مجلة الرسالة/العدد 850/القصص

مجلة الرسالة/العدد 850/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 10 - 1949



زائرة العرافة

عن الإنجليزية

ترجمة الأديب سيد أحمد قناوى

في غرفة قليلة الضوء تقع على جانب المعرض العام. . . أثاثها ينحصر في مائدة ومقعدين وبعض أشياء أخرى إن دلت على شيء فإنما تدل على ما يعانيه ساكنها من بؤس وفقر. . . وعلقت في واجهة الغرفة لافتة كتب عليها هذه العبارة (مدام لاسترا قارئة الكف. استفسارات عن مسائل الحب والزواج والمال على أحدث القواعد العلمية). . . في هذه الغرفة المتواضعة جلست السيدة (لاسترا) تنصت في ضجر وضيق إلى أصوات الضحك والمرح التي كانت تنبعث في أرجاء المعرض خارج غرفتها. . . فقد كانت تلك الليلة رأس السنة الجديدة، فأرسلت أفكارها بعيدا تستعيد ماضي لياليها وتستعرض أيام بهجتها وسرورها. . . حتى قادها تفكيرها في النهاية إلى ليلة تماثل هذه الليلة في البهجة والمتاع واللهو. . . كانت هي فيها تختال بين الرجال حتى انتابتها نزوة غرام عارضة أطلقت فيها للشيطان العنان. . . فكانت ليلة فاصلة بين حياة الزوجية السعيدة وحياة الشقاء التي تحياها الآن. فما جنت من وراء تلك النزوة العارضة - وا أسفاه - غير الحسرة والخيبة والمرارة.

لقد كانت السيدة (لاسترا) في أيام سعادتها على جانب كبير من الحسن والبهاء: كان لها شعر أسود وعينان عسليتان حالمتان قبل احتراف هذه المهنة البغيضة إلى نفسها كما كانت زوجة لأستاذ علم الآثار الشهير (جيمس كارستيرز) تعيش معه في بحبوحة ويسر، لا تعرف معه للضيق معنى، ولا تذوق من الفاقة ما تتجرع الآن غصته. . . وعند وقوع حادث الغرام الطائش حملت على طلب الطلاق من زوجها فكان لها ما أرادت، وإن هي الآن لا تقاس منه غير العسر ومرارة الذكريات. ولن تنسى ما عاشت قول (جيمس) لها وهو يجيب إلى طلب الطلاق:

(إن بحثت عن أبغض إلى قلبي، تجدينه الطلاق منك. . . ولكن إذا كان في الطلاق جلب لسعادتك وهنائك فواجبي يحتم علي أن أضحي بحبي وقلبي بلا تردد).

وكم تنفجر عواطفها، وتهتز أعصابها حينما تذكر أنه تزوج بغيرها طلبا للخلف. . . فقد تزوج بعد طلاقه منها من فتاة تدعى (أليس دين) وهي فتاة آية في الجمال وقد وصفها الناس بأنها شقراء الشعر نحيفة القد أنيقة الهندام.

جلست مدام (لاسترا) فريسة لهذه الذكريات تنهش قلبها وتستبد بنفسها فما أنقذها منها سوى قدوم زائرة جاءت لاستطلاع حظها. . . وسرعان ما اعتدلت العرافة (لاسترا) في مجلسها، وسوت شالها فوق رأسها وشبكت يديها وأسندت مرفقيها إلى المائدة فقد لاحظت في السيدة الزائرة من الهيبة والوقار ما حملها على الاهتمام بأمرها، والتطلع إلى مكنون سرها. .

