مجلة الرسالة/العدد 859/اللغة الفلسفية عند ابن سينا
مجلة الرسالة/العدد 859/اللغة الفلسفية عند ابن سينا
للأستاذ محمد محمود زيتون
(هذه إشارات إلى أصول وتنبيهات على جمل يستبصر بها من تيسر له، ولا ينتفع بالأصرح منها من تعسر علية.)
بهذه العبارة يفتتح ابن سينا كتابه (الإشارات)، ونريد بهذا المقال أن نتعرف على أي نحو وإلى أي غرض أشار ابن سينا ونبه في إشاراته وتنبيهاته.
وكتاب (الإشارات) يحتوي على ثلاثة فنون: المنطق والطبيعيات والإلهيات، وكما يختلف الواحد منها عن الآخرين في موضوعه وغرضه، تختلف كذلك في طريقته للوصول إلى هذا الغرض.
ولقد خلف فيلسوف الإسلام تراثاً جليلاً شغل الفكر الإنساني في كل جيل، وتدارسه العلماء والفلاسفة من بعده في الجامعات، وليس أدل على مكانته التي تبوأها من ابن خلدون: (وترى الماهر منهم - العلماء - عاكفاً على كتاب الشفاء والإشارات والنجاة)، وحلت كتب ابن سينا الفلسفية محل كتب أرسو عند فلاسفة الأجيال المتلاحقة، وأفردوه له بالبحوث الطوال.
ولا عجب إذا كتب (ماكدونالد) في الإنجليزية كتاباً عن (معاني الوهم في التفكير الإسلامي) كان لإبن سينا فيه مكان مرموق. وكتبت الآنسة (جوا شون) في الفرنسية كتابها (ثبت باللغة الفلسفية عند ابن سينا) إلى غير ذلك مما كتبه الطليان عن احتمال إطلاع (ديكارت) على آراء ابن سينا كما ذهب إلى ذلك بسبب نصوص الإشارات التي نقلها (غليوم أو فرني) عن ابن سينا إلى اللاتينية.
وأسلوب ابن سينا الفلسفي في جل كتبه - إن لم يكن في كلها - طريف فازت (الإشارات) من طرافته بأوفر نصيب، تلك الطرافة التي تتجلى في عرض المسائل عرضاً علمياً دقيقاً، ونقدها في تؤدة العلماء، وأناة الفلاسفة، مما نرى شبهاً لها في طريقة (هيجل).
والكشف عن طريقة هذه في الإشارات يستلزم النظر في ثلاث:
أولاً: معاني المفردات التي أشار ونبه بها لغة واصطلاحاً.
ثانياً: تقدير مدى إبداع ابن سينا في هذه المفردات.
ثالثاً: تحديد الظلال السيكولوجية التي تلقيها معاني هذه المفردات.
ففي البحث عن اللغة الفلسفية عند ابن سينا مزاج طريف من اللغة والفلسفة والنفس، وفي كل ميدان حاول ابن سينا وتطاول، وكان له القدح المعلى ولما كان المنطق دهليزاً إلى سائر العلوم كانت أبوابه انهاجاً، والنهج طريق بين واضح سالك مستقيم، وهو منهاج ومنهج وجمعه أنهاج ونهجات، قال تعالى (لكل جعلنا منكم شرعاً ومنهاجاً) وقال العباس (لم يمت رسول الله حتى ترككم على طريق ناهجة)
والطبيعيات والإلهيات غير المنطق في كونه يتوصل منه إلى سائر العلوم. وهي إنما تقصد بذاتها، لهذا كانت أبوابها أنماطاً، والنمط في الأصل نوع من الثياب المصبغة، ولا يقال للأبيض نمط. والنمط أيضا ضرب من البسط. والعرب يشبهون الطرق بخطوط الثياب. قال طرفة يصف الطريق الذي سارت به فيه ناقته (على لا حب كأنه ظهر برجد.) والبرجد هو الثوب المخطط خطوطاً ظاهرة. وجمع النمط أنماط ونماط. قال المتنخل: علامات كتحبير النماط. ويستعمل النمط في المتاع والعلم، فيقال نمط للضرب من الظروب والنوع من الأنواع، والمذهب والفن والطريق والطريقة.
وأذن فقد انتقل المعنى عن الحس إلى المعنوي، من الثوب إلى الطريق إلى الطريقة، كما انتقل معنى (الأسلوب) من صف النخيل إلى الطريق إلى الطريقة. والنويري في (نهاية الأرب) يقسم الباب الخاصة بكيفية العلم والعمل بأسماء الله تعالى إلى عشرة أنماط في السفر.
