مجلة الرسالة/العدد 860/الشعر المصري في مائة عام

مجلة الرسالة/العدد 860/الشعر المصري في مائة عام

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 12 - 1949


1850 - 1950

الدور الأول

1850 - 1882

3

1 - معانيه

ذكرنا أن المدح قد احتل الجزء الأكبر من دواوين الشعراء في ذلك العصر. ولم يكن في هذا المدح معنى مبتكر، ولا خاطر جديد، ولا فكرة مخترعة، ولا تشبيه محدث. بل ردد الشعراء المعاني القديمة التي سبقهم إليها الأقدمون. ولم يحسنوا أداء هذه المعاني كما أحسن السابقون. فتراهم إذا مدحوا ملكا شبهوه في العدل بكسرى، وذكروا عجز قيصر إلى البلوغ إلى مرتبة الممدوح فالساعاتي يقول:

رفع القواعد من دعائم دولة ... عزت به فنظيرها لا ينظر

قد طاولت بالعدل كسرى واعتلت ... شرفا وقصر عن مداها قيصر

وصالح مجدي يقول في سعيد:

عدل كسرى وإن سما لا يساوي ... عشر معشار عدل هذا العميد

قيصر الروم عزمه في قصور ... عند صدر مؤيد وسعيد

فهؤلاء الشعراء كما ترى مفلسون من المعاني لا يجدون أمامهم غير كسرى وقيصر. وإذا مدحوا الحاكم بالجود والكرم قالوا: بأن جود معن وحاتم لا يذكر بجانب كرم هذا الممدوح.

وكر عمرو لا يقاس بكر ممدوحهم، وذكاء إياس لا يساوي ذرة من ذكائه. وهم يكررون هذا في معظم قصائد المدح. فمن ذلك قول إبراهيم مرزوق في عباس الأول:

ما حلم أحنف؟ ما سماحة حاتم؟ ... ما كر عمرو؟ ما ذكاء إياس؟

وقال صالح مجدي مادحاً سعيدا:

جود معن وحاتم لا يضاهي ... ذرة من شعاع جود مديد كر عمرو بكره لا تقسه ... هو في حربه مبيد الأسود

هل يجاريه في الذكاء إياس ... وهو فيه إمام كل مجيد

ولم يكتف صالح مجدي بإسناد هذه الصفات إلى سعيد وإسماعيل، بل أسندها إلى كثير ممن مدحهم من الوزراء والأعيان.

وممدوحهم فريد ليس له مثيل. قال علي فهمي رفاعه:

راموا مراعاة النظير فلم يروا ... مثلا له هيهات عز مثيل

وقال أبو النصر:

إلى ملك الدنيا تود انتسابها ... لما علمت في الكون أنك أوحد

وقال الليثي:

من في المعالي وعين الله تحرسه ... في الكون يحكيه أو من ذا ينازعه

وهكذا جال الشعراء في دائرة ضيقة محدودة. فمدائح كل منهم قصيدة معادة ومدائحهم كلهم صورة مكررة.

وكانوا لإفلاسهم وضيق خيالهم يأتون بالمعنى القليل في عدة أبيات. ومثال ذلك ما جاء في قصيدة لمحمد سعيد يهنئ بها الخديو توفيق:

تهني مصر بالبشرى ... وتسمو في العلا قدرا

وللتوفيق توفيق ... خديويها لها البشرى

يتيه الملك من عجب ... بشامخ مجده كبرا

تراه حين شرفه ... تبدى باسماً ثغرا

وأصبح وهو منشرح ... لفرط سروره صدرا

لقطر النيل أفراح ... تعم بأنسها القطرا

به كل الرعية في ... حبور زادهم بشرا

وقاهرة تبسم ثغ ... رها إذ لاح مفترا

فمعنى هذه الأبيات تافه جدا، ولا يستدعي هذا الإسهاب. فالشاعر يريد أن يقول: إن مصر تهنأ بالخديوي الذي اختال به الملك وفرحت بتوليته البلاد وأهلها. وكان في استطاعته أن يأتي بهذا المعنى في لفظ موجز، ولكن رغبته في الإطالة مع خلو جعبته من المعاني اضطره إلى هذا الإطناب الذي لا فائدة منه. وهكذا كان يفعل شعراء هذا الدور.

وإذا رثوا شخصاً بدءوا القصائد بذكر الموت الذي يختار من الناس الجياد، ويصفي الكرام. وأسهبوا وأطنبوا بما لا يخرج عن معنى هذين البيتين:

الناس للموت كخيل الطراد ... فالسابق السابق منها الجواد

والموت نقاد على كفه ... جواهر يختار منها الجياد

أو يشيرون إلى كأس المنون التي تدور على البرية فيشرب منها كل إنسان. ويختمون الرثاء بذكر الحور العين وما يلقاه الميت في الجنة من مظاهر النعيم.

ومثال ذلك قول أحمد عبد الغني في رثاء عبد الله فكري:

فأحله الرحمن أعلى جنة ... وأحله فيها وقد أعلاه

والحور والولدان قد فرحوا به ... واستقبلوه بالسرور وتاهوا

وقول أبي النصر في رثاء أحد العلماء:

فله البشارة حيث حل بروضة ... فيحابها للعلم طيب عاطر

والحور في دار البقا لقدومه ... في الانتظار وبشرها متبادر

وقوله في رثاء طوسون بن سعيد:

فأنعم بروضة قبرك الفيحا وطب ... وأنس بما قدمت من حسنات

ولسوف تمنح ما يسر من الرضا ... ما بين حور ثم مقصورات

بشراك في دار النعيم بمشتهى ... ما تشتهي من يانع الثمرات

وبك الحدائق تزدهي أنوارها ... وإليك يهدى عاطر النفحات

وبجنة المأوى تفوز بما تشا ... من فضل ربك واسع الرحمات

فمن هذا نتبين كيف أن الشعراء يشتركون معا في الوقوع على هذه المعاني. وهذا أكبر دليل على ضيق المجال أمام هؤلاء الشعراء.

