مجلة الرسالة/العدد 855/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 855/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 11 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

من صدى الدموع التي شابت:

لله هذا القلم الذي تقلبه أناملك فيسطر كلمات هي في أغوار القلب أنغام وألحان. . . فيها الشجن العارم والحزن المقيم، وفيها الحنان الشفيف والأخوة المتسامية، وفيها الإنسانية تحلق في أجواء مترعة من الأفكار وعالم حالم من الصور؛ هنالك حيث يلتقي الناس اخوة. . . وتتناجى الأرواح في همس.

كم حلقت بي كلماتك النابضة التي تتنفس على صفحات الرسالة والتي قرأتها اليوم. . . تلك القصة الرائعة التي سجلها قلمك الحي والتي أعجب أنك إنما صنعتها من كلمات وكلمات فقط. نعرفها جميعاً ونقرؤها كثيراً، ولكنها تتجمع هنا وتتآلف لتكون لحناً وتصوغ سمفونية خالدة!

قصة الدموع التي شابت؟! كم حركت الشجن في صدري، وكم أثارت كوامن الحزن في نفسي. . . نفسي التي عرفت الحزن وألفته وهامت به، الحزن الذي يصقل النفس، ويبلور العواطف، ويجنح بالفكر إلى العلو. .

هذا الصديق الذي كان لحناً توارى بين فجاج الصمت، وكان حلماً تبدد على صيحة مفزعة لملك الموت. . . هذا الإنسان الذي عاش في حساب الزمن سنوات قلائل، وعاش دهراً في حساب التجارب والمحن. . هذا الإنسان الصديق، الذي لم أره من قبل أريد يا سيدي الكتاب أن أعرفه.

اكتب لنا قصته فهو أولى الناس بأن تكتب عنه. لا تهب يا سيدي نبش القبور، ولا تتردد في تقليب الذكريات ومبعثها من مأواها الأخير، الغائر في أعماق الصمت. . فقد مات الإنسان ولا أحد يعرفه، عاش مغموراً ومات كذلك. ذهبت الأنات لم تصل إلى أذن، وتبددت الزفرات لم يشعر بها إنسان إلى أنت. . لقد ثوى الجسد في القبر وأصبحت الذكريات ملكاً للإنسانية الهائمة على مسرح الأرض. ونحن بغير تجاربنا ندور حول أنفسنا. نبدأ ثم نعيد، مغمض الأعين، مغلق السمع، مطموس الحس. . فاكتب عنه يا سيدي على ضوء تلك الرسائل التي بعث بها إليك، فإنك إذ تفعل إنما تضيف إلى تجارب. وإلى روضة الفن باقة غالية!

افعل ذلك بحق الفن. . وفي الانتظار، تقبل تحيات المخلص المعجب:

سعيد كامل

كلية الآداب - قسم الفلسفة

هذه رسالة من بضع رسائل تلقيتها حول قصة الدموع التي شابت. إنها تعبر عن رجع الصدى العميق الذي هز قلوب ومشاعر وتنوب عن بقية الرسائل في إظهار المحور النبيل الذي تدور حوله رغبة ورجاء.

يا صديقي الذي كتبت إلى. . لقد كنت أود أن أقص عليك وعلى الناس قصة ذلك الإنسان البائس، ولكن هناك أحياء سينفجر مداد القلم دماء جراحهم إذا ما كتبت!. إن وراء السطور مأساة نسج خيوطها القدر، وقام بإخراجها الزمن، واشترك في تمثيلها بعض الناس. . فيهم الشيطان الغادر، وفيهم الملاك الطاهر، وفيهم الإنسان الشهيد! أما المسرح فقد كان هناك. . في الإسكندرية، وأما النظارة فقد كانوا هنا. . . في القاهرة، كانوا فرداً واحداً يستمع إلى القصة تنقل إليه على أمواج الأثير في كلمات، ولكم تناول هذا الفرد الواحد قلمه ليجفف الدموع التي فاضت. . . ولكنها شابت!!