وهكذا دل ابن سينا بالأنماط على أبواب الطبيعيات والإلهيات كما دل بالأنهاج على أبواب المنطق.
وليس الناس سواء في سيرهم وهذه الأنهاج وتلك الأنماط، لهذا نصب الشيخ الرئيس من نفسه هادياً ومرشداً للضالين والتائهين الواهمين، فمنهم من تكفيه الإشارة، ومنهم من تاه في بيداء الوهم ممن يعوزه التنبيه أو زيادة التنبيه، ومنهم من استغرقته الجهالة فكان له من ابن سينا تبصرة أو زيادة تبصرة، ومنهم من ضلَّ ضلالاً بعيداً فكان له منه حسن الهداية؛ ومنهم من أخطأ التوفيق فكان له منه فائدة، وقد يتفق معه ابن سينا ثم يفترق عنه إلى موعد أو إلى موعد وتنبيه، إلى غير ذلك من تذكير له أو تذكرة ثم تذنيب على إشارة أو تحصيل أو زيادة تحصيل. وبعد هذا كله لا تفونه النكتة.
نظرة في هذه المفردات ثقفنا على الصلة الوثيقة بين دلالاتها وبين علم النفس. إذ يقول مثلاً في مضلع النمط الرابع في الوجود وعلله (تنبيه: (وفي نسخة إشارة) اعلم إنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وان. . . وأن. . . وأنت يتأنى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بطلان قول هؤلاء، لأنك ومن يستحق أن يخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات في هذا النص تنبيه على وهم باطل، والوهم في الطبيعيات والإلهيات يعارض العقل في مأخذهما، والباطل يشاكل الحق في مباحثهما. وبعد أن نبه على هذا الوهم دعا إلى التأمل في هذا الوهم لكي نعلم بطلان قول هؤلاء الواهمين.
ويقول (وهم وتنبيه: ولعل قائلاً منهم يقول: أن الإنسان مثلاً إنما هو إنسان من حيث له أعضاء من يدعون وحاجب وغير ذلك، ومن حيث هو كذلك فهو محسوس، فننبهه ونقول له. . .) فهو يعرض للوهم عرضاً أميناً غير مشوه، ثم ينقض عليه بتنبيهه إلى فساد هذا الوهم، ثم يتلوه تذنيب أي تفريع لهذه الفكرة فيقول: (تذنيب: كل حق فأنه من حيث حقيقته الذائبة التي هو بها حق فهو متفق واحد غير مشار إليه، فكيف ما ينال به كل حق وجوده) ويظل يأتي بتنبيه ثم تنبيه ثم إشارة بعد إشارة ويستأنف تنبيها آخر يرد فيه بإشارة ثم تنبيه على أوهام حتى يخلص من كل هذا بفائدة.
هذا، ولأن دلت التنبيهات والإشارات على الجانب النقدي من أفكار ابن سينا في (الإشارات) فإن تلك الفوائد التي يأتي بها بين الفينة والأخرى تدل على الجانب الإيجابي أو البنائي في فلسفته.
ويقول (هداية): إذا فرضنا جسماً يصدر عنه فعل، فإنما يصدر عنه إذا صار شخصه ذلك الشخص المعين، فلو كان. . .) والبارز في هذا النوع أنه جدل لم يبلغ حد البرهان بالمعنى الصحيح، إذ البراهين عند ابن رشد أنواع هي: البرهاني، الجدلي، الخطابي، المغالطي، كما هو مفصل بكتاب (مناهج الأدلة).
ويقول (مقدمة: المعنى الحسي إلى مثله يتجه (هكذا) الإرادة الحسية والمعنى العقلي إلى مثله يتجه الإرادة العقلية، وكل معنى يحمل على كثير غير محصول فهو عقلي) يأتي ابن سينا بهذه المقدمة لإثبات النفوس الفلكية، ويأتي بعدها بإشارة إلى النفس الفلكية ذات إرادة عقلية، وهذه الفكرة الأخيرة ولا شك في حاجة إلى تلك المقدمة التي هي بمثابة مدخل لها. وبعد الفراغ من تبيان امتناع كون القوى الجسمانية غير متناهية التحريك بالقسر يأتي بمقدمة لبيان امتناع كونها غير متناهية التحريك بالطبع أيضا، ويتلو هذه المقدمة مقدمتان بعدهما يشير وينبه ما شاءت له الإشارات والتنبيهات.
