأخوذاً بسبب ذلك الشعور الأخاذ الذي يفوق كل شعور حتى يجعل من الإنسان الحساس جماداً لا يتحرك ولا يحس

لست أدرى لماذا أبحث عن هذه الأشياء ولماذا أتكلم عنها؟ وليس لها من صلة بالحادثة التي أثارت أحزاني وحركن كوامن أشجاني وحرمتني حتى من نفسي أياماً طوالاً، أجل لا أدري، ولكني أريد أن أقول إني رأيت فصول تلك الرواية المحزنة وأنا أشد ما أكون تأثراً بهذه المناظرة وخضوعاً لها، فزادت رؤيتها تأثري حتى وصلت آثارها إلأى أعمق نقطة في نفسي

سمعت ذات يوم من تل الأيام التي قضيتها في تلك القرية وقع أقدام يكاد يخفي على الأذن لضعفه، فالتفت فعلقت عيني بفتى وفتاة قلما علقت عين بمثلهما جمال خَلْقٍ ولطف خُلقٍ، لا يتجاوز أكبرهما وهو الفتى الثانية عشرة من عمره، ولا تقل الفتاة عنه إلا عاماً أو عامين، كانت الفتاة وهي تبكي بلا عبرات وتئن بلا حسرات، أما الفتى فكان على عكس حالها يطفح نشاطاً ويفيض سروراً، مع أن على وجهه سحابة. . . لا أردي ماذا أسميها؟

ولا أدري كيف أعبر عنها؟ هي كالتي ترى على بعض الوجوه التي رشقها الموت بسهم من سهامه في بعض من يعز عليها، فطبعها بطابع أغبر قاتم يدل على ما في الجنان من هموم وأحزان، فلما رأيتها على ما وصفت، شعرت بألم في أعماق نفسي ذهب بكل ما فيها من نشوة وطرب

كانا يمشيان رويداً رويداً؛ فالفتاة مستغرقة في أفكارها، مسترسلة إلى أحزانها، وأما الفتى فقد كان يبتسم ابتسامة عذبة كأنه ثمل من حمرة الربيع الجديدة

علقت عيني بهما حتى ما كنت استطع أن أحولها عنهما، كأن دافعاً خفياً يدفعني إلى ذلك ويفرضه على فرضاً. حاذباني، وتجاوزازني، ولعلهما لم يشعر بمكاني، أحدهما مشغول عني بافراحه، والآخر مأخوذ باتراحه

وبينا أنا في ذهولي العميق إذا بقاتل يقول:

- فيماذا تفكر؟

كان المتكلم طبيباً من أصدقائي يتبع الطفلين، لا أذكر ماذا أجبته على سؤاله، ولكني أدركت بعد أن مر الطفلان من أمامي أن ضحية ثمينة قد مرت بي

صادفت الطبيب في اليوم الثاني منفرداً فقلت له:

- من هذان الطفلان اللذان كنت تتبعهما أمس؟

فأجابني وهو يلوي شفته:

- هما شقيقان

قلت: - ومريضان؟

فقال:

- (أحدهما فق والثاني لا حق بع عما قريب ولابد، لأن مرض الثاني لا يظهر إلا بعد أن يتلاشى المريض الأول، إن الفتى لن يحتمل هذا المرض أكثر من شهر آخر، وإذ ذاك فلا بد من معاينة الفتاة)

ثم استمر قائلاً:

- (لعلك قد لاحظت أن الفتاة تعلو وجهها سحابة حزن كثيفة وان طورها طور مكتئب شديد الكآبة، فهل عرفت منشأ ذلك؟ منشؤه الخوف، إن الفتة لا تفقه ذلك من أمر هذا المرض الذي نزل بأخيها شيئاً، وأني لها أن تفقه ذلك وهي لا تزال طفلة؟ ولكنها مع هذا تعلم يقيناً أن أخاها معرض لخطر شديد محدق له، أنها تسمع كل يوم من أفواه الناس هذه الكلمات فترسخ في قلبها الصغير وتترك فيه أثراً من الخوف:

كيف حاله اليوم؟ هل عاودته النوبة؟ كم درجة حرارته اليوم؟

وهي في كل يوم أيضاً تسمع من أمها هذه النصيحة مئات من المرات:

اجلسي يا فتاتي بجانب أخيك، لا طفيه، لا عيبه، لا تؤلميه، إن أخاك لا يحتمل ذلك

إن هذه الجمل والعبارات تطرق مسمعها كل يوم مرات عديدة فتترك في قلبها الحساس أثراً عميقاً كله خوف ووجل، ومع ذلك فكثيراً ما رأت والديها وهما يمسحان دموعهما خفية، وكثيراً ما رأتهما بعد أن يخرجا من غرفة أخيها المريض يحتضنانها ويقبلانها قبلات حارة، ثم تضمها امها اليها بحرارة كأنها تود المحافظة عليها من عدو يريد اختطافها بعد أن نفضت يدها من أخيها، فهي لذلك تشعر من سويداء قلبها الصغير بخوف ووجل لا تفقه منشؤهما ولا تعرف مأناهما، وهي لذلك حزينة كئيبة. وأما المريض الحقيقي فانه طروب فرح مملوء نشاطاً ومرحاً، لقد كان حتى الآن محبوساً في البيت، محروماً من التمتع بالطبيعة، فلما أطلق سراحه عاد دمه إلى الغليان بأشعة شمس الربيع المزدهر، وهذه دورة من دورات السل مخيفة، لأن المريض فيها يظن نفسه قد شفي من المرض، مع أن ذلك النشاط هو القوة الباهرة التي تعتري الذين يقفون على أبواب الموت، وهو آخر مظهر تظهره الحياة وتنفق فيه أقصى ما عندها من جهد، وإذ ذاك نقول لأهل المريض خذوه إلى النزه. . . دعوه يلعب في الشمس ويرتع في الهواء الطلق. . . فهذه الكلمات تعلن للأهل بلطف أنه لم يبق من حاجة إلى الدواء بعد أن وقع اليأس من الشفاء، فهاهم الآن يرسلونه ليلعب في الهواء الطلق كل يوم، وليأخذ قسطه من مرح الطبيعة، ولينال حظه من حرارة الشمس الساطعة ليمتع نفسه بما قضي عليه أن يحرم منه قريباً)

