مجلة الرسالة/العدد 858/من المفسرين في عصر الحروب الصليبية:
مجلة الرسالة/العدد 858/من المفسرين في عصر الحروب الصليبية:
القرطبي
الأستاذ أحمد أحمد بدوي
محمد بن أحمد بن أبى بكر بن فرح، من اشهر مفسري ذلك العصر، وقد بقي لنا تفسيره كاملا.
ولد بقرطبة من بلاد الأندلس، وتلقى بها ثقافة وسعة في الفقه والنحو والقراءات، وسمع من أبى العباس أحمد بن عمر القرطبي بعض كتابه: المفهم في شرح مسلم، ودرس البلاغة وعلوم القران واللغة، ثم وفد إلى مصر، كما وفد غيره من علماء الأندلس، وكانت بلادهم في ذلك الحين تتخطفها الفرنجة، ولست ادري متى قدم إلى مصر. واستقر في الصعيد، بمنية ابن خصيب (المنيا)، يقضي وقته بين العبادة والتاليف. ويقول مؤرخوه عنه: أنه كان من عباد الله الصالحين، والعلماء الورعين الزاهدين قال عنه الذهبي: إمام متفنن، متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل على إمامته وكثرة اطلاعه. وفور فضله وقال عنه صاحب شذرات الذهب: كان إماما علما من الغواصين على معاني الحديث، حسن التصنيف، جيد النقل.
وترك القرطبي مؤلفات شتى، أهمها كتابه في التفسير الذي سماه (جامع أحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان) وتقوم دار الكتب بطبعه، وتقدر إنها ستتمه في عشرين جزءا. وهو لا يقف في تفسير القرآن عند حد ما روي من ذلك عن الرسول والسلف الصالح، بل يتخذ ما أوتيه من أدوات العلم وسيلة يستعين بها على فهمه، وإن كان يعد معرفة ما اثر من ذلك ضروريا فهم كتاب الله. وهنا يحسن بنا أن نوضح الرأي الذي اختاره لنفسه في كتابه، فقد عقد بابا لما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي، والجرأة على ذلك (ج ص27 طبع دار الكتب) وفي هذا الباب أورد ما روي عن عائشة أنها قالت: ما كان رسول الله ﷺ يسفر من كتاب الله إلا آيا بعدد، وعلمه إياهن جبريل. وقد رأى في ذلك ما رآه ابن عطية، من أن معنى الحديث في مغيبات القرآن وتفسير مجمله، ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا يتوقف من الله تعالى. ومن جملة مغيباته ما لم يعلمه الله به، كوقت قيام الساعة ونحوها. ثم نقل ما رواه الترمذ النبي ﷺ من أنه قال: اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. ومن قال في القران برأيه فليتبوأ مقعده من النار. وروي أيضاً عن جندب أنه قال: قال رسول الله ﷺ: من قال في القران برأيه فأصاب فقد اخط. وفي تفسير هذين الحديثين نقل عن ابن ألا نباري أن حديث ابن عباس فسر تفسيرين: أحدهما: من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط الله. والتفسير الآخر، وهو اثبت القولين وأصحهما معنى: من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره، فليتبوأ مقعده من النار، إما حديث جندب، فقد حمله بعضهم على أن الرأي معنى به الهوى، فالمعنى من قال في القرآن قولا يوافق هواه، ولم يأخذه عن أئمة السلف فأصاب، فقد اخطأ، لحكمه على القرآن بما لا يعرف اصله ولا يقف على مذاهب أهل الإثر والنقل فيه. ونقل عن ابن عطية إن معناه أن يسال الرجل عن معنى من كتاب الله، فيتسور (أي يتهجم) عليه برأيه، دون نظر فيما قال العلماء، أو اقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول؛ وليس يدخل في هذا الحديث إن يفسر اللغويين لغته، والنحويون، نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا لمجرد رأيه. قال القرطبي: هذا صحيح، وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء، فإن من قال فيه بما صح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ أن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على
معناه فهو ممدوح.
قال القرطبي: وقال بعض العلماء: (إن التفسير موقوف على السماع) وهذا فاسد. . . لأن النهي عن تفسير القرءان لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع، وترك الاستنباط، أو المراد به أمر آخر، وباطل أن يكون المراد آلا يتكلم أحد في القرءان إلا بما سمعه، فإن الصحابة قد قرءوا القرآن، واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي ﷺ، وإنما النهي يحمل على أحد وجهين، أحدهما أن يكون له في الشيء رأي، وأليه ميل من طبعه وهواه، فتأول القرءان على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه. وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة، لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطله، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم، في أمور يعلمون قطعا أنها غير مراد.