وإذا وصف أحدهم اختراعا حديثاً ظهر عجزه واضطرابه. ومثال ذلك قصيدة لصالح مجدي في وصف وابور سعيد مطلعها:

أمدينة من فوق لج الماء ... تجري بأبهج منظر وبهاء

أم هذه إرم بدت وعمادها ... مسبوكة من فضة بيضاء أم ذاك وابور المسرة مده ... صدر البرية أسعد السعداء

فشبه السفينة البخارية بمدينة، ثم شبهها بإرم ذات العماد وهي مدينة كذلك. ثم هوى من بعد ذلك من شاهق فذكر (وابور المسرة) مع أن الصورة التي يتركها في الذهن (وابور المسرة) لا تضارع الصورة التي تتركها إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وذكر كلمة (بيضاء) بعد (الفضة) لغو لأن لون الفضة معروف. ثم شبهها بعد ذلك بالفلك. قال:

فكأن هذا الفلك في تعظيمه ... فلك به تسري نجوم سماء

والذي أوحى إليه بهذا التشبيه هو الجناس بين الكلمتين. والحقيقة أن وجه الشبه معدوم بين السفينة وبين الفلك الذي هو دائرة وهمية تسير فيها النجوم. وذكر (سماء) بعد (نجوم) لغو لا طائل وراءه.

ثم قال:

وكأنه في النهر عند مسيره ... برق يقصر عنه طرف الرائي

ثم قال بعد ذلك بأبيات:

فإذا تصدى للسباق فدونه ... وابور بر طار في البيداء

والاضطراب هنا ظاهر. فهذا الوابور إذا سار سيراً عاديا فهو يشبه البرق، وإذا تصدى للسباق وجرى بأقصى سرعة كان أعظم من وابور البر. فأنت ترى أن الشاعر قد انتقل من صورة رائعة في قوله (برق يقصر عنه طرف الرائي) إلى صورة ضعيفة في قوله (وابور بر طار في البيداء).

ويلاحظ أن الشاعر حينما أراد أن يصف وابور البحر وقف أمامه حائرا متسائلا عن حقيقة أمر هذا الشيء الذي يراه. أهو مدينة أم إرم ذات العماد أم وابور المسرة؟ وهذه الحيرة في إدراك كنه بعض المخترعات الحديثة قد عبر به كل من تصدى لوصفها. فقال رفاعة من قصيدة في وصف وابور البحر:

العقل في الوابور حار ... نبغي الجواب فلا يحير

وقال عبد الله نديم في وصف القطار:

نظر الحكيم صفاته فتحيرا ... شكلا كطود بالبخار مسيرا

ثم إنهم خلعوا على (وابور البر) الصفات عينها التي خلعوها على (وابور البحر). مثال ذلك قول رفاعة في وابور البحر:

صب وفي الأحشاء نار ... شوقا إلى القمر المنير

وقول عبد الله نديم في وابور البر:

دوما يحن إلى ديار أصوله ... بحديد قلب باللهيب تسعرا

وقد يتعرض أحدهم لوصف القطار فيوازن بينه وبين وسائل المواصلات القديمة. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:

ثم امتطينا للسويد ركائبا ... لا الركض يتعبها ولا التسيار

تسعى على عجل إلى غاياتها ... كالماء ساعد جريه التيار

سرع الخطى لا السوط حل بجلدها ... يوما ولا شدت بها أكوار

تذر الرياح إذا جرين وراءها ... حسري طلائع جريهن عثار

يقول الشاعر أنه استقل في سفرة ركائب لا يدركها كد ولا إعياء. وهي تجري مسرعة دون حاجة إلى سوط أو وحال يشد عليها. وفي هذا تعريض بالناقة التي أكثر الشعراء من وصفها في العصور القديمة.

وكانوا يستوحون من اسم الممدوح بعض المعاني. ومثال ذلك قول أبي النصر يمدح سعيداً.

هم رجال أحرزوا إسعادهم ... كيف لا والسعد في أمر السعيد

فالشاعر قد أتى في هذا البيت بإسعاد وسعد وسعيد.

وما فعل ذلك إلا لأن الممدوح يسمى سعيداً. فالجو الذي يشيع من اسم (سعيد) قد أملى على أبي النصر هذا البيت.

وقال السيد أباظة مشيراً إلى الأنباء الواردة بقدوم الخديوي إسماعيل

وما هي إسماعيل صبري لبعدها ... ولكنها إسماعيل بالنصر آتيا

فصدر البيت قد صنع خصيصاً ليظفر الشاعر بالجناس بين (إسماعيل) و (إسماعيل).

وقال عبد الله فكري في الخديوي توفيق:

نور تلألأ في جبين موفق ... للحق في توفيقه أسرار

والبيت كله من وحي اسم الممدوح.

وكانوا يستوحون المعاني أيضا من أسماء المدن التي يذكرونها في شعرهم. ومثال ذلك قول محمد النجار أحمد شعراء العرابيين مندداً بمن تعاون مع الإنجليز من المصريين.

في بور سعيد وغيره قد خنتم ... وفعلتم للإنجليز أمورا

فاستوحى من اسم بور سعيد معنى هذين البيتين.

بور لكم وسعيد طالع وقتنا ... ولكم بذا يوم يكون عسيرا

سارا بسعد الفال شعري ناطقا ... ولرب أشعار تكون جفورا

هذا ما يمكن أن يقال عن معاني الشعر في هذا الدور.

محمد سيد كيلاني