ويقول: هداية وتحصيل: فقد بان لك. . . فيكون كذا. . . وقد علمت أن. . . فنكون كذا. . . وقد علمت. . . فيجب إذن أن يكون. . . وأن يكون. . .) ولا شك في أن هذه الهداية محصورة في قوله (بان لك) و (علمت) ولا شك أيضا في أن التحصيل يمثله قوله (فيكون) و (يجب أن يكون) وهما بمثابة نتيجة منطقية مترتبة على ما سبق تبيان وعلم. ثم هو يأتي بعد هذا بزيادة وتحصيل، فيقول: وليس يجوز كذا. . . ويلزم كذا فيجل أن يكون كذا ويعقب بزيادة تحصيل فيقول (فمن الضروري إذن أن يكون. . .) أي أن النتيجة صارت من القوة بحيث صارت ضرورية (أو من الضروري) على حد تعبيره. وثمت نوع غير التنبيه بجعل غير اليقظان كالنائم يقظان، ذلك هو التبصرة، وفيه يجعل غير البصير كالأعمى يرتد بصيراً، والفرق بين التبصرة والتنبيه أن البحث في تلك أوضح مما في ذاك. وعند المبالغة في حث الغافل عن إدراك شيء حاضر أمام عينية إنما يكون باتهامه بالعمى أكثر من اتهامه بالنوم، والحث بهذا النوع - على البحث كفيل بأن يصير الأعمى بصيراً ولا سيما في الموضوع الذي نحن بصدده، وهو بيان أن النفس غير البدن، وغير حالة فيه، وذلك موضوع تبصرة من تلك التبصرات السينية. ثم هو يستعمل اصطلاحاً وهو اشد من سابقه واقوى مفعولاً فيقول: زيادة تبصرة: تأمل أيضاً أن القوى القائمة بالأبدان يكلها تكرر الأفاعيل لا سيما القوية منها. وخصوصاً إذا. . . ويزيد هذه التبصرة مرتين بعد هذا.
وهنا نشعر بأن ابن سينا قد انتقل من ميدان الإلهيات إلى ميدان البيولوجيا فيذكرنا بقوانين (التنبيه) وشتى الاستجابات المترتبة على التنبيه وكيف يتم ما يسمى في هذا العلم باسم (التوتر) و (فترة العصيان) ونقف قليلاً حيال هذا الجلال الفلسفي لنرى كيف أن ابن سينا يلقي من الضوء الفلسفي إلى المشكلة بقدر ما تسمح به وأهميتها، فهولا يتفلسف لأنه يريد أن يتفلسف، وإنما التفلسف عنده غالي ثمين أو كما يقول الطفرائي: (غالي بنفعي عرفاني بقيمتها) ولأن (شرف العقل من شرف موضوع تعقله) كما يقول أرسطو.
وقفة أخرى عند براعة ابن سينا في إقامة القواعد والأصول لعلم النفس التعليمي. فقد كان بهذا سباقاً إلى وضع تصميم لفن (التربية العلمية) إذ ينبه الغفلان بإشارة، ويبصر الأعمى على ضوء الفلسفة، فيستبصر كلاهما على هدى من المعرفة، فلا يعود يخبط أو يتوهم.
وابن سينا لا ينبه بإشارة حيثما اتفق، ولا يبصر الأعمى كيفما كانت التبصرة، وإنما كل شيء عنده بمقدار، كما ينبه كلا بحسب طاقته، فالعبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة، والأعمى يعوزه كشف الغشاوة عن باصرتية، ولا أظن بعد التبصرة زيادة لمستزيد بعد تحصيل الفائدة التي لا ورائها.
وإذا عرفنا أن الإشارة لغة هي الإيماء والتلويح بالكف والعين والحاجب وأن التبصرة لا تكون إلا بهتك الحجب ورفع ما للغياهب من ضغوط، أمكننا أن ندرك إلى أي حد بلغ ابن سينا في براعته التعليمية. فها هو ذا ينتقل من الإشارة بالكف أو الإصبع يتطلبها كل ذهن بليد - إلى إيماء بالعين - يلازم العامة من الناس - إلى التخاطب بلغة العيون حين تأهبت القلوب وتعطلت لغة الكلام. قال لقلب
نسر الهوى إلا إشارة حاجب ... هناك وألا أن تشير الأصابع
ويربى عليه شوقي إذ يقول
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت ... عيني في لغة الهوى عيناك
وفي انتقال الإشارة هكذا من الكف إلى العين إلى الحاجب مسايرة لاستعداد المرسل إليه، وارتقاء به أو على الأصح منه عن الطريق الحسي الوضع إلى عالم المعاني والأفكار، والفكر قوة كما يقول ومن القلب إلى القلب رسول.
