مجلة الرسالة/العدد 857/الشعر المصري في مائة عام
مجلة الرسالة/العدد 857/الشعر المصري في مائة عام
الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية
للأستاذ محمد سيد كيلاني
- 1 -
1850 - 1882
كان حكم محمد علي بداية تحول في تاريخ مصر الحديث. ففي عهده شرعت البلاد تأخذ بأسباب النهضة والتقدم، واتصلت بأوربا وطفقت تستفيد من علومها وثقافتها.
ثم مات محمد علي وخلفه عباس الأول (1848 - 1854) وفي عهده كادت تتلاشى بوادر النهضة التي خلفها جده الكبير.
ثم جاء سعيد (1854 - 1868) وكان يمتاز بحبه للمصريين وعطفه عليهم فأدخل بعض الإصلاحات الزراعية فلهجت الألسن بالثناء عليه، ووجه عناية خاصة بالجيش فرفع مستواه، وفرض التجنيد الإجباري على جميع أفراد الشعب، وفتح باب الترقي أمام أبناء الفلاحين، واهتم بتزويد الجند بأحدث الأسلحة التي عرفت في عصره، وشيد القلاع والحصون. وقد ظهر أثر ذلك في الشعر فأخذ الشعراء يمدحون سعيداً وينوهون بشجاعته وإقدامه، ويشيدون بجيوشه وأسلحته وبقلاعه وحصونه. فمن ذلك قول السيد علي أبي النصر:
هم جنود بل أسود بأسهم ... يتقيه كل جبار عنيد
أقسمت أسيافهم لو جردت ... يوم حرب لم تدع شخصاً يحيد
والرمان اللدن أو مت بالظبا ... نافذات في الترقي والوريد
كم لهم من بندق أبدى لنا ... معجزات إذ له لن الحديد
كم لهم من مدفع آياته ... بينات لفظها لفظ مفيد
كم توالوا فوق خيل ضمر ... سابقات للقضا فيما يريد
لو أتت يوماً على رغم العدى ... مرسلات غادرته كالحصيد
إذ عليها كل ليث ضيغم ... في ملاقاة العدى برج مشيد وقال السيد صالح مجدي مؤرخاً بناء القلاع السعيدية بجوار القناطر الخيرية:
فأسس بالتقوى حصوناً عديدة ... بثاني جمادى بعد إبداء دعوة
ففي جانب الكبريّ لاحت بروجها ... عليها مدار الأمن في كل لحظة
ولما علت أركانها وتجهزت ... بما يدفع الأعداء عنها بهمة
وحصنت الأبراج منها مدافع ... تسوق إلى المغرور أثقل كلة
تكفل من أبطال مصر بحفظها ... رجال لهم بطش وأعظم سطوة
هكذا مدح الشعراء سعيدا. وأنت ترى أن مدح سعيد كان يقرن دائماً بذكر عساكره وجنوده؛ ومدافعه وبنادقه، ومناعة استحكاماته ومتانة قلاعه وحصونه، مع أن البلاد لم تستفد شيئاً من هذه القلاع والحصون، بل تكبدت خسائر مالية فادحة دون مقابل. ولو أن سعيداً شيد معاهد للعلم بدل تلك القلاع لأفاد البلاد فائدة محسوسة، ولكنه أهمل نشر العلوم والمعارف ولم تفتح في عهده مدرسة واحدة. لذلك أمسك الشعراء عن الخوض في هذا الباب، ولم يقرن اسم سعيد بنشر العلم والعرفان، ولم يعن الرجل بتشييد المصانع لتزويد الجيش بما يلزمه من ملابس وسلاح، بل كان يستورد من أوربا كل ما يحتاج إليه، فترتب على ذلك أن أموال البلاد أخذت تتسرب إلى الخارج ووفد على مصر كثير من الأوربيين الطامعين في الثراء وأضحى نفوذهم يزداد يوماً بعد يوم.