جلست الوم كعادتي عند النهر أفكر، فكانت أفكاري كلها متجهة نحو هذين الطفلين! لقد كانا محور تخيلاتي وتأملاتي في هذا اليوم، فلا أرى سواهما، ولا يمر ببالي شيء غيرهما

أصبحت أرى الطفلين كل يوم، وكنت إذا وقع نظري عليهما علق بهما حتى لا يكاد يتحول عنهما، وكأني كنت أشعر أن صوتاً بهما حتى لا يكاد يتحول عنهما، وكأني كنت أشعر أن صوتاً داخلياً يهتف بس قائلاً:

- تأمل هذين الوجهين المحاطين بالشعر الأشقر إحاطة الهالة بالقمر، إنك سترى تلك الطفولة الغضة قد جمدت ويبست فيهما كما جفت الزهرة قبل أن تتفتح عنها أكمامها، وسترى على شفاههما الذابلة ذبول الزهرة لفحتها السائم، رعشة تشبه رعشة المحتضر

أما تلك العيون الحزينة فقد كانت في ذلك الربيع الضاحك مدفناً لجميع الآلام، أسفاً على ربيع حياة عصفت به يد الخريف وتودع كل آمالها في الحياة مع شدة حرصها عليها، تودعها بشعر حزين باكٍ تنظمه نظراتهما الحائرة، وترجمة أنفاسها الفاترة. المرض بعد، والفتى الذي برح به الداء، يمشيان جنباً إلى جنب، وقد أخذ كل منهما بيد الآخر، مشية الحزين الذاهل

رأيت الفتاة في أحد الأيام وهي مكبة باهتمام على أخيها تزرر معطفه خوفاً عليه من البرد، فقلت في نفسي ما أشقاكما أيها الطفلان. . .

كان الفتى في آخر مرة رأيته فيها مصبوغ الوجنتين بحمرة هي حمرة السقم لا حمرة العافية، وفي تل المرة سمعت أخته تقول له بصوت حزين:

- لقد أسرفت في الركض يا أخي فأخذك العرق وها هو السعال يعاودك ويأخذ بخناقك

ويجيبها الفتى وهو يبتسم لها ابتسامة عذبة ويحاول أن يحبس سعاله:

- نعم لقد أسرفت في الركض كثيراً، ولن أعود

خرجت إلى النزهة بعد أيام وأخذت أجمع ما راق عيني وأحبته نفسي من الأزهار الجميلة التي أتحفتنا بها الطبيعة لتجلبنا اليها، فجمعت باقة جميلة فيها من كل لون حسن، ومن كل رائحة لطيفة، ثم رأيت زهرة زرقاء اللون، قد نبتت على حائط المقبرة بين الأحجار، فمددت يدي لأقطفها، فاذا بيد قد وضعت على كتفي، فالتفت فاذا صديقي الطبيب، فقلت له:

- أهذا أنت؟

- نعم فالى أين تريد؟

- لست أريد مكاناً معيناً، إنما أنا في نزهة أداوي بها نفسي ولا أدري متى يكون الشفاه؟

ثم ذكرت الطفل المريض، فقلت له:

- ما شأن مريضك اليوم؟

فأخذ الطبيب بيدي وسار أمامي حتى وقف على باب المقبرة وأشار بيده قائلاًك

- ها هو ذا. . .

نظرت بحيرة، فاذا الطبيب يريني قبراً جديداً ث أضاف قائلا:

- ما كنت مخطئاً في ظني. إن الفتى قد قضى بحبه منذ يومين، وقد دعت الآن لمعالجة الفتاة، وها أنا ذاهب اليها

ابتعد الطبيب عني، ووقفت في مكاني كالصم لا أتحركن إن هذا القبر الجديد تحت سماء الربيع الصافية المملوءة بالحياة والنشاط يدل على معنى مؤلم، فنظرت طويلاً واستعبرت كثيراً، فكأن صوتاً من داخل القبر يقول:

- انظروا متأملين إلى هذه الأنوار التي تفيض من السماء فيضاً! والى الحياة تسح من أجواف الربيع المزدهر سحاً، ولكني محروم من هذا وذاك. . . آه افتحوا قبري! افتحوه. . . لأشاهد أنوار السماء واضواءها، ولأبصر فوران الحياة وغليانها

بحركة لم أتعمدها، ولم أقصد اليها، ألقيت من يدي تلك الباقة من الزهر، على ذلك القبر، الذي كانت تشرق عليه شمس مايو الحارة، وفررت من ذلك المكان لا ألوي على شيء، وبقيت بعد ذلك الموقف سنين عدة مشتت الفكر، مشرد اللب، أنشد نفسي فلا أعثر عليها، ولا يرشدني مرشد اليها

حلب

فتاة الفرات