هذا ما تنطوي علية الإشارات والتنبيهات وزيادات التنبيهات والتبصرات وزيادة التبصرات، وما تتطلبه طبيعة كل ذهن من هذه الاصطلاحات (والرجل نفسه يقول في فاتحة الإشارات) وأنا أعيد وصيتي واكرر التماسي أن يضن بما تشمل عليه هذه الأجزاء كل الظن على من لا يوجد فيه ما اشترطه في آخر هذه الإشارة) ولعل هذا مصدر الوحي للغزالي في كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام).
وبعد أن يستفيض ابن سينا في بحث ما، يعقب بالتذكير فهو أجمع لمقاصد الفصول المتعلقة بهذا البحث، والغرض منه هنا إنما هو (إعادة تصوير الجميع معاً) كما يقول الطوسي.
ويستعمل أيضا (متذكرة وتنبيه) فيقول (أليس قد بان لك كذا - وكذا) وهذا الاستفهام الاستنكاري معناه حث الذهن على استرجاع ما قد غاب عنه، وهذه وسيلة لها خطرها في تحقيق النشاط الذهني الذي لا يقل عن التبصير شاناً. بل هو أمس بالحياة النفسية أو الذهنية منه بالحسيات وما يليها.
وانه ليدل قبيل النمط الرابع على (موعد وتنبيه) فيعني به في النمط السادس ويستخدم (النكتة) وهي في اصطلاحه ذكر لمثال من تلك الأمثلة التي تكشف عن الغامض وتجلوه.
وهكذا يمنح ابن سينا ألفاظه حياة لها أطوراها، وبذلك ثار على المعاني الجامدة التي كادت تودي بحياة اللغة والمعاني جميعاً. وليست بدعه ابن سينا في هذا المجال قاصرة على نقل المعنى من الأصل إلى المجاز - فذاك عمل هين لين للأدباء والشعراء - وإنما الإبداع الحق في جعل اللفظ يحمل معنى نفسياً أي في منحه روحاً يتحرك بها ويفعل، وهذه ناحية أقفرت منها اللغة العربية وخلت منها ألفاظها.
وأمعن من ذلك في البراعة ما استجده ابن سينا في كلمة (الوهم) والأصل أنه الطريق الواسع، أو الواضح الذي يرد الموارد ويصدر المصادر، وهو أيضا الجمل العظيم والرجل العظيم. وإذ يقول ابن خلدون (تاهوا في بيداء الوهم) معناه أن الوهم كالبيداء في سعتها على سبيل تشبيه المضاف إليه بالمضاف، وقال لبيد:
ثم اصدر ناهماً في وارد ... صادر وهم صداه كالمثل
وتقدم (الوهم) في سلم التطور والارتقاء حتى صار سراً نفسياً تترجم عنه خطوات القلب وجمعه أوهام. قال الشاعر: (فلأيا عرفت الدار بعد توهم) والتوهم - بمعنى التفرس - مرحلة انتقال من المادية إلى اللامادية.
ثم اصطبغ الوهم بصبغه معرفية فاعتبره (المختار من قبل التصور وقال لأحمد فكري بصدد كلامه عن العلم) وهو دقيق وبحر عميق، وبالمطالعة حقيقي، ولطالبي العلم يليق، وهو بحث يتناول عند الحكماء: اليقين والشك والوهم والتقليد والجهل) وصرح الغزالي بأنه يسر تحديد العلم بعبارة محررة جامعه للجنس والفصل الذاتيين فإن ذلك متعسر في أكثر المدركات الحسية فكيف لا يعسر في الادراكات الخفية. والشك - عند صاحب دستور العلماء - هو تساوي طرفي الخبر: وقوعه ولا وقوعه. وقد يذكر الشك ويراد به الظن، كما قالوا أفعال القلوب تسمى أفعال الشك واليقين. وإن لم يتساو الطرفان فاراجح ظن، والمرجوع وهم، ويقول الزبيدي (هو مرجوع طرفي المتردد فيه)
وانتقل الوهم بعد ذلك نقلة واسعة، اخذ فيها صبغة تشريحية ظهر بعدها بطابع سيكولوجي متميز، (فقالوا هو قوة جسمانية للإنسان محلها آخر التجويف الأوسط من الدفاع من شأنها إدراك المعاني الجزائية المتعلقة بالمحسوسات كشجاعة زيد وسخاوتة، وهذه القوة هي التي تحكم في الشاة بأن الذئب مهروب عنه، وأن الولد معطوف عليه، وهذه القوة حاكمة على القوى الجسمانية كأنها مستخدمة إياها استخدام العقل القوى العقلية بأسرها).