وفي عصر سعيد انتهت حرب القرم التي نشبت بين الدولة العلية وروسيا. وكانت مصر قد اشتركت في هذه الحرب وأبلى الجنود المصريون بلاء حسناً في ميدان القتال. وقد تغنى الشعراء المصريون بهذا النصر. فمن ذلك قول عبد الله فكري:
لقد جاء نصر الله وانشرح القلب ... لأن بفتح القرم هان لنا الصعب
وقد ذلت الأعداء في كل جانب ... وضاق عليهم من فسيح الفضا رحب
بحرب تشيب الطفل من فرط أهولها ... يكاد يذوب الصخر والصارم العضب
إذا رعدت فيها المدافع أمطرت ... كؤوس منون قصَّرت دونها السحب
وقال الساعاتي:
أسياف سطاه كم فعلت ... وأرادت أن تعلو فعلت
والروس لها ذلت وعنت ... في مشهد حرب (سوستبل) ثم قام سعيد برحلة إلى بلاد الحجاز. وكانت هذه الرحلة أشبه بحملة عسكرية إذ صحبه من الجند والحاشية نحو ألفي رجل من مشاة وفرسان ومدفعية وأتباع. وفي ذلك يقول الساعاتي مخاطباً سعيدا:
ملأت قلوب العرب رعباً فما دروا ... بعثت لهم بالكتبأمبالكتائب
تركتهم في أمرهم بين صادق ... وآخر في تيه من الظن كاذب
تسير لهم في بحر جيش عرمرم ... يفيض بموج الحتف من كل جانب
إذا هتفوا باسم العزيز تزلزلت ... جبال عليها الذل ضربة لازب
فكيف إذا يممت بالشهب أرضهم ... وزاحمت ما في أفقهم بالنجائب
وجرد عليها الأسد في قصب القنا ... ترى الأسد في الآجام مثل الثعالب
فعصر سعيد قد امتاز في بعض فتراته بظهور الروح العسكري الوطني. وقد أثر هذا في الشعر على نحو ما بينا. وأقبل الشعراء في ذلك العصر على نظم الأناشيد العسكرية الحماسية، فنظم رفاعة رافع الطهطاوي جملة من أناشيد وطنية تذكر ما جاء في أحدها وهو:
يا جند مصر لكم فخار ... بين الورى عالي المنار
كالشمس في وسط النهار ... صيت لكم في الكون سار
حادي السعود به حدا ... والطير صاح وغردا
بشرى لمصر قد بدا ... فيها الفخار مؤبدا
بأميرها يحر الندا ... أعني السعيد محمدا
وحذا حذوه السيد صالح مجدي فأنشأ (القصائد الوطنيات) وكذلك فعل مصطفى سلامة النجاري شاعر سعيد الخاص، ومحمود صفوت الساعاتي.
وفي عصر سعيد ظهرت في مصر بعض المخترعات الحديثة كالسفن البخارية والآلات الزراعية التي تدور بالبخار وآلات رفع الماء كما أن السكك الحديد قد أخذت تحل محل شيئاً فشيئاً محل وسائل، النقل القديمة. وكذلك انتشرت الأسلاك البرقية. فتغنى الشعراء بهذه المخترعات. قال السيد صالح مجدي يصف (وابور) سعيد:
أمدينة من فوق لج الماء ... تجري بأبهج منظر وبهاء أم هذه إرم بدت وعمادها ... مسبوكة من فضة بيضاء
أم ذاك وابور المسرة مده ... صدر البرية أسعد السعداء
وحبا النيل المبارك فازدهى ... ببديع بهجة شكله الحسناء
فكأن هذا الفلك في تنظيمه ... فلك به تسري نجوم سماء
وكأنه في النهر عند مسيره ... برق يقصر عنه طرف الرائي
أو أنه ملك خطير جنده ... ملأ من الأمواج والأهواء
فعساكر الأمواج يرسلها على ... سفن البخار طليعة الأعداء
وهكذا أستمر الشاعر يصف هذه السفينة ويشبهها تارة بالمدينة وتارة بالفلك، وحيناً آخر بالملك.