الوجه الثاني أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيها يتعلق بغرائب القرآن، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير. فمن لم يحكم ظاهر التفسير، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي، والنقل والسماع لابد منه في ظاهر التفسير أولا، ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر؛ إلا ترى إن قوله تعالى: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة، فظلموا بها)، معناه آية مبصرة، فظلموا أنفسهم بقتلها. فالناظر إلى ظاهر العربية يظن إن المراد به أن الناقة كانت مبصرة، ولا يدري بما ظلموا. . فهذا من الحذف والإضمار. وأمثال هذا في القرآن كثير؛ وماعدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي أليه.
وترى من هذا نموذجا لمناقشاته من ناحية، وأنه ليس من هؤلاء الذين يقفون عند حد النقل عن السالفين، يعمل فكره في الاستدلال والاستنباط، لا لمجرد الهوى، ولكن اعتمادا على قوانين العلوم، ووقوفا عند حدودها، واخذ عن السلف ما يرى ضرورة الأخذ به. من تفسير المجمل وحل الشكل.
وبدأ القرطبي تفسيره بعدة أبواب رآها قبل الدخول في التفسير، وأوضح لنا الخطة التي انتهجها في كتابه بقوله: (وبعد، فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجمع علوم الشرع الذي استقله بلسانه ولفرض، ونزله به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن اشتغل به مدى عمري، واستفرغ فيه منتي بأن اكتب فيه تعليقا وجيزا، يتضمن نكتا من التفسير واللغات، والأعراب والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعا بين معانيها، ومبينا ما أشكال منها بأقاويل السلف، ومن تبعهم من الخلف. . . وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: (من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله). . . وأضربت عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، إلا ما لابد منه، ولا غناء عنه للتبيين، وأعتضت من ذلك بتبيين آي الأحكام بمسائل تسفر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل أية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد، مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير والغريب والحكم، فإن لم تتضمن حكما تذكرت ما فيها من التفسير والتأويل، وهكذا إلى آخر الكتاب.
وصدر المؤلف كتابه بعدة أبواب: منها واحد ذكر فيه جملا من فضائل القرآن،، والترغيب فيه، وفضل طالبه وقارئه ومستمعه والعامل به، وباب لكيفية التلاوة، وما يكره منها وما يحرم، وآخر في فضل تفسير القرآن وأهله، وباب شرح فيه معنى قول النبي ﷺ: إن هذا القران انزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر من. واعرض أقوال العلماء في ذلك، وصلته بالقراءات، وعقد بابا لجمع القران، وسبب كتابة عثمان للمصاحف، وترتيل سورة القران وآياته، وشكله، ولفظه، وتحزيبه، وعدد حروفه، وكلماته، وآيه، ثم عرض لمعنى السورة والآية، والحرف، وهل ورد في القران كلمات خارجة عن لغات العرب أولا ثم ذكر بابا في أعجاز القرآن، ووحه هذا الأعجاز.
وينقل القرطبي عن ابن عطية الذي لخص تفاسير من سبقه، ممن يرون ضرورة معرفة آراء السلف، واقتدى في ذلك القرطبي.
ولم يكتف المفسر بالفصل الذي عقده في تفسير الجامع - لبيان فضائل القران وفضل قارئه ومستمعه، بل الف في ذلك كتاب خاصا، دعاه التذكار في افضل الأذكار، وقد رأى أن يجمع في هذا الكتاب أربعين حديثا ترتبط بهذا الموضوع، وقد وضعه القرطبي على طريقة كتاب التبيان في آداب جملة القرآن للتوزي، ولكن التذكار أتم منه واكثر علما.
وللقرطبي مؤلفات أخرى، منها كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، وهو كتاب ضخم، قال مؤلفه في مقدمته وبعد فإني رأيت إن اكتب كتابا وجيزا، يكون تذكرة لنفسي، وعملا صالحا بعد موتي، في ذكر الآخرة وأحوال الموتى، وذكر النشر والحشر، والجنة والنار، والفتن والأشرار، نقلته من كتب الآمة، وتقاة أعلام هذه الآمة، حسب ما رويته أو ما رايته وبوبته بابا، بابا وجعلت عقب كل باب فصلا أو فصولا يذكر فيها ما يحتاج إليه من بيان غريب أو فقه في حديث أو إيضاح شكل، لتكمل فائدته وتعظم منفعته.
وله غير ذلك كتاب شرح أسماء الله الحسنى، وكتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة، ورد ذل السؤال بالكتب والشفاعة، قال عنه ابن فرحان في الدبياج المذهب: لم لقف على تأليف احسن منه في بابه. وله أرجوزة جميع فيها أسماء النبي، وله تأليف وتعليق غير هذه.
وكانت وفاته بالمنية سنة 671، وترك ولده شهاب الدين أحمد الذي روى عن والده بالإجازة.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم