مجلة الرسالة/العدد 863/رابعة العدوية

مجلة الرسالة/العدد 863/رابعة العدوية

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 01 - 1950



للآنسة دعد الكيالي

زهرة بيضاء منداة بقطرات المناجاة والصلاة والخشوع، نبعة فياضة من نبعات الحب الإلهي الخالد الأكيد، شمعة قدسية احترقت بدموع العشق الروحاني النقي الطاهر، قديسة عابدة متهجدة في هياكل الليالي مسبحة في ظلال الأنهار، عذراء بتول انتصرت على الآلام المادية ومسخت عملاق الشهوات الجبار فإذا به قزم لا حول له ولا طول، نغمة صوفية غريبة ذات طابع جليل رائع، شخصية حلوة جذابة أقلم ما يقال فيها أنها نسيج وحدها بين الشخصيات النسوية.

تلكم هي شاعرتنا المتصوفة الكبيرة (رابعة العدوية) وإليكم ترجمة حياتها:

هناك في مدينة البصرة العراقية حيث يلتقي الأخوان دجلة والفرات، أجل في تلكم المدينة المتضوعة بخمائل النخيل رمز الصحراء المتصوفة وتمثالها ولدت سيدتنا العظيمة (رابعة) وكان هذا في أواخر الربع الثاني من القرن الأول الهجري، ذلك العصر الذهبي الذي كان للمرأة العربية فيه شأن قبيل أن ينال الوهن الفارسي والترف الروماني من حرية أبنه الصحراء الحرة الساذجة التي تختلط بالرجل ذلك الاختلاط النبيل المحصن العزة والكرامة.

كانت شاعرتنا المتصوفة مولاة لآل عتيك، توفي عنها أبواها وهي لما تزل رطبة العود، غضه السن فخلفهما على رعايتها رجل فظ غليظ كان يرهقها بالأعمال الكثيرة، ويعاملها بمنتهى الظلم والقسوة. فكانت المسكينة تحتمل كل هذا بصدر رحب وتحتسب عند الله ما تلاقيه من العذاب والآلام. ثم ماذا؟ ثم يبيعها سيدها من رجل آخر لا يقل عنه جوراً واستبداداً فتتقبل المسكينة قضاء الله المحتوم بسكينة ووقار، وتنطوي على نفسها وتتلقى التعب والنصب بالبسمة الراضية وتقوم بما وكل إليها سيدها من الأعمال خير قيام.

وذات يوم بينما كانت تسعى لشأن من شئونها في أحد شوارع البصرة ورماها بعضهم بنظرة سوء فأشاحت بوجهها عنه فزلت قدماها وكسرت ذراعها فأغمى عليها. وأخيراً نهضت وقد انطوت نفسها على الحسرة والألم؛ وبصوت متهدج من الخشوع أخذت تقول (رباه قد انكسرت ذراعي وأنا أعاني الألم واليتم، وسوف أتحمل كل ذلك واصبر عليه. ولكن عذاباً أشد من هذا العذاب يؤلم روحي ويفكك أوصال الصبر في نفسي منشؤه يدور بخلدي. وهل أنت راض عني يا إلهي؟ هذا ما أتوق إلى معرفته) وما كادت تتم نجواها هذه حتى سمعت هاتفاً من وراء الغيب يتساقط في أذنيها هذه العبارة: لك يارابعة عند الله مرتبة تغبطك الملائكة من اجلها) فشاع في نفسها السرور، وانتشت من فرط الطرب فقفلت راجعة إلى بيت سيدها والأحلام السماوية تداعب أوتار قلبها بأناملها السحرية.

وفي ذات مرة أرق سيدها فسمع في جوف الليل صوتاً راعشاً اكسب الدار جواً مهيباً رائعا فاهتز له قلبه. وطفق يبحث عن مصدره، وكم كان عجبه شديداً عندما اطل من ثقب الباب فرأى رابعة تصلي بحرارة وإخلاص بالغين؛ وبصوت عميق معبر سمعها تقول: (ربي إنك تعلم أن اشد ما أتوق إليه هو عبادتك وتأدية مالك من حقوق؛ ولكنني أسيرة لا املك حريتي الشخصية، فلا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية فلتعذرني يا إلهي؛ وعلى أثر ذلك دبت الحمية في صدر الرجل. وفي اليوم التالي أعتقها فكادت تترقص من عظم السرور. وأقامت وحدها في منزل متواضع وقامت بأود نفسها من كسب يدها فعملت بالحديث النبوي الشريف: (لا تكونوا كلا على الناس).