وقال يذكر قنطرة سعيد:
لله ما أبهى وأبهج قنطرة ... سمح السعيد بها فزانت كوثره
وبصنعها سكك الحديد مد يدها ... أضحى لوافر نفعها ما أقصره
وكأنها والموج تحت رصيفها ... ملك ينظم بالشهامة عسكره
وكتائب العربات تلثم أرضها ... وتجوز وهي بأمنها مستبشرة
ثم جاء الخديو إسماعيل (1863 - 1879) وكان عهده حافلاً بجلائل الأعمال، فوجد الشعراء أمامهم مجال القول ذا سعة فقالوا. فلما حصل الخديو إسماعيل على نظام الوراثة الذي يقضي بحصر العرش في أكبر أبنائه (1866) تسابق الشعراء إلى مدحه وتهنئته. وكان عباس الأول قد سعى من قبل في سبيل الحصول على هذا الحق ففشل. وفي ذلك يقول عبد الله فكري:
ومهدت مد الله في عمرك إرثه ... لأبنائك الطهر الجحا جحة الغر
وقبلك كم مدت لما نلت شأوه ... يد ثم ردت غير ظافر الظفرة
وما كان يسمو لأمر يبالغ ... مداه ولا كل الجوارح كالصقر
وقال صالح مجدي:
وشيد أركان الوراثة فازدهت ... بذلك أوطان وسرت أناسم
وقال من قصيدة أخرى: وفي آلك الصيد الكماة تقررت ... وراثة تخليد رفعت لها ذكراً
وما تكاد تشيد مدرسة أو يبنى معهد أو يقام مصنع حتى يبادر الشعراء في تأريخ هذا شعراً. ومثال ذلك قول السيد صالح مجدي في أحد مصانع السكر الذي أقامها إسماعيل:
وشاد بها فوريكة السكر التي ... بها الصدر إسماعيل دو الدولة اعتنى
سمعت روضة الأنس الجمالية التي ... غدا ثغرها بالسوق للناس محسناً
فيا سكر الأحواز ما زلت سامياً ... إلى أن تسامى عنك سكر مصرنا
واهتم إسماعيل بتحسين مدينة القاهرة فشيد كثيراً من القصور الفخمة، وغرس الحدائق والبساتين، ومهد الشوارع والميادين. قال السيد صالح مجدي: (انتهزت فرصة عرضت لي في يوم من أيام المواسم الوقتية، للتنزه بالمدينة المحروسة المعزبة، بقصد رياضة ذهن أعيته كثرة الأشغال، وفهم أسقمه تراكم الأعمال، فرأيت عن يميني وشمالي وخلفي وأمامي، في جميع البقاع التي سعيت إليها بأقدامي، من التحسينات الفائقة المصرية والتنظيمات الرائقة المصرية، ما توهمت به من يقضتي أني في منام، وأن ما يبدو لناظري إنما هو من قبيل الأحلام. ومكثت على هذه الوتيرة، برهة من الزمن يسيرة، أتقلب من الدهشة في كل واد، وارمق تلك التحسينات بعين الفؤاد. فلما أفقت مما أنا فيه بعد إمكان النظر، وقفت عقب ذلك على جلية الخبر، نطق لساني بالثناء الجميل، على ولي النعم عزيز مصر إسماعيل، وقلت مصرحاً بوصف بعض مخترعاته العجيبة.