ومن عجب أن هذه (الزائرة) لم تدخل كغيرها في اضطراب وعجلة ورغبة ملحة في استطلاع مخبآت الغيب، بل هي على النقيض من ذلك، إذ أنها دخلت في تؤدة ووقار وهدوء، تظلل محياها الشاحب وشعرها الأشقر قبعة عريضة الأطراف، ولم تلبث أن نزعت قفازها دون أن تبس بكلمة، وكان الإطراق رائدها، ومسحة من الحزن تعلو جبهتها. . . فدل مظهرها على ما تحمله على أمر عظيم وهم دفين. وأخيرا قدمت يدها اليسرى فإذا هي تتحلى بخاتم من الفضة مرصع بحجر من الزبرجد. . . لم تكد السيدة (لاسترا) تبصر هذا الخاتم حتى خفق قلبها عنيفا حتى كاد أن ينخلع من صدرها وإن كتمت مع ذلك شعورها حتى لا تثير شك زائرتها. . فإن هذا الخاتم الزبرجدى هو قرين العقد الزبرجدى الذي تحمله هي حول عنقها، وكلا الخاتم والعقد من مقتنيات العالم الأثري (جيمس كاستيرز) جلبها من تنقيبه في الآثار المصرية القديمة، وليس لهما في عالم الحلي نظير؛ ولا ريب في أنه أهدى الخاتم إلى زوجته الثانية كما أهدى العقد إلى زوجته الأولى. . . بكل هذه الخواطر رفعت السيدة (لاسترا) عينيها إلى وجه الزائرة تلتمس من تقاطيعها ما يؤيد ظنونها ويحقق خواطرها. . . فإذا هي تتذكر أوصافها التي سمعت عنها:

شقراء الشعر دقيقة الملامح أنيقة الهندام؛ في نحو الثامنة والثلاثين من العمر، وبالإجمال لم يبق عندها من شك في أنها هي (أليس دين) المرأة التي انتزعت منها زوجها بعد طلاقها منه. . . وهكذا مضت الزائرة (أليس) في صمتها فبادرتها السيدة (لاسترا) بقولها:

- لقد كنت تعملين على المسرح. . . أما الآن فأنت قد اعتزلت التمثيل وأصبحت زوجة!!.

فأومأت الزائرة إيجابا. فاستطردت السيدة (لاسترا). .

- وقد تزوجت منذ تسع سنوات فأومأت الزائرة مرة أخرى دون أن تبدي أدنى دهشة لما تسمع من دقة التفاصيل وقالت بصوت مشوب بالنحيب:

- إنه تزوجني لكي ينسى امرأة أخرى، فلم يبق شك في نفس السيدة العرافة. . . فهي الآن تواجه خليفتها عند زوجها، فخارت قواها وتبددت أنفاسها. . . واستسلمت للتفكير العميق الذي أبرز الآن صورة (جيمس) في اطواء الماضي. . ولم تلبث حتى قالت لمنافستها:

- لا بد أن تكوني سعيدة مع زوجك.

- أني سعيدة حقا.

- إنه يحوطك برقة وحنو ندر أن يكون لهما مثيل في هذه الدنيا فيجدر أن تكوني لذلك أهلا، ولا تشكي في إخلاصه فهو مثال طيب للرجل الجدير بالحب والاحترام. فقالت الزائرة في صوت اقرب إلى الهمس:

- صدقت فيما تقولين!

- إن حياتك مشوبة ببعض المتاعب والقلاقل، وإن لزوجك مشاكله الخاصة فإن وجدت منه بعض الهفوات أو ساءك منه شيء، فاذكري أن نوابغ الرجال لا يستطيعون أن يوفقوا بين نبوغهم وبين توافه الأمور. . . إنهم. . . ولكن السيدة كفت عن الاسترسال في حديثها خشية الافتضاح بذكر هذه التفصيلات الدقيقة.

فردت (أليس) في حدة:

- لقد وجدت المتاعب التي تشيرين إليها، ولكنها انتهت ومضت. انحازت العرافة (لاسترا) إلى التفاؤل قياما بالواجب حيال زائرتها ثم أردفت:

- سيكون الخير. . وستسير الأمور على أحسن ما تكون. . ويومئذ لا تنسي أن تخبريني. وهنا وقفت الفتاة (أليس) بوجه متجهم وقالت:

- كل شيء بخير كما قلت لك. . وهذا هو سبب حضوري إليك. . . إنه يريدك إلى جانبه يا (أنا كارستيرز) أنه لم ينقطع لحظة عن التفكير فيك وعن محبته لك.

