مجلة الرسالة/العدد 864/القصص

مجلة الرسالة/العدد 864/القَصصُ

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 01 - 1950



المترونوم

للكاتب الأمريكي اوغست درلث

بقلم الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب

عندما استلقت على الفراش، ولفها الظلام الخفي اللطيف بردائه، نضت شفتاها عن ابتسامة جمعت فيها كل ما تشعر به من الراحة بانتهاء الجنازة أخيراً دون أن يشك أحد في أنها والصبي لم يسقطا عرضاً في النهر، أو يخطر على بال أحد أنها كانت تستطيع أن تنقذ ابن زوجها لو أرادت. وهاهي ذي لا تزال تسمع كلماتهم (أوه، مسكينة السيدة فارل، ما أفظع ما تشعريه) تسمعها ترن خافته وعلى بعد سحيق، في ظلام الليل المدلهم.

إن ما شعرت به من تقريع الضمير عندما غاص الطفل في أليم واختفى تحت سطح الماء للمرة الأخيرة، وعندما رقدت على الشاطئ منهوكة القوى، قد تلاشى منذ زمن طويل. ولم تعد تفكر كيف ارتكبت ما ارتكبته - بل لقد أقنعت نفسها بأن ضفة النهر قد انهارت قضاء وقدراً، وتناست التربة المتداعية، والماء العميق، والتيار الجارف.

وتحرك زوجها في الحجرة المجاورة. أنه لم يشتبه في شيء لقد قال لها وقد لاحت على وجهه سمات الحزن (لم يبق لي الآن سواك) وما أصعب تلك الأيام القلائل الأولى التي مرت عليها. بيد أن اختفاء جيم نهائياً في غياهب القبر قد قلل الشكوك الطفيفة التي انتابتها.

ومع ذلك، كان من الصعب عليها تصور ما اقترفته. لابد أن منشأه نزوة طارئة. بيد أن نفورها من الصبي وحقدها عليه بسبب الشبه الذي بينه وبين والدته هو الذي دفعها إلى ذلك دفعا، وذلك المترونوم! الطفل له من العمر ثماني سنوات أن ينسى مثل هذه الأشياء الصبيانية. لو كان يعزف على البيانو لاختلاف الأمر. ولكنه وهو على هذه الحال، كلا، كلا - كان ذلك كثيراً عليها. أن أعصابها لم تعد تحتمله يوماً آخر. ثم عندما أخفت المترونوم. أثار غضبها بإنشاده تلك الأغنية الصغيرة السخيفة التي سمع والتردامروش يغنيها عند شرحه سيمفونية المترونوم لبتهوفن، في صباح أحد أيام الجمع ببرنامج الأطف بالإذاعة. إن كلماتها، تلك الكلمات الصبيانية التي بعث بها بتهوفن إلى مخترع المترونوم، كانت تتردد في خاطرها، وترن في شكل مثير في أركان ذاكرتها

كيف حالك كيف حالك كيف حالك

يا عزيزي يا عزيزي السيد ملزو

أو ما أشبه ذلك، فإنها لم تكن واثقة من الكلمات، تلك التي تثابر على التردد في ذاكرتها منذ بدء عزف الجزء الثاني من السيموفنية، وتقرع كالمترونوم تك، تك، تك، بلا نهاية. ومهما يكن من شيء، فإن المترونوم والأغنية قد ركزا فيها شعور البغضاء نحو ابن زوجة فار الأولى.

وحاولت أن تنبذ الأغنية من ذاكرتها. وفجأة، أخذت تتساءل: ترى أين أخفت المترونوم؟ كان في الواقع لطيف الشكل حديث الطراز، ذا قاعدة فضية ثقيلة، وثقل صغير فوق بندول من الصلب ممتد إلى أعلى أمام اللوحة الفضية المنحنية. إنها لم تستلم لأولى نزواتها فتحطمه، فقد كانت تظن أنها ستصنع منه حلية جميلة بعد ما يرحل جيمي، ولو أنه كان يخص والدته. ثم فكرت في ما رجوت، لابد وأن تكون مسرورة لأنها بعثت بجيمي إليها.

