مجلة الرسالة/العدد 852/صور من الحياة:

مجلة الرسالة/العدد 852/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 10 - 1949


2 - زوجة تنهار!

للأستاذ كامل محمود حبيب

قال لي صاحبي: (مالك تغلو في رسم صورة (زوجة تنهار) فتزعم أن المرأة تفر من دار زوجها وتذر أولادها، وهم حبة القلب، ونور العين، وفرحة العمر، وبهجة الحياة. . . تذرهم لتعيش إلى جانب عشيق كائن من كان؛ على حين نرى الحيوان الوديع يتنمر إن أحس بسوء يوشك أن يصيب صغاره. . . فما بال الإنسان؟)

قلت: (أما هذه القصة، فهي من صميم الحياة، قصها صاحبها علي وعلى رهط من صحابه. . . وقصها أيضاً على الأستاذ سعيد العريان، وهو رجل ذو مروءة وإنسانية، وذو مكانة وشأن. . . فناله - مما سمع - الضيق والعطف، فقدم لصاحب القصة من إنسانيته ورجولته ما خفف عنه لأواء المصيبة، وأزاح عنه بعض وطأة البلوى. . .)

(كامل)

آه. . . يا لقلبي! إن الزوجة حين ترتدع في حمأة الخيانة تعلن عن أن دمها الملوث لم يشعر يوماً بصفاء المعاني السامية في الشرف والكرامة!

والزوجة الساقطة امرأة انتكست إنسانيتها، واتَّضعت كرامتها، ومات ضميرها. . . امرأة برمت بها روحانية السماء فلفظتها فجذبتها ظلمات الأرض لتسفل إلى هوة الخسة والرذيلة. . . وهي في عين زوجها وباء، وفي رأي أهلها داء، وفي موكب الحياة عار وسبة، وفي عمر الرجل ساعة لهو رخيص، يستمتع بها حيناً، ثم يطرحها إلى عرض الشارع. . . وهي - دائماً - تتوارى عن الأعين المتلفتة لأنها خلعت ثوب العفة، وتفزع عن الألسنة المتلطفة لأنها نزعت رداء الشرف!

يا فتاة الشارع: أرأيت الدار الخربة وقد انقض دارها، وانفتح بابها، فأصبحت مثابة للص والشحاذ وابن السبيل؟!

أرأيت المرعى الخصيب وقد نام عنه المدافع وانصرف الحامي فأضحى مستباحاً ترده كل سائمة فلا تجد هناك إلا الأمان والخفض وإلا الري والشبع؟

أرأيت الجيفة - وهي ملقاة على الثرى - لا تملك أن تدفع عن نفسها، ومن حواليه الكلاب تتدافع في نهم، وتتهارش في شره، لينال كل واحد منها أوفى نصيب، فلا تستطيع هي أن تمتنع على مَنْ يلغ أو يطعم أو يعبث؟

ما أعجب ما أرى! هذا القانون الأرضي يكبل السارق بقيد من حديد إن سرق دريهمات لا تغني من فقر، ولا تسمن من فاقة، ولكنه يذر اللص يستلب الشرف، ويسطو على العِرض، فلا يغلّه بأصفاد من الرجولة والإنسانية. . .

هذا هو القانون الأرضي حين يتشبث بالتراب ويرسف في الوحل!. . .

لقد طارت الزوجة الخائنة مع شيطان من الناس. . . طارت لتذر زوجها على فراش المرض يقاسي ألم الداء ويعاني هم الزوجة ويحمل - وحده - عبء الأولاد. طارت حين زين لها الشيطان بأساليبه السفلية أن تنفلت من دارها في هدأة الليل وسكونه، فتخلف وراءها راحة الضمير في الدار، ولذة العيش في ظل الزوج وسعادة الحياة بين مرح الأولاد.

وزعمت الزوجة الآبقة أنها ضاقت بهموم الدار، وما فيها سوى زوج مريض معدم ينفق من صبابة تكاد تنضب وهي إلى جانبه يضنيها التعب - كزعمها - ويؤذيها السجن؛ وسوى صبية صغار يلحون في طلب الطعام واللباس، والمدرسة من ورائهم تصر على أن يدفعوا ثمن العلم. ونسيت أن المرأة التي تفر من دار زوجها هي عاهر القلب فاسقة العقل فاجرة الضمير، وأن المرأة التي تهرب من أولادها، وهم ملء العين والقلب والفؤاد، قد انحطت فأصبحت حيوانية النوازع أرضية المشارب.

لقد فزعت الزوجة عن دارها لتحتفظ لنفسها ببهجة الجمال ورواء الشباب ونضرة النعيم، ولتستمتع بلذة الحياة في كنف شاب وضيع وسوس لها فاغترها عن عزة النفس وشرف الترفع وسمو الإنسانية. وأرادت أن تسعد بالشهوة الرخيصة إلى جانب شيطانها فخسرت لذائذ الدنيا السامية في الدار والزوج والولد.

وانطلق الفتى إلى جانبها، وعيناه تشعان فنوناً من الختل والخداع، وحديثه يفيض ألواناً من المكر والمواربة، وقلبه ينبض بصنوف من الاحتقار والزراية، وعقله يضطرم بضروب من الكراهية والمقت. لقد غطى الشيطان على عيني الفتى - حيناً - فإندفع يزخرف الحديث للزوجة ويختلبها بالمظهر البراق، يوهمها أنه شيء وما هو بشيء، وفي طبيعة المرأة ضعف وفي جبلتها خور فأسلست له وانقادت فهوت. ولكن عقل الفتى كان يخزه - بين الحين والحين - وخزات عنيفة توقظ في نفسه الندم أن اقترف الجريمة الشنعاء في ساعة من ساعات الطيش الجامح، غير أنه يرى الزوجة الخائنة إلى جانبه تبسم له في رقة وتحنو عليه في عطف، فيرق لها قلبه وتتحرك في فؤاده نوازع الرحمة يشوبها الاحتقار، وتضطرب في نفسه دوافع الشفقة ممزوجة بالبغض.