وها هو ذا يحاول اليوم أن يكتب القصة، ولكنه يقف حائراً بين أمرين: رغبة القراء. . . ولوعة الأحياء! ترى هل يرضى الفن فيستجيب لدعائه، أم يخضع لصوت الضمير فيقبض قلمه إلى حين. . . إلى تهدأ الرياح، وتلتئم الجراح، وتتكسر أمواج المحنة على شواطئ النسيان!؟

إنني في انتظار الرأي من كل صاحب رأى. . . وعلى الذين ينشدون عرض المأساة على صفحات الرسالة أن يقدروا هذه الحقيقة وهي أن هناك أموراً على جانب من الخطورة ستذكر، ولا آمن إذا ما اطلع عليها أصحابها أن يتهدم بيت وتتحطم أسرة!!

أدبنا بين المحلية والعالمية:

أسمع صيحة تتردد على الشفاه أحياناً، ثم تنتقل من الشفاه إلى الورق أحياناً أخرى؛ أعني أنها تنتقل من ميدان الحديث المسموع إلى ميدان الرأي المكتوب. . وجوهر الصيحة أو خلاصتها هو أن أدبنا لا يمثلنا، وهدفها أو غايتها هو أننا نريد أدباً مصرياً؛ أدباً ينبئ عن الشخصية المصرية، ويومئ إلى الطابع المصري، وبقبس من بيئتنا صوره وألفاظه ومعانيه!

صيحة يطلقها بعض المتعصبين عن جهل، ورأى يجهر به بعض المتعالمين بغير علم، و (وطنيه أدبية) ينادي بها بعض (القوميين) على غير هدى وبصيرة. . . يريدون أدباً مصرياً، ماذا يقصدون بالأدب المصري؟ هل يقصدون أن يهمل الكتاب والشعراء والقصاصون كل ما يتصل بالتجربة الشعورية الخاصة، وبالنفس الإنسانية العامة، وبالحياة في كل أفق من آفاقها الرحيبة، ليفرغوا لكل مشكلة يومية تعترض طريق الكادحين من أبناء الشعب، وكل ظاهرة اجتماعية تهم المسئولين عن مصالح الناس، وكل مشهد تقع عليه العين ويلتقط الخاطر في نطاق المجتمع الذين يعيشون فيه؟!. أغلب الظن أنهم يرمون من وراء صيحتهم إلى هذا كله؛ وإلى ما هو أبعد من هذا كله؛ فإذا رحل الشاعر المصري مثلاً إلى ربوع سويسرا وجادت مخيلته برائعة شعرية حول بحيرة لمبان قالت له ألف صيحة وصيحة: هذاأدبسويسري وهذه بضاعة أجنبية، نريد أدباً مصرياً نريد بضاعة وطنية. . . عندك يا أخي بحيرة البرلس وبحيرة أدكو وبحيرة المنزلة، ألا ترى أننا في غنى عن أن نستورد من الخارج؟! وإذا تنقل القصاص المصري مثلاً بين أحياء باريس ثم عكست ريشته بعض صور الحياة في مونبارباس قالي له ألف صيحة وصيحة: هذا أدب فرنسي هذهآداب غربية، نريد أدباً مصري نريد آفاق شرقية. . . عندك يا أخي حي السيدة والحسين وخان الخليل، سألا ترى أننا في غنى عن أن نستورد من الخارج؟! وإذا طاف الكتاب المصري مثلاً بأي بلد أوربي فأستمع إلى أدبائه ونقل ما سمع إلى مواطنيه، أو قضى ساعات بين كتب الغرب ثم تحدث عن رحلته الفكرية إلى قارئيه قالت له ألف صيحة وصيحة: هذا أدب المبرنطين هذه أفكار أعجمية، نريد أدب المطربشين نريد أفكاراً عربية. . يا أخي عندنا فلان وفلان وإنهم لمن سلالة الجاحظ وأبي حيان وأبن المقفع وأبن العميد فمالنا ولجان سارتر وجورج ديهامل وبول كلودل وأندريه جيد؟ ألا ترى أننا في غنى عن أن نستورد من الخارج؟!

