مجلة الرسالة/العدد 85/الملك علي. . . .
مجلة الرسالة/العدد 85/الملك علي. . . .
تلقيت نعي الملك النبيل علي بن الحسين كما أتلقى نعي قريب؛ فقد كان رضوان اله عليه مثال الفطرة العربية النقية: يقبل على زائره بأنسه، ويمكن لجليسه من نفسه، ويزيل الفوارق بين محدثه وبين شهصه، حتى يصدر عنه الوارد عليه وفي ذهنه صورة من جلاله لا تحول، وفي قلبه عاطفة من حبه لا تزول، وفي نفسه أثر عن ذاته لا يعفو. لا يُلقى في روعك حين تلقاه طوح الزعيم، ولا جفاء القائد، ولا دهاء السياسي، ولا سورة المَلِك، وإنما تجد في خلائقه فوحة المجد، وتقرأ في ملامحه عنوان الطيبة، وتعرف في حديثه لهجة السيادة، وتذكر في نبرات صوته ولحظات عينه ولفتات ذهنه ذلك الروح القوي الذي انبث في موات الوجود من بني هاشم!
نعي الناعي فيصلاً فقال الناس بطلٌ من أبطال العالم قضى، ونعى الناعي علياً فقال العرب سيد من سادات العروبة خلا؛ لأن فيصلاً حكم في شروق مُلك عائد، فكان عزمه لا تسعها قدرة، وفكرة لا يحصرها أفق، وطموحاً لا يحده غاية؛ ولأن علياً حكم في غروب مُلك بائد، فكان أمراً لا يمضيه سلاح، وأملا لا ينهضه جناح، وصلاحاً لا تؤاتيه فرصة؛ ثم كان مصير الرجلين مصير خلقين مختلفين: خلق اتسع لخُدَع السياسة، وشُبه الحكم، وأهواء النفوس، وخلق انحصر بين حدود الشرف الموروث، وسنن الدين المتبع، وتقاليد العرب المحتومة
كان الملك علي وهو أمير المدينة أو ولي العهد أو خليفة الحسين، مثل السيد الكريم والأمير السمح والملك المؤمل، ولكن موجة (الاخوان) كانت قد دفعت بحطام الحين إلى شواطئ جدة، فلم يستطع الملك الجديد أن يستمسك به في مهب الرياح الهوج ومضطرب الموج الثائر، فانتزع من تاجه المقدس مفاتيح الحرمين ثم وضعهما في يد الفاتح ونجا علي (الرقمتين) في ضباب من اليأس لا يشع في جنباته أمل
نزل الملك الغريب سواد العراق نزول الكريم على الكريم فتلقاه بوده، وصفق له من ورده، وبوأه من زعامته المكان الأول بعد فيصل. فكان في السياسة العراقية برهان الله في يقظة الشهوة، وصوت العدل في طغيان الهوى، وهدى المشورة في ضلال الرأي، ورسول الخير في أزمة الحاجة. وكان قصره القائم بالكرادة على الشاطئ الأيمن من دجلة بلاطاً للجلالة الحائرة بين الحجاز والعراق وسورية، تُقضى بين أبهائه الأمور الجسام، وترف على بفنائه الآمال الباسمة. ولكن حياة بغداد الدافقة بالنعيم الغارقة في اللذة، لم تستطع أن تُنسى الملك الحزين عرشه الصخري في الوادي الجديب؛ فكان لا يفتأ يحن إلى مُلكه المغضوب حنيناً شعرياً صامتاً يذيب الكلي ويستوقد الجوان، إلا أن أثره لا يبين تحت سمة الملك إلا لمن دخل في أمره ووقف على سره
كنت كثيراً ما أقضي أصيل اليوم في حضرته، وكان (مفتي بغداد) لا ينقطع عن مجلسه في هذه الساعة؛ وكان للملك رحمه الله عطف على منشؤه فيما أظن للأدب، وميله إلى مصر، وأنسه بالغريب. فهو يجب أن يناقلني الحديث، ولكن (المفتي) سامحه الله رجل يرى من حق العالم أن يقول في كل شيء وأن يجيب عن كل شيء، وهو لا ينطق إلا ببيت من الشعر أو أثر من الحديث أو آية من القرآ،؛ أما ارتباط ما يقول بما يسمع فذلك ما كنا نعجز دائماً عن فهمه. كان الملك يبدأ الكلام فلا يكاد يمضي فيه حتى يقطعه عليه بحكاية عرضية أو مسألة فقهية! فأرفع طرفي اليه لعل عزة الملك تشع في عينه أو تثور في وجهه، فلا أجده إلا باسماً للمتكلم، مصغياً كالمتعلم، هادئاً كالشعاع الشاحب في شفق الخريف! على أنه كان يصحح للشيخ ما يَقْمشُ من الشعر وينتف من الأمثال، ويتخذ ذلك مادة للحديث وموضوعاً للمشاركة، فيسفر قوله عن ذوق صاف وبصيرة نافذة.
ولا أنسى ما حييت استشهاده في بعض الكلام على قلب الميم باء في قول بعض العرب بكة في مكة، بالمثل المعروف: (تمخض الجبل فولد فأراً) مرجحاً أن الجبل هو الجمل في لحن هذه القبيلة
لذلك كان إذا شاء الحديث صفواً من المقاطعة واللغو أمرني فمثلت بين يديه في ساعة بعينها، فيقضي إلي بطرَف من ماضي حياته، أو يملي على بعضاً من مذكراته. وقد لا يكون من المناسب اليوم - وأنا في موقف الرثاء والعزاء والأسى - أن أثبت في هذا المقام شيئاً من ذلك
ولكنه كان يلهج دائماً بمصر، ويرصد كوكب آماله في مصر. . . وحاول أن يقنع المصريين الذين خاصموه في سبيل الترك أن ثورتهم على الخلافة كانت بالحق وللحق، وأن أباه لم يال الترك نصحاً ألا يطأطئوا إشراف العرب، وألا يغمزوا نحوه العرب، وان يعدلوا عن سياسة الجهل، ويكفوا عن جرائم القتل، فاستغشوا الناصح وذهبوا بأنفسهم مُمعنين في الضلالة وللفقيد العظيم آراء حصيفة في رجال الثورة وساسة العراق ووحدة العرب، أرجو أن تتاح لتسجيلها المناسبة إنصافاً لهذا الرجل الذي أخرج من دياره عنوة، وكابد أكلاف المُلك من غير ثروة، حتى عاد كالطائر المهيض أو الملك الهابط، يختنق في مجثمه وبصره في الفضاء، ويلتصق بالأرض وروحه في السماء!
أحمد حسن الزيات