فهبت السيدة (لاسترا) عند سماعها هذه المفاجأة التي لم تكن في حسبانها. . ووثبت واقفة كالمصعوقة وهتفت: - كيف عرفت مكاني؟. . وماذا جئت إلي - أيتها الماكرة - أنت من دون الناس جميعا؟.

- لأنه يجب أن تعودي إليه، فأنت ملاكه وأنت حياته. . ولا أستطيع أنا ولا أية فتاة أخرى أن تسد الفراغ الذي أحدثته في قلبه.

- لا يمكن. . لا يمكن هذا. . وأنت بلا شك تعرفين أن هذا ضرب من المحال!

- إنه الآن في مسيس الحاجة إليك أكثر من أي وقت مضى. فإن عدت له أديت ألي خدمة أذكرك بها على الأرض وفي السماء.

- لكن كيف أعود إليه وقد ربط بينك وبينه حبل الزوجية. محال أن أعود فأفرق بينكما، وربما أتجنى بذلك عليك، وأنا أحب أن أموت مضحية بحبي، ولا أفرق بين زوجين سعيدين فتراخت الزائرة (لاسترا) وسكبت دموعا غزيرة وأخذت تنتحب طويلا ثم رفعت رأسها وغمغمت وكأن صوتها صادر من مكان سحيق. . .

- إنه يحبك يجب أن تعودي إليه. . ولا أستطيع أن أقف بين قلبين متحابين.

- ولقد تحققت من أن (جيمس) سوف لا يكون سعيدا هانئا إلا في ظل رعايتك. . . فكوني له على حبه لك معينة، ولتجعلك الأيام عونا له من بعدي، فلم يبق لي الآن في دنيا الناس نصيب. . ثم صمت قليلا وحركت لسانها بكل تثاقل وهي تقول: وداعا يا (جيمس). . وداعا يا سيدتي. . ثم خرجت تجر قدميها في سكون وصمت.

شعرت (لاسترا) العرافة بجو الغرفة باردا، فأظلمت الدنيا أمام عينها وسقطت مغشية عليها. . . ولما استفاقت بعد ساعات طويلة أخذ جسمها يرتعد بشدة. . . وساورها خوف شديد. . . فقد كان صدى كلمات الزائرة (أليس) لا يزال يتجاوب في أنحاء الغرفة. وخاصة وهي تستحثها على العودة إلى (جيمس). . وقد كانت لا تزال هذه العودة أمنية قلبها ورجائها الوحيد في الحياة. . . ولكن كيف السبيل إلى هذه العودة وقد خالج قلبها هم جديد. . وهو أمر الزائرة (أليس) وفجأة سمعت طرقا شديدا على باب حجرتها. . . فظنته أحد الزوار فقامت متثاقلة وفتحت الباب. . . وما أشد دهشتها حينما بدا (جيمس) بمحياه الباسم وبادرها بقوله:

- أهذه أنت يا (لاسترا) ما أسعدني من رجل!.

وكان تفكير (لاسترا) ى يزال عالقا (بأليس) بالرغم من رؤية (جيمس) فسألته قلقة: - هل رأيت زوجتك (أليس)؟

- حمقاء (أليس) فقد انتحرت منذ لحظة قصيرة ولست أعرف لذلك من سبب سوى نفور بدا عليها من أيام.

والآن فما أسعدني إذا قبلتني مرة أخرى لك زوجا أعيش بقية أيامي في سعادة وهناء. ثم قبلها قبلة طويلة كانت فاتحة لحياته الزوجية الجديدة.

(عطبرة - سودان)

سيد أحمد قناوى