مجلة الرسالة/العدد 854/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 854/الأدب والفن في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 11 - 1949



للأستاذ عباس خضر

الوساطة في التعليم:

لا شك أن الأزمة القائمة في قبول الطلاب بالمدارس ومعاهد التعليم المختلفة، يعاني كثير من الناس شرها، ويلاقون فيها الضيق والعنت، ولا تقتصر الآفة على مظاهرها القريبة البادية، فإن لها آثارا بعيدة غير هذه المظاهر. أن الوالد اللهيب الحريص تعليم ولده لا يدخر وسعاً في رجاء أصدقائه ومن يلوذ بهم من ذوي النفوذ في القبول بالمدارس، من كبير في الوزارة أو ناظر أو ناظرة أو مدرس أو مدرسة، أو من يتذرع بهم إلا هؤلاء - هذا الوالد وهو مثل من كثير، يعدُّ الأزمة منتهية بقبول ولده في المدرسة أو الكلية، ولكن هناك أثراً بعيداً غائرا في نفس الولد، فقد قر عنده أن (كل شيء بالواسطة) حتى دخول المدارس. سينسى متاعب أبيه في سبيل إدخاله المدرسة، وما بذله في هذا السبيل من وقت وجهد كان عمله في حاجة إليهما، وما عساه أن يكون قد شعر به من الحرج في رجاء الناس؛ ولكنه لن ينسى أن (الواسطة) مفتاح الباب المغلق ولو كان باب العلم.

ويا لحسرة الواقفين وراء الأسوار والأبواب. . إنهم أيضاً تتفتح أعينهم على أن (كل شيء بالواسطة) فهم يندبون حظهم لأنهم لا وسيط لهم. . حتى من لا تنفع في حالته الوساطة لو تيسرت كمن كبرت سنه وكثر رسوبه، أن هذا أيضاً يدعي أنه محروم لفقدان الوسيط.

وما بال هذا الذي تتحقق في ولده شروط القبول وتتوافر له أسباب الأولوية، من ملاءمة السن وتقدم في النجاح ونحو ذلك، ما باله يهرع إلى من يوصي بولده؟ إنه يعيش في الجو. . . ويخيل إليه أن الوساطة أول الشروط! وهناك كثير من الناس يرون في اتخاذ الوساطة مظهراً للوجاهة ودلالة على علو المكانة، فالمقصد عندهم هين في ذاته جليل بجلالة الوسيط. . .

وهكذا يتفتح الجيل الناشئ الغض على منظر هذا الداء، فيألفه ويتصوره أمرا عاديا ليس فيه من عوج ولا أمت. وقد تلقي عليهم في بعض الدروس أشياء عن الحقوق والواجبات والعدالة والمساواة وما إلى ذلك، فيأخذونه على أنه كلام ينفع في الامتحان أما الحياة الواقعة فقد رأوا فيها بأعينهم (تطبيقات) على غير ذلك.

وبعد فذلك وجه من وجوه أزمة القبول في دور العلم، وهو من أوجهها الخفية البعيدة، وما أرى للداء دواء غير أن يقتلع من جذوره بتسيير العلم لطلابه وتعليم الراغبين في التعليم! وإنه لمن تضييع الفوائد أن يهمل هذا الإقبال الشديد الدال على شدة الرغبة والتعطش دون انتهازه للقضاء على الجهل والأمية، ومن الحمق أن نصد الصغار عن التعليم لنكافح الجهل والأمية فيهم كباراً.

إلى معالي وزير المعارف:

كتب إليّ أحد إخواننا المدرسين يقول إنه حرر (الاستمارة)

التي اعتاد أن يكتبها في أول كل عام دراسي، لطلب تعليم

أولاده بمصروفات مخفضة، وله ثلاثة أولاد في روضة

الأطفال فردت منطقة القاهرة الشمالية (الاستمارة) بعد أن

كتبت عليها: (معاد إلى حضرة الأستاذ. . . للعلم بأن قرار

مجلس الوزراء بتاريخ 23149 لا يعطي الحق في التماسه

هذا إذ أن الإعفاء من المصروفات للمدرسين لا ينصب إلا

على التلاميذ المقيدين بالمدارس الثانوية وما في حكمها. مع

قبول الاحترام).

ومعنى ذلك حرمان المدرس المنحة التي كانت تجري عليها الوزارة في معاملة أولاد المدرسين برياض الأطفال، والتي تقضي بأن يكون الولد الأول بمصروفات كاملة وأن يعفى الأربعة الذي يلونه من نصف المصروفات ثم يعفى من يلي هؤلاء إعفاء كاملاً. فكيف أقدمت وزارة المعارف على ذلك وهي التي تعمل على التخفيف عن المدرسين في نفقات أولادهم المدرسية؟.