ومما لا شك فيه أن شاعرتنا كانت ملمة بمبادئ القراءة والكتابة وهي بعد عند مولاها فلما أن حصلت على حريتها نمت هذه المبادئ ورعرعتها.

وكأننا بها وهي متنقلة بين مساجد البصرة العلمية الزاهرة تنهل من موردها العذب وتعل من نميرها السلسال فلا تمضي مدة طويلة حتى تغدو عالمة العصر وأديبة الجيل.

وقد كانت على فقرها محببة إلى القلوب يجلها أكابر العلماء ويستفتونها في دقائق التصوف والفقه ويتناقشون معها ويناظرونها فيصبح بيتها على حقارته محاجة المتصوفين وقبلة العلماء والفضلاء فيدعونها عن جدارة واستحقاق بتاج الرجال. ولقد كان بينها وبين بعضهم صداقة متينة حتى أن أحدهم كان لا يستطيع الصبر عن لقائها فيقول: (مروا بنا إلى المؤدبة فإنني لا أجد من استريح إليه إذا فارقتها).

وسئلت يوماً: (أتحبين الله كثيراُ؟) فقالت: (بلا ريب) فقيل لها: ألا تعدين الشيطان عدواً لك؟ فقالت: (إن محبة الله قد ملأت أرجاء قلبي فليس فيه متسع إلى القلق والاضطراب من عداوة الشيطان).

ومن وصاياها: (اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم) وكانت تقول: (محب الله لا يسكن حنينه وأنينه حتى يسكن مع محبوبة). وحقاً لقد كانت رابعة هكذا بكاءة لا تنقطع لها عبرة حتى أن موضع سجودها كان كهيئة المستنقع من دموعها. وتحدثنا الرواية أن كان يغشى عليها لمجرد ذكر النار.

كانت ذات إرادة حديدية بالية؛ أهانت الدنيا واحتقرتها، وأرادت الحرمان وفضلته، وأحبت الوحدة وتعشقتها.

كانت تنام على حصيرة بالية؛ وكان موضع الوسادة قطعة الآجر، وكانت تشرب من إناء مكسور وتطوي ليلها تصلي لله وتناجيه حتى إذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة ولكنها ما كانت تلبث غير قليل حتى تعب من مرقدها فزعة تغلب النعاس وتتحدى النوم قائلة: (يا نفس كم ذا تنامين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور). كان من عادتها أن تصوم سبعة أيام وتنقطع إلى العبادة والزهد ليالي لا تفتر أثنأها عن مناجاة النفس بهذا الخطاب (إلى متى تعذبين نفسك يا رابعة وتحملينها مشقة وهي مشقة ليس بعدها مشقة!) وهي في ذلك ذات مرة إذا برجل يدق عليها الباب وفي يده صحن من الطعام يتركه لدينها ثم ينصرف. أما هي فتأخذ الصحن وتضعه في زاوية من الغرفة وتتشغل بإصلاح القنديل. وإنها لذلك إذا بهزة تدخل فتأكل الطعام الذي في الصحن. وطالما تعود رابعة فترى الصحن خاوياً فتقول في نفسها: (لا بأس. أفطر على الماء) ولكنها عندما تذهب لتعود بالماء ينطفئ القنديل فلا تطيق احتمالاً وتقول: (اللهم لهم هذا العذاب)؟ فتسمع هاتفاً يقول: (لو شئت يا رابعة وهبنا لك جميع. ما في الدنيا ومحونا ما في قلبك من ثار العشق لأن قلبنا مشغولاً بحب الله لا يشغل بحب الدنيا) فتذرف رابعة دموع الندم وتعزم على ألا تعود للتذمر مما هي فيه.

والجميل الطريف في رابعة أن زهدها ما كان عجزاً منها عن اللذات وقصر باع في نيل الغنى فقد خطبها كثير من الأغنياء والفضلاء منهم الحسن البصري المشهور أمره فردته كما ردت غيره وبعثت إليه بهذه الأبيات:

راحتي يا اخوتي في خلوتي ... وحبيبي دائماً في حضرتي

لم أجد لي عن هواه عوضاً ... وهواه في البرايا محنتي حيثما كنت أشاهد حسنه ... فهو محرابي إليه قبلتي

