مجلة الرسالة/العدد 850/ركن المعتزلة

مجلة الرسالة/العدد 850/ركن المعتزلة

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 10 - 1949



علم الله في مذهب المعتزلة

للدكتور البير نصري نادر

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

إن الكلام في علم الله يختلف كل الاختلاف عن الكلام في المعرفة عند الإنسان؛ لأن علمنا يتكون تدريجيا ونحن نصل إلى المعرفة بفضل مجهود فكري مستمر نبذله في فهم الحقائق والوقائع؛ ونمر هكذا بمراحل أدناها مرحلة الجهل وأسماها مرحلة المعرفة؛ ولكن كم تصادفنا من مراحل نشك فيها ونتردد وننعم التفكير ونجلي الأمور ونتخذ القرارات ثم نغيرها أحيانا ونتمسك بها أحيانا. وهذا التدرج في تكوين المعرفة برهان قاطع على عجز العقل البشري وعدم كماله.

وإذا ما تكلمنا عن علم الله فلا يجوز أن نقارنه بعلمنا ولا أن نحاول فهمه بتشبيهه بعلمنا لأنه لا توجد أدنى مشابهة بين المتناهي واللامتناهي ولا بين الكامل والناقص.

لذلك كان الجبائي لا يسمي الله فهيما ولا فقيها ولا موقنا ولا مستبصرا ولا مستبينا لأن الفهم والفقه هو استدراك العلم بالشيء بعد أن لم يكن الإنسان به عالما واليقين هو العلم بالشيء بعد الشك، وكل هذا يدل على والتبدل والتغير في مراتب العلم ولكن لا يوجد أي تغير في الله وهو في حالة ثبات كامل لأن علم الله هو هو أعني هو ذاته وذاته أزلية كاملة لا تغير فيها ولا تبدل.

ولما كان الله لم يزل عالما بكل الأمور فعلمه منذ الأزل كامل شامل كل شئ حصل وسيحصل. ولكن هناك مسألة بحثها المعتزلة على النظر وجاء البحث مؤيدا لقولهم بثبات علم الله منذ الأزل، وهذه المسألة هي:

هل يجوز كون ما علم الله أن لا يكون؟

ترد المعتزلة على هذا السؤال بالنفي طبعا. ولكن ذلك لا يمنعهم من تحليل السؤال تحليلا دقيقا ليبينوا استحالته. فنجد مثلا علي الأسواري يشطر السؤال شطرين هما أولا: يجوز كون شئ أعني أن الله يقدر على الشيء أن يفعله، وثانيا: الله عالم أن هذا الشيء لا يكو إنه أخبر أنه لا يكون. ويقول الأسواري إذا أفرد أحد القولين عن الآخر ما كان الكلام صحيحا؛ أما إذا افترق القولان كان ذلك مستحيلا. وذلك على عكس ما هو عند الإنسان؛ لأنه ليس من المستحيل أن نلاحظ عند الإنسان فرقا بين معرفته لعمل واجب أداؤه والامتناع عن أداء هذا العمل؛ لأن الإنسان قادر على الضدين في حين أن الله لا يوجد فيه تغير، وعلمه وإرادته وقدرته تعالى هي ذاته وذاته لا تتغير.

وهناك رد آخر على هذا السؤال. فتقول المعتزلة: إذا علم الله أن حدثا أو عملا أو شيئا لن يحدث لعجز أو استحالة في الحدث أو العمل أو الشيء نفسه (مثل تربيع الدائرة أو إرسال المؤمنين إلى النار) أو لعجز من قبل الله على حدوث هذا العمل أو الشيء إذ أن حدوثه ينافي النظام والقوانين المسنونة للعالم منه تعالى، فإن هذا الحدث أو العمل أو الشيء لم يحدث أبدا ما دام وجد العجز أو الاستحالة.

في هذا الرد نجد اعتقادين راسخين عند المعتزلة وهما أن العالم خاضع لنظام كامل تام مطابق لعلم الله؛ وبما أن علم الله لم يزل ثابتا فنظام العالم ثابت أيضاً لأنه لو تصادف وأصبح هذا النظام غير مطابق لعلمه تعالى فعلمه لم يعد كاملا. وبما أن علمه هو ذاته فتصبح الذات والحالة هذه هي غير كاملة أيضاً وهذا تناقض.

وتزيد أكثر المعتزلة على ذلك قائلين: ما علم الله أنه لا يكون لاستحالة أو لعجز عنه يجوز أن يكون على شرطين: أن يرتفع العجز عنه وإن تحدث القوة عليه. ولكن في هذه الحالة كان الله لم يزل يعلم برفع العجز عن هذا الشيء وبحدوث القوة عليه. وهذا لا يناقض كماله تعالى.

فنلاحظ أنه مهما اختلف وضع المسألة فالحل واحد وهو أن المعتزلة تردد دائما أن الله لم يزل عالما بالأشياء كلها ولا يجوز حدوث شئ إلا وهو لم يزل يعلمه.

لما كان الله لم يزل يعلم كل شئ فكيف يمكن أن نتكلم عن حرية الاختبار عند الإنسان لأعماله؟ أهو حر فعلا أم مجبر؟ إنها لمسألة في غاية الدقة والأهمية وهاك رأى المعتزلة فيها.