علمت أن الوزارة أصدرت منشوراً يتضمن الأمر بإبطال العمل السابق، والاكتفاء بتطبيق قرار مجلس الوزراء الصادر

في 23149 وهو يقضي بإعفاء أولاد المدرسين من

مصروفات التعليم الثانوي وما في مستواه لمن يثبت منهم أنه

يدفع مصروفات مدرسية لطالب واحد في مرحلة تعليمية غير

المرحلة الأولى.

والذي يستوقف النظر أن هذا (المنشور) بني على أساس أن القرار الأخير أعم وأوسع في مزاياه من القرار الأول وأكثر منه تيسيراً وتمكيناً لرجال التعليم من تعليم أبنائهم دون إرهاق!! فكيف يصدق هذا بالنسبة إلى ذوي الأطفال الذين يتعلمون في الرياض! لقد سلبوا ما كانوا يتمتعون به فيما مضى، ولم يجدهم القرار الأخير شيئا!.

وبعد فإلى معالي وزير المعارف الجديد محمد حسن العثماوي باشا يساق الحديث، وهو زعيم الإصلاح الاجتماعي ورجل قضاء وعدل، ولا أشك في أنه سيعير الأمر ما هو جدير به من عناية المصلح العادل واهتمامه، تقديراً لما يقوم به المعلمون من جهود في أداء الرسالة التعليمية.

أعظم ما كتب يوسف وهبي:

افتتحت الفرقة المصرية موسمها الحالي في الأوبرا الملكية برواية (اليوم خمر) ثم مثلت بعدها رواية (ابن الحسب والنسب) فكان ابتداء حسناً يلائم رسالة الفرقة في ترقية التمثيل العربي. ثم قدمت الفرقة أخيراً رواية (الصحراء) وقالوا في الإعلان عنها إنها (أعظم ما كتب يوسف وهبي) وهي من الروايات مسرح رمسيس القديمة التي ألفها يوسف وهبي، أو هي أعظمها كما قالوا. وتقع حوادثها في طرابلس الغرب حيث يجري الكفاح بين الإيطاليين وعرب المغرب، وقد وضعت الرواية ومثلت بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، فكان زمنها بطبيعة الحال إبان الحرب الأولى، ولكنا شاهدناها تمثل الآن على أن زمنها في الحرب الثانية، فقد سمعنا أبطالها يرددون كلمات (الدوتشي وموسيليني وروميل) ولكن العجيب أنهم يتناقلون ما وقع لعمر المختار على أنه حاصل في وقت وقوع هذه الحوادث أي في الحرب العالمية الثانية، فهذا خلط تاريخي كان الالتفات إليه وعدم الوقوع فيه من أيسر الأشياء ثم أن الحروب بين الإيطاليين وعرب المغرب إنما كانت ملابسة للحرب الأولى وبعدها، فكانت فظائع المستعمرين واستبسال المغاربة في مقاومتهم حديث الناس أيام مثلت هذه الرواية بمسرح رمسيس، أما في الحرب الثانية وبعدها فلم يكن شيء من ذلك.

وتجري الحوادث حول شخصية الأمير عماد بن سعد (يوسف وهبي) وهو قائد طرابلسي يقاتل الإيطاليين، وله زوجتان: زوجة عربية وهي أمينة (نجمة إبراهيم) وأخرى إيطالية وهي لينا (سامية فهمي) وله ولدان من كل منهما: شهاب (فاخر فاخر) من العربية وحسن (عمر الحريري) من الإيطالية. تفر الإيطالية بابنها مع جنود إيطاليين يفقئون عيني الأمير عماد، وينتهي بذلك المشهد الأول. وفي المشهد الثاني نرى كهفاً يعيش به الأمير الضرير وزوجته العربية التي أصيبت في غارة جوية بساقيها فأصبحت مقعدة وابنهما شهاب وابنة عمه عائشة (أمينة رزق) التي يحبها وتحبه، وقد أزمع شهاب اللحاق بفرقة من المدافعين عن الوطن، فتودعه أمه وتموت بين يديه، وينتهي المشهد بذهابه مع الفرقة والمشهد الثالث في الكهف أيضا حيث يعيش الأمير وابنة أخيه عائشة، يطرقهما جندي إيطالي جريح، فيؤويانه على مقتضى المروءة العربية، وبعد ذلك يتبين انه حسن ابن الأمير من الإيطالية. وفي المشهد الرابع نرى حسناً يحاول أن يكسب مودة عائشة التي حزنت على خطيبها شهاب، وبعد حوار بينهما تبدي له أنها تجيبه إلى رغبته في الزواج منها إذا قاتل الأعداء وثأر لأخيه وعاد منتصراً، ولكن حسناً يحار في أمره لأنه لا يزال يعد نفسه إيطالياً تبعاً لأمه، ثم يلتقي بجاسوس إيطالي فيتفق معه على نقل أخبار العرب إلى الجيش الإيطالي، ويسمع الأمير عماد الجاسوس وينقل أسرار الجيش العربي باللاسلكي، فيتحسس ناحيته حتى يمسك به ويستغيث، ولكن الجاسوس يفلت منه ويسدد إليه المسدس فيلتصق حسن بأبيه فيصيبه رصاص الجاسوس فيرديه. وهنا تستعصي الرواية على يوسف وهبي المؤلف إذ تأبى أن يختتم. . . فيزعق يوسف وهبي الممثل زعقة هائلة تجعل ولده شهاباً يبرز من تحت الأرض وكان قد بلغه انه قتل فيظهر انه كان جريحا فقط، فيتلقاه في أحضانه، على حين تجري أمينة رزق (عائشة) بالبندقية متحمسة مع المتحمسين لقتال الأعداء. وتلتقي فلقتا الستار. . .