إن أمت وجداً وما ثم رضاً ... واعنائى في الورى واشقوتي

يا طبيب القلب يا كل المنى ... جد بوصل منك يشفي مهجتي

يا سروري يا حياتي دائماً ... نشأتي منك وأيضاً نشوتي

قد هجرت الخلق جمعاً أرتجي ... منك وصلا فهو أقصى منيتي

وكثيرون هم الأغنياء الذين كانوا يعرضون عليها الدور الفاخرة المترفة الغارقة بالحرير. وكثير منهم أولئك الذين كانوا يلحون عليها بقبول الدنانير الكثيرة فكانت ترفض هذا كله وتفر منه فرار السليم من الأجرب. فمن ذلك أن رجلاً أتاها يوماً بأربعين ديناراً ورجاها أن تتقبلها قائلاً: (تستعينين بها على بعض حوائجك). فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء فقالت: (هو يعلم أني أستحي أن أسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف أريد أن أحدها ممن لا يملكها؟).

وأجمل من هذا وأروع أنها كانت تعبد الله بعاطفة حب تنزهت عن الغرض المادي وسمت فوق مخاوف الجنس البشري ومطامعه وفي ذلك تقول: (إلهي إذا كنت أعبدك رهبة من النار فاحرقني بنار جهنم. وإن كنت أعبدك رغبة في الجنة فاحرمني منها. وأما إذا كنت أعبدك إلهي من أجل محبتك فلا تحرمني من جمالك الأزلي).

أما شعرها فهو في الذروة من شعر التصوف. وحسبها فخراً أن أحدهم قال: (كانت رابعة السابقة إلى قواعد الحب والحرمان في هيكل التصوف الإسلامي وان الذي فاض به بعد ذلك الأدب الصوفي من شعر ونثر في باب الحب والحزن فهو نفحة من نفحات السيدة رابعة العدوية أمام العاشقين والمحزونين في الإسلام).

هذا والمعترفون للسيدة بالفضل في ميدان الأدب الصوفي كثيرون. والآن يحسن بنا أن نورد نخبة من شعرها الوجداني المعبر:

لقد أعرضت شاعرتنا عن كل شيء لتقبل على الله وحده. وزهدت في كل أمر لتأنس بقربه ورضاه. لم يكن في قلبها متسع لأي شأن من الشؤون، ذلك لأنها أحبت الله بكل ما في قلب المرأة من العاطفة المتأججة العميقة، وبكل ما في روحها من الأشواق اللاهبه البعيدة. فجاء شعرها عاطفياً مؤثراً فياضاً بالشجن. ومن ذلك قولها: إني جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وتقول أيضاً:

حبيب ليس يعدله حبيب ... وما لسواه في قلبي نصيب

حبيب غاب عن بصري وشخصي ... ولكن عن فؤادي لا يغيب

وتطالع رابعة سفر أيامها وتتلف معددة ما أتته من الأعمال فترى في نفسها التقصير، وترى أن زادها من الأعمال الفاضلة أقل من القليل؛ ثم تذكر الله ولذة رضاه وسبيل لقائه الطويل المحفوف بالدموع والآلام والمشاق فتخطر لها فكرة العذاب فتهتف بلوعة وحسرة: (إلهي أتحرق بالنار قلباً يحبك؟!) ويضنيها التفكير فتتناول القلم وبيد مرتجفة من الانفعال تكسب على القرطاس ما يعتلج في قلبها الذاكي من المواجد والآلام فتستوي لديها هذه النفاثة الرائعة:

وزادي قليل ما أراه مبلغي ... أللزاد أبكي أم لطول مسافتي؟

أتحرقني بالنار يا غاية المنى؟ ... فأين رجائي فيك أين مخافتي؟

وتحدثنا الرواية أن رابعة بعد أن بلغت الثمانين من العمر أصبحت وكأنها الحلال البالي، تتحامل على نفسها من شدة الإعياء. وإذا مشت تكاد تسقط من فرط الكلال وعندما اقتربت منيتها أوصت صديقتها المخلصة عبدة بنت أبي شوال بأن تكفنها بعباءة صوفية صحبتها شطراً من حياتها وشهدت قيامها في الأسحار وتهجدها في الليالي وتبللت بدموع الخشوع.

فلما جاءها القدر المحتوم سنة خمس وثلاثين ومائة هجرية كفنت بعباءتها الحبيبة وخمار صوفي كانت تلبسه ثم دفنت في جبل الطور شرقي القدس.

وهكذا كف قلب رابعة العامر بالحب الإلهي الخالد عن الخفقان ولكن بعد أن وقع أجمل الألحان وأسمى الأنغام.

رعد الكيالي