علم الله ومصير الإنسان في الآخرة:

يحدثنا ابن حزم عن رأي لهشام القوطي المعتزلي تشاركه فيه جميع المعتزلة لأنه يعبر عن أصل من أصولها في علم الله. يقول هشام: إن من هو الآن مؤمن عابد ولكن في علم الله إنه يموت كافرا فإنه الآن عند الله كافر. وإن من كان الآن كافرا مجوسيا أو نصرانيا أو دهريا أو زنديقا ولكن في علم الله يموت مؤمنا فإنه الآن عند الله مؤمن. فلا غرابة في هذا القول إذ أن علم الله لا يتغير؛ فإذا علم الله منذ الأزل أن فلانا سيموت كافرا ولو آمن وقتا من الزمن فإنه عند الله كافر؛ لأنه تعالى لم يزل يعلم أن بعد إيمان هذا الشخص كفرا. ولا يجوز أن يزيد كفر المؤمن شيئا في علم الله - هل يعني ذلك أن لا قدرة للإنسان على أعماله لأن الله لم يزل يعلمها؟ نحن نعرف أن المعتزلة (أهل عدل) أيضاً أعني أنهم يقولون إن الإنسان قادر على أعماله محاسب عليها - فكيف يكون التوفيق بين القولين إن الله لم يزل يعلم كل شيء، وإن الإنسان قادر على أعماله؟

هناك حل دقيق أتى به الجبائي ليوفق بين هذين القولين. فيقول: لنفحص الحالات الثلاث الآتية:

أولا: يقول الجبائي إذا وصل مقدور بمقدور كانت النتيجة إيجابية صحيحة؛ مثلا لو قلنا إذا آمن الكافر (شرط أول) وكان الإيمان خيرا له (شرط ثان) لأدخله الله الجنة (النتيجة الصحيحة لهذين الشرطين) والمقدوران هما: العودة إلى الإيمان بعد الكفر - الإنسان في إمكانه أن يعود إلى الإيمان - وإذا لم نخير الله عما يناقض ذلك فتكون هذه الحالة الأولى صحيحة.

عند تحليل هذه الحالة نجد المعتزلة تعترف بمقدرة الإنسان على الكفر وعلى الإيمان وذلك بمجرد اختياره؛ ثم أن الله لم يزل يعلم هذا الاختيار. إننا هنا بدون شك بصدد نقطة صعبة وهي شعورنا بمقدورنا على اختيار شئ أو حال دون الآخر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى علم الله منذ الأزل بما نختاره.

وإذا تمسكت المعتزلة بالقول بقدرة الإنسان على أعماله كان تمسكها هذا صونا لعدالة الله وإلقاء المسئولية على الإنسان وحده عندما يعاقب أو يثاب. ففي هذه الحالة الأولى التي يعرضها الجبائي برهان كاف على حرية الاختيار عند الإنسان على شرط أن يأتي اختياره على شئ ممكن جائز مقدور.

الحالة الثانية: إذا كان هناك شيئان متناقضان فلا يمكن التكلم عن حرية الاختيار عند الإنسان واستحالت النتيجة - مثل قولنا أن يكون المرء مؤمنا وكافرا أو متحركا وساكنا أو حيا أو ميتا في آن واحد. إن الإنسان لا يقدر على ذلك وحريته مقيدة أمام التناقض. فالحرية لا تعني إذن القدرة على عمل أي شئ أو ضده - وبما أن الله لم يزل يعلم مجرى الأمور حسب قوانينها فهو يعلم عجز الإنسان أمام التناقض كما أنه تعالى لم يزل يعلم قوانين العالم فكل ما يحدث فيه كان هو لم يزل عالما به.

وفي الحالة الثالثة: يقول الجبائي إذا وصل شيئان أحدهما جائز والآخر مستحيا فتكون النتيجة مستحيلة؛ مثلا إذا قلنا إن الكافر يؤمن في حين أن الله يعلم ويخبر أنه لن يؤمن فمن المستحيل أن يؤمن هذا الكافر فتكون إذن حرية المرء مقيدة بعلم الله وإخباره. ولكنها حالات شاذة تلك التي يخبرنا الله فيها عن علمه.

أثر منطق أريسطو:

إن تحليل الجبائي لمسألة علم الله ومصير الإنسان هو تحليل منطقي لا شك أن لمنطق أرسطو أثرا كبيرا فيه. فمقابلته القضايا الإيجابية أولا والقضايا السالية ثانيا واستنتاجه النتائج الإيجابية أو السالبة كل ذلك يدل على أن الجبائي كان ملما بهذا المنطق وحاول أن يستخدمه في مسألة من أدق المسائل وأعقدها. إنها لمحاولة جريئة وهي ليست الوحيدة من نوعها في فلسفة المعتزلة.

من هذا نستخلص أن جل هم المعتزلة هو رد الصفات ومن ضمنها صفة العلم إلى ذات الله تعالى. وبما أن هذه الذات قديمة لا متناهية ثابتة فيكون العلم أيضاً قديما لا متناهيا ثابتا. ثم أن الله لم يزل يعلم كل الأمور وإذا كان العالم قديما بالنسبة إلى علمه تعالى فإنه يتحقق في الزمان تبعا لهذا العلم - أما فيما يختص بمسألة قدرة الإنسان على أعماله فالمعتزلة تحلها بقولها إننا نشعر بحرية الاختيار وإننا نجهل علم الله وإن عدل الله يضطرنا إلى القول بهذه الحرية - وكل المسألة الأخلاقية متوقفة عليها.

ألبير نصري نادر

دكتور في الآداب والفلسفة