هذا هو جوهر الصيحة أو خلاصتها أو هذا هو الهدف الذي تلوذ به وتسعى إليه، ولك أن ترد الجوهر الهدف معاً إلى تلك الدوافع التي حدثتك عنها من قبل، ولك أن ترد تلك الدوافع إلى مصدر واحد هو مركب النقص. . . يريدون أن يحصروا الأدب المصري في بيئتهم لأنهم لا يعرفون غير هذه البيئة، ويريدون أن يفرضوا على الأدب المصري في بيئتهم لأنهم لا يعرفون غير هذه البيئة، ويريدون أن يفرضوا على الأدب المصري الحديث ألا يتحدث بغير لغتهم لأنهم لا يفهمون غير هذه اللغة، يريدون أن يقصوا أجنحة الأدب المصري إذا حلق في غير أفقهم لأنهم لا يطيقون غير هذا الأفق، ويريدون أن يكتموا أنفاس الأدب المصري إذا عب من هواء الحرية في غير جوهم لأنهم لا يستطيبون غير هذا الجو بما فيه من هواء. . . ولا بأس من الجمود والركود، ولا بأس من الخمول والرجعية، ولا بأس من البقاء في المعاقل دون التطلع إلى ما وراء الأسوار. لا بأس من هذا كله ما دمنا نريد أدباً مصرياً، أدباً يمثلنا، أدباً لا يصح أبداً أن يتخطى حدود الزمان والمكان!!

أدب محلي هذا الذي يريدون، لأنهم لا يدركون أثر العالمية في الأدب ولا قيمتها في حساب الخلود. . . كلا يا أصحاب الصيحة السافرة وغير الصاخبة، أننا نريد أدباً إنسانياً لا مصرياً، أدباً يقرؤه الذين هنا والذين هناك، أدباً يفتش عن مصادر الإلهام ومنابع الوحي في كل قطر من الأقطار وكل بقعة من البقاع، أدباً يخاطر الوجدان في كل نفس بشرية ويستنطق الحياة أينما طافت عدسته بمواكب الأحياء، أدباً يطالعه القارئ من كل جنس ولون فيحس أنه قد كتب له، أدباً يصوّر الخلجة كما تضطرب في أعماق اصدر، والخفقة كما تهدر من أغوار القلب، والنزعة كما تنحدر من أوكار النفس، والنزوة كما تتنزى بين قيود الطبع. . . وهذه هي المرآة الصافية المصقولة التي تلتقي على صفحتها كل الوجوه، وتتألف كل المشاعر، وتتعانق كل الأرواح. هنا وفي كل أرض يرتفع فوق ثراها صوت الفن، وترفرف في سمائها راية الفكر، وتتجاوب في أرجائها صيحات الباحثين عن أنفسهم في زحمة هذا الوجود!!

أنك لن تجد في فرنسا من يقول نريد أدباً فرنسياً، ولن تجد في روسيا من يقول نريد أدباً روسياً، ولن تجد في ألمانيا من يقول نريد أدباً ألمانياً، ولن تجد في إنجلترا من يقول نريد أدباً إنجليزياً. . . ذلك لأن الأدباء في كل بلد من تلك البلاد قد فهموا رسالة الفن كما يجب أن تفهم، على أنها مادة فكرية تحطم حواجز المحلية المقيدة لتنفذ إلى مسالك العالمية الطليقة، وبمثل هذا الفن الإنساني تمكنت هذه الآداب جميعاً من أن تحتل مكانها في كل وطن، وكل بيئة، وكل لغة. . . وهذا هو الطريق!

جان بول وسارتر والشعر:

للفيلسوف الفرنسي الكبير جان بول سارتر مجلة أدبية فلسفية هي (العصور الحديثة أو. . ولا أريد أن أحدثك هنا عما ينشر فيها من بحوث، ولا عن مكانة صاحبها من الفكر الفرنسي المعاصر، وأن كنت قد حدثتك عن مكانة سارتر في عدد مضى من الرسالة. وإنما أريد أن أنقل إليك قصة طريفة تتعلق بالفيلسوف الفرنسي الكبير وبمجلته الرفيعة؛ وهي أن شاعراً من الشعراء الفرنسيين قد بعث إليه بقصيدة من (روائع شعره) لتزدان بها صفحات (العصور الحديثة). . . ومضى شهر وشهران وثلاثة والشاعر ينتظر، ينتظر نشر القصيدة التي ألقى بها سارتر إلى سلة المهملات!