أما هي فكانت تتملقه وهي ترى ثوب الرياء الذي تسربله حيناً من الزمن يتكشف أمام ناظريها عن ألوان من الضعة والسفالة والفقر. . . ولكنها كانت تتملقه وهي تحس في نفسها ألماً يتصدع له قلبها وينقد فؤادها. . . تتملقه لأنها لم تعد شيئاً سوى جيفة نتنة ملقاة على الثرى، وهي تخشى أن يقذف بها صاحبها إلى عرض الشارع.

لا عجب، فقد كان الشاب - في يوم ما - يحب الزوجة حباً يراه فالقاً كبده، ولكنه كان حب الحيوان يرنو إلى الأنثى ليقضي منها وطراً. فلما ظفر بمأربه بدأ الملل ينسرب إلى قلبه وضاق هو بحاجات المرأة وراتبه ضئيل تافه. وخانته شجاعته فلم يقو على أن يكشف لها عن خواطر عقله، فعاشا معاً زماناً.

وانطوت الأيام تمسح بيدها الرفيقة على قلب الزوج عسى أن تلتئم جراحه أو تسري عنه بعض همه، وترفقت به العناية الإلهية فتدفقت في مفاصله روح الصحة والعافية، فإذا هو - بعد أيام - في مكانه في المدرسة يجد السلوة في عمله بين كراساته ودفاتره وتلاميذه. ولكن ستراً كثيفاً من الأسى ما زال ينسدل على جبينه فيبدو كئيباً ضيق النفس لا تنفرج شفتاه - أبداً - عن ابتسامة.

وسأله صاحب له - ذات مرة - عن ما أصابه فقال: (لقد ماتت زوجتي وخلفت لي صغاراً لا أجد من يكفلهم في غيبتي وإن عملي ليرغمني على أن أقضي ساعات النهار كلها في المدرسة) فقال له صاحبه (أحقاً ما تقول؟) قال (نعم، لقد ماتت من تاريخي أنا فقط) وتراءى للصديق أن حادثة اجتاحت الزوجة وطمَّت على بشاشة الزوج في وقت معاً، فقال له في لهفة وشفقة (وكيف؟) فجلس إليه يقص القصة كلها وإن عبراته لتتدفق هتَّانة ثم قال: (وأنا الآن أضيق بالحياة فما أصبر على الوحدة ولا أستطيع أن أتزوج فأضرب أولادي باليتم والضياع. فلا معدى لي عن أحد أمرين: إما أن ألقي بنفسي في اليم فأخلص من عذابي بين أمواجه وإما أن أذهب إلى السودان مرة أخرى فأفقد روحي بين لظى الحر وقيظ الهاجرة) فقال له صاحبه في فزع: (وأولادك؟. . . أولادك يا أحمق؟) واضطرب قلب الرجل فآثر أن يبقى بين أولاده يرعى شأنهم، وهو يتشبث بالصبر والسلوان. وكان صاحبه ذا شأن ومكانة فجذبه من مشغلة التدريس إلى فراغ الديوان ليجد من وقته فراغاً للدار ومن قلبه سعة للولد.

وقضى الزوج سنة ذاق فيها غصة الحياة ومرارة الوحدة، وأحس - هو وصغاره - حرقة اليتم ولذع الضياع، واستشعر - وحده - قسوة القدر وغلظة الأيام. على حين كانت الزوجة الخائنة تعيش بين ذراعي فتى يصغرها بسنوات ويضيق بعشرتها، ويرى فيها فنوناً من الضعة والصغار، ويخشى أن تعبث به كما عبثت بزوجها من قبل؛ وما حاله بأحسن من حال زوجها يوم أن كان، ولا هو أعز عليها من أولادها. . . ثم ثارت به الشكوك وساورته الريبة!

وجلست الساقطة - ذات ليلة - إلى فتاها تطلب إليه أن يرتبطا معاً بالرباط المقدس. . . الزواج، وتلح في الطلب. ولكنه امتنع عليها وأعرض عنها!

يا لجهل الحمقاء! لقد عزب عن عقلها الفج أن المرأة الهينة هي لعبة تافهة بين يدي الرجل يلهو بها ساعة، ثم يحطمها وينبذها بالعراء؛ لا يحمل لها في نفسه إلا المهانة والاحتقار، وأن المرأة الصعبة هي في ناظريه كالطود الأشم ينحسر عنها البصر كلما اقترب منها لأنها تتراءى أمامه شامخة باسقة.

وألحت الحمقاء في الطلب فثار صاحبها ثورة قذفت بها إلى عرض الشارع وهو يقول (أفأتزوَّج هذه العاهر. . هذه الفاسقة؟)

وخرجت الخائنة إلى الشارع في ليلة ممطرة وإن أسنانها لتصطك من شدة البرد وإن جسمها لينتفض من زمهرير الشتاء وإن عبراتها لتنهمر من خيبة الرجاء وضيعة الأمل.

واقتص القدر من الزوجة الخائنة حين قذف بها إلى الشارع لا تجد العون ولا المأوى، فيا للقصاص العادل. . . يا للقصاص!

كامل محمود حبيب