هذا ما انتهى إليه الجرجاني وتابعه في غيره، ونستطيع أن نعبر عن قصدهم بالوهم هنا بأنه (غريزة) من شأنا أن تكون قوة فطرية هدفها حماية الكائن.
غير أن الفارابي يرى أن (الوهم هو القوة التي من المحسوس ما لا يحس مثل القوة التي في الشاة إذا تشبح صورة الذئب في حاسة الشاة تشبحت عداوته ورداءته فيها إذ كانت الحاسة لا تدرك ذلك).
أما الغزالي في تقسيمه العلوم فيقول (والعلم الذي يتولى النظر فيما هو بريء عن المادة في الوهم لا في الوجود هو الرياض) ويقول أيضا (الحواس الباطنة خمسة: الحس المشترك، والقوة المتصورة، والقوة المتخيلة، والقوة الوهمية، والقوة الذاكرة. . . وأما الوهمية فهي التي تدرك من المحسوس ما ليس بمحسوس كما تدرك الشاة عداوة الذئب، وليس ذلك بالعين بل بقوة أخرى وهي للبهائم مثل العقل للإنسان).
وأخيراً ليس الوهم خلعة صوفية فقالوا إن الوهم (الوهم محتد عزرائيل من محمد (ص): خلق الله وهم محمد من نور اسمه الكامل. وخلق عزرائيل من نور وهم محمد. فلما خلق الله وهم هذا الإنسان من نور الكمال أظهره في الوجود بلباس القمر، فأقوى شيء يوجد في الإنسان القوة الواهمة فإنها تغلب العقل والفكر والمصورة والمدركة وأقوى الملائكة عزرائيل لأنه خلق منه وقالوا (إن الله تعالى جعل الوهم مرآة نفسه ومجلى قدسه، ليس شيء في العالم أسرع إدراكا منه، ثم اعلم أن الله لما خلق الوهم قال له: أقسمت ألا أنجلي لأهل التقليد إلا فيك، ولا أظهر إلا في مخافيك وأفرد أبو الحارث المحاسبي كتاباً في (التوهم) كما استقصى مكدونالد (معنى الوهم في التفكير الإسلامي).
ولو أن فريقاً من المتفلسفين أقاموا (معرضاً للأوهام) وعرض فيه كل فيلسوف وهمه لتميز ابن سينا بوهمه ماذا هو عقل في صورة حيوان، يقول: (والإدراك قسمان حيواني وأنساني، والإدراك الحيواني إما في الظاهر وإما في الباطن فالإدراك الظاهر بالحواس الخمس والمشاعر والإدراك الباطن من الحيوان بالوهم، وحوله كل حس من الحواس الظاهرة يتأثر من المحسوس مثل كيفيته) ويقول أيضا (ثم في الحيوان قوة تسمى بالمتوهمة والظانة وهي تحكم على الشيء بأنه كذا أو ليس كذا بالجزم وبها يهرب الحيوان عن المحذور، ويقصد المختار، وهي غير المتصورة وغير المتخيلة أيضا) وأخذت مدموازيل جواشون تستعرض في ثبتها الفلسفي كل معاني الوهم والتوهم والوهميان كما وردت في كتب ابن سينا ولا سيما في كتاب والإشارات ومنجاة والشفاء.
ويأبى الرازي إلا أن يجعل هذا الوهم مصدر الغلط في الإنسان: (إن العقل لا يعرض له الغلط إلا من قبل هذه القوة المسماة بالوهم، وذلك سبب انطلاق لفظ الوهم الرأي الباطل مجازاً، تسمية المسبب باسم السبب، فظهر أن تسمية الرأي الباطل بالوهم أولى من تسميته بالخيال، فإن سبب الرأي الباطل ليس هو الخيال بل الوهم) ويقول في موضع آخر (يريد الشيخ بالوهم في هذا الكتاب المذهب الباطل أو السؤال الباطل، وذلك لأن العقل قد يعرض له الغلط من قبل معارضة الوهم إياه فتسمية الرأي الباطل بالوهم تسمية المسبب باسم المسبب مجازاً. . .)
وعلى ذلك فإن ابن سينا في إشاراته إلى الوهم قصد به كقوة وكباطل، ولكل مرماه في اللغة الفلسفية التي ابتدعها ابن سينا، وحدد نطاقها. ولعل في مقالي هذا ما يقنع المتفلسفين بان تراث ابن سينا يتطلب في فهمه وتقديره إحاطة واسعة بشتى ضروب العلم والعرفان التي طرقها فيلسوف الإسلام وجالينوس العرب، وأجاد فيها وأفاد. وهنا فقط تكون الفلسفة حقاً وصدقاً هي علم العلوم).
محمد محمود زيتون