كان المشهد الثالث أحسن المشاهد كلها، فقد كان هادئاً تجلت فيه الإنسانية والمروءة في إيواء العدو الجريح والعطف عليه، وقد اعتُمد في أكثر أجزاء القصة على (الرواية) أي أن اثنين من أبطالها يتحادثان طويلاً ليخبرانا بما حدث من كذا وكذا، وكان حديث الشخص الواحد يطول حتى يكاد يتحول إلى خطيب، ومن ذلك الحديث الذي دار في أول مشهد بين الشيخ صالح والشيخ حسان عن المستعمرين وممالئيهم من الخونة، فكان الثاني يلقي كأنه على منبر يوم جمعة. . . وفي أثناء الحديث بدا المسرح في منظر غريب، جملان يسيران الهوينى ونساء يحملن الجرار فارغات - إذ يحملنها وجوانبها على رؤوسهن - في الذهاب وفي الإياب! ورجال كثير يروحون ويجيئون، والجميع صامتون كأنهم قبيلة من الخرس! وكل ذلك حتى يفرغ المتحدثان، وبعد ذلك يأخذ الرجال في صلاة المغرب، فيطيلون الركوع والسجود ويمدون التكبير والحمد والتسبيح، ويختمون الصلاة بالأدعية، وكل ذلك أيضاً لكي تتمكن امرأتان من حديثهما المقصود منه (رواية) بعض الحوادث البعيدة عن المسرح! ولذلك وأمثاله كانت الحركة بطيئة مملة والتسلسل المشوق معدوماً، ولم يكن يمنع الجمهور من النوم غير انفجارات البنادق والغارة الجوية. . . وانفجار بعض (الأكليشيهات) الوطنية التي تستجلب التصفيق. . . ولست أدري ولا المؤلف (وهو المخرج أيضاً) يدري كيف يهجم جنود الأعداء على مكان القبيلة وطائراتهم تحلق فوقه وتقذفهم بالقنابل!.

وموضوع الرواية، أو المدعى انه موضوعها، هو الإشادة بالبطولة العربية في المغرب، ولكن أين ذلك على المسرح؟ أفي عرض جماعة من حملة السيوف يشرعونها نحو الطائرات التي تقذفهم بالقنابل. . . وكيف تقاتل الدبابات والمدمرات بالسيوف؟! وقد كان في الإمكان الذي يتفق مع الواقع أن يكون في أيدي الأبطال بنادق بدلا من السيوف.

أم في ذلك المشهد العجيب الذي شغل ببكاء الأم ونشيج الحبيبة قبيل رحيل الشاب إلى الحرب؟ كان الأوفق أن تتجملا بالصبر والجلد أمامه، ولا بأس بقليل من العواطف يبدو في أثناء التجلد، وقد كان هذا المشهد (فاصلة) مملة من العويل والبكاء تجلت فيه أمينة رزق!.

هذا وذاك إلى الروح الفاتر الذي ران على كل الأبطال. . . ولم تقدم لنا المسرحية بطلا واحدا تملأ العين شجاعته، ومن هنا إنعدم رسم الشخصيات، حتى الأمير عماد، والمفروض انه قائد مغوار، فقد رأيناه أولا منهوكا لا يستطيع الوقوف، وبعد ذلك صار شيخاً ضريراً لا حول له ولا طول، حتى زعق زعقته الأخيرة التي كانت هول الختام. .

عباس خضر