ثغور التهاني للعزيز بواسم ... وأيامه بيض الليالي مواسم
وأفنان أدواح غردت ... بمصر عليها للأنام حمائم
فأما المباني فهي في حسن نظمها ... بروج لأفلاك السماء تزاحم
وفي الأرض للأبصار تبدو كوكب ... من الغاز للبدر المنير تنادم
وأما تقسيم المياه فنفعها ... عميم وفيها للعباد مراحم
ومنها بساتين القصور تفتحت ... من الورد بعد الري فيها كمائم
وأما الميادين التي قد تجددت ... ولاحت عليها للفخار علائم
فأشرفها السامي يذكر (محمد ... علي) الذي هابت لقاه الضراغم
ومنها الذي في عابدين قصوره ... لها السعد طول الدهر في مصر خادم ومنها الذي في الأزبكية زانه ... بهاء وحلى ما حواه مناظم
وكيف وللتفريح فيه ملاعب ... بهن سرور للبرية دائم
وقصور ولي المهد فيه كأنه ... بما حوله فوق المجرة قائم
وفيه سرايات وفيه حدائق ... وفيه لإحياء الفنون معالم
وهكذا استمر الشاعر يذكر القصور والبساتين، والشوارع والطرقات والحدائق والمتنزهات، وكل ما ظهر من معالم الحضارة وآثار العمران كالسكك الحديدية والترع والقناطر والكباري قال:
وأما أخاديد الحديد فإنها ... قد انتشرت في القطر منها مغانم
وراجت بها بعد الكساد تجارة ... لها اليمن في ظل الأمان مسالم
وقد غرست في جانبيها بحكمة ... لتوصيل أخبار البرايا قوائم
ثم انتقل إلى ذكر دواوين الحكومة ومصالحها ومجلس الأحكام والمجلس المخصوص والمطبعة الأميرية ومصلحة التفتيش والدائرة السنية ودائرة الأنجال ومجلس النواب، قال:
وعن مجلس النواب حدث فإنه ... منوط بما فيه لمصر الغنائم
وذكر القانون القاضي بإلغاء السخرة فقال:
ولم يبق للتسخير في بر مصر ... وجود وزالت قبل ذاك مغارم
ولما ارتبكت الأحوال المالية في مصر أخذ الشعراء يتناولون الحالة السياسية بالنقد والتجريح. ومن هنا بدأ الشعر السياسي في الظهور. قال صالح مجدي معرضاً بالخديو:
رمى بلادكم في قعر هاوية ... من الديون على مرغوب جوسيار
وأنفق المال لامناً ولا كرما ... على بغي وقواد وأشرار
والمرء يقنع في الدنيا بواحدة ... من النسا وهو لم يقنع بمليار
ويكتفي ببناء واحد له ... تسعون قصراً بأخشاب وأحجار
فاستيقظوا لا أقال الله عثرتكم ... من غفلة ألبستكم ملبس العار
ولا شك في أن الشاعر قد تحامل كثيراً وبعد عن الصواب. فبعد أن أشاد بالأعمال الجليلة التي قامت في عصر إسماعيل، وبعد أن تغنى بمظاهر الحضارة والعمران التي ازدانت بها مصر في أيام ذلك العاهل العظيم، رجع يردد بعض التهم التي اخترعها نفر من الأوربيين الذين قاوم إسماعيل نفوذهم الذي أرادوا فرضه على البلاد. ولسنا هنا بصدد مناقشة ما ورد في هذا الشعر وإظهار ما فيه من رأي فاسد فقد أغنتنا كتب التاريخ عن ذلك.
وقد ترتب على ارتباك الأحوال المالية فساد كبير في الأداة الحكومية فانتشرت الرشوة وعمت الفوضى.
وقد ظهر أثر ذلك في الشعر، فنظم محمود سامي البارودي قصيدة رائعة في ذم الحكام وحض الناس على طلب العدل في الأحكام. ومما جاء فيها قوله:
لكننا غرض للشر في زمن ... أهل العقول به في طاعة الخمل
قامت به رجال السوء طائفة ... أدهى على النفس من بؤس على ثكل
من كل وغد يكاد الدست يدفعه ... بغضاً ويلفظه الديوان من ملل
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ... قواعد الملك حتى ظل في خلل
ومنها يخاطب المصريين ويحضهم على الثورة في وجه الظلم والاستبداد. قال:
فما لكم لا تعاف الضيم أنفسكم ... ولا تزول غواشيكم من الكسل
ومنها:
فأي عار جلبتم بالخمول على ... ما شاده السيف من فخر على زحل
ومنها:
فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا ... شكالة الريث فالدنيا مع العجل
وقلدوا أمركم شهماً أخا ثقة ... يكون ردأ لكم في الحادث الجلل
ومنها:
وطالبوا بحقوق أصبحت غرضاً ... لكلب منتزع سهماً ومختتل
ولا تخافوا نكالا فيه منشأ كم ... فالحوت في اليم لا يخشى من البلل
وقد حذا حذو البارودي كثير من شعراء ذلك العصر الذين كانوا من غير شك ينطقون بلسان الأمة ويعبرون عما يجول في خواطر أفراد الشعب.
(يتبع)
محمد سيد كيلاني