ألا يجوز أنها وضعت المترونوم في أ؛ د أرفف خزانة ملابسها. ربما. . . كان من الغريب عليها ألا تذكر شيئاً. ورقدت تفكر فيه. كم يكون جذاباً عندما تضعه على البيانو الكبير، حلية فريدة قائمة عليه، فضة تضارب سواد البيانو. وعلى حين غرة، اقتحم صوت المترونوم تفكيرها. ما أغرب ذلك! إنها تسمع دقاته الآن في الوقت الذي تتمثله في خاطرها! وبدا الصوت في غاية الوضوح. تك - تك، تك - تك - تك - تك -. وحاولت دون جدوى التأكد من مصدرها. كان يبدو أنه يزداد دويا وضجيجا ثم يتلاشى. وكان ذلك غريباً عليها. وفكرت، أنه لم يسبق لها أن سمعته كما تسمعه الآن، حتى في الوقت الذي كان جيمي يمزح معها فيسمعها دقاته. وجعلت تصغي في انتباه.

وفجأة، خطر لها ما بعث القشعريرة في جسدها، وكنم أنفاسها لحظة، ألم تخبئ المترونوم بعد أن أعطاه لها جيمي لتملأه اجل إنها فعلت ذلك. ما لم تكن قد خانتها ذاكرتها إذاً، أنه لا يستطيع أن يدق الآن، لأنه فارغ، لم يملأ بعد. وسرعان ما تساءلت: ألا يكون أر نولد قد وجده وملأه على سبيل المزاح، ثم جعله يتحرك في هذا الوقت؟ وألقت بنظرة على ساعة معصمها. كان الوقت قد قارب الوحدة. أنها لا تعتقد أن أر نولد قادر على مثل هذا المزاح، فهو لابد مخبرها عن وجوده فيقول لها (انظري. لقد ظننت أنك أخبرتني بأن جيمي قد فقده. وهاأنذا قد عثرت عليه فوق أحد أرففك. ومن غير المحتمل أن يكون قد وضع هناك من تلقاء نفسه) وعاد إليها تفكيرها في أنها قد خبأته في مكان بعيداً عن متناول يد جيمي. ثم أصغت: تك - تك - تك - تك - تك - تك. وحدثت نفسها قائلة:

أسمعه أر نولد؟ إن ذلك بعيد الاحتمال، فهو دائماً ثقيل النوم

وترددت هنيهة قبل أن تقوم وتبحث عن مصباحها الكهربائي في الظلام. ثم توجهت إلى خزانة ملابسها وفتحت الباب، ومدت يدها الممسكة بالمصباح تحترق الظلام الدامس، ثم أصغت. كلا، لم يكن المترونوم هناك. ومع ذلك، لم تتمالك من جذب صندوق القبعات جانباً حتى تتأكد. فطالما أخفت بعض الأشياء هناك. وأخيراً انسحبت من الخزانة ووقفت مستندة على بابها المغلق، وقطبت بين حاجبيها في غضب: يا الهي! أكتب عليها أن تسمع هذه الدقات الجهنمية حتى بعد موت جيمي؟ وتحركت في عزم صوب باب حجرتها. وفجأة صدم عقلها صوت جديد. هنالك شخص يسير على بعد من الباب في ناحية ما، يمشي في خطى خفيفة خافتة.

بطبيعة الحال، كان تفكيرها منصباً بادئ ذي بدء على أرنولد، وفي الوقت الذي انبعث فيه تفكيرها سمعت صرير فراش زوجها. وودت لو اعتقدت أن الخادم أو الطاهية قد عادت إلى الدار لسبب ما. ولكنها لم تهضم هذه الفكرة السخيفة في عودة أحدهما إلى الدار في ذلك الوقت المتأخر من الليل ولو لأي سبب. وليس من المعقول أن يكون قد اقتحم الدار لصوص.

وترددت في وضع يدها على مقبض الباب. وأخيراً فتحته شبه غاضبة وتطلعت إلى البهو، وقد أمسكت بمصباحها وصوبته. لم يكن هناك أحد. ومع ذلك؛ ودت لو رأت أحداً هناك. ما أسخف تفكيرها! وتملكتها ثورة جامحة. وفي نفس اللحظة سمعت وقع الأقدام مره أخرى، خفيفة بعيدة، تبدو خافته الصوت من أسفل الدرج. وكانت دقات