وحين يئس الشاعر من عطف الفيلسوف، أطلق لغضبه العنان فكتب مقالاً ثائراً في (الفيجارو) يتهم فيه سارتر بأنه رجل لا يحترم الشعر لأنه لا يفهمه، والدليل على ذلك أنه لم يستطع أن يتذوق قصيدته (الفريدة) التي رحبت بنشرها الفيجارو في صفحها الأدبية!. . . وتناول الفيلسوف قلمه ليبعث إلى الصحيفة الفرنسية بهذه الكلمات (عزيزي رئيس تحرير (الفيجارو). . أؤكد لك أنني أفهم الشعر، وأؤكد لك أنني أحترمه أكثر مما أحترم الفلسفة، والدليل على مدى احترامي للشعر هو أنني أخرجت كتاباً عن (بودلير) الشاعر في حين أنني لم أكتب شيئاً عن (ديكارت) الفيلسوف. . . أما الدليل الأخير فهو أنني قد ألقيت بقصيدة الشاعر الذي هاجمني إلى سلة المهملات)!!

قصة طريفة أهديها إلى الشاعر المصري (الكبير) الذي بعث إليّ برسالة يتهمني فيها بأنني لا أحترم شعره لأنني لا أفهم الشعر، وكان قد أهدى إليّ إحدى قصائده لأقدمها إلى القراء على أنها من فرائد (الأداء النفسي)، ذلك الأداء الذي سبق أن بحثت مشكلته على صفحات (الرسالة). . . وأكتفي بهذا وأصفح عما جاء برسالته من عبارات مهذبة، وعليه أن يشكرني في رسالة أخرى لأنني استشرت الذوق فلم أذكر اسمه، وإذا لم يفعل فسأعمد إلى التصريح بعد التلميح! بعض الرسائل من حقيبة البريد:

هذه رسالة من الشاعر العراقي الفاضل الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري أقول رداً عليها بعد شكره على كريم تقديره، هل تود أجيبك عما سألتني عنه هنا أم تود أن يكون الجواب في رسالة خاصة؟ أنني في انتظار رأيك. وهذه رسالة أخرى من العراق أقول لمرسلها الأديب الفاضل محمد سعيد (مسيب)، أنتي أرحب بعضويتك في محكمة الأمانة العلمية وأشكر لك حسن ظنك بصاحب (التعقيبات)، وأعتذر من نشر حكمك القاسي على الدكتور شكري لأننا لم نسمع بعد كلمته في الموضوع، أما الرسالة الثالثة فهي من الأستاذ الفاضل فؤاد الونداوي (بغداد) ومنها سؤال عن (القيود في الفن) سأعرض له بالتعقيب في العدد المقبل من (الرسالة)، ومن العراق أيضاً هذه الرسالة الرابعة وهي من الأديب الفاضل عبد الله نيازي (بغداد) يا صديقي لك خالص امتناني لتفضلك بإهدائي (نهاية الحب)، قصتك الطويل التي تلقيتها منذ أيام، وأنتقل إلى الرسالة الخامسة وهي من الأديب الفاضل عبد الله النافع (عطبرة - سودان) وفيها يرمي زميله الأديب السوداني سيد أحمد قناوي بأنه يبعث إلى (الرسالة) بأقاصيص منسوبة إلى الإنجليزية حيناً وإلى الفرنسية حيناً آخر مع أنه لا يجيد هذه ولا تلك، إن ردى على هذا لاتهام هو أن يدفع الأديب المتهم عن نفسه ما رمى به، وذلك بأن يذكر في أقاصيصه المقبلة أسماء من ينقل عنهم ويترجم لهم! أما الرسالة السادسة فمن أديب فاضل من (الإسكندرية) رمز لنفسه بهذين الحرفين (م. خ) وبها سؤال عن بعض ما جاء بكتاب (الحب الضائع) للدكتور طه حسين، يا صديقي المجهول لك خالص شكري على جميل رأيك في صاحب هذا القلم، وإلى العدد المقبل حيث أتناول بالنقد تلك الفقرات التي نقلتها إليّ. . . ويضيق النطاق اليوم عن بقية الرسائل في حقيبة البريد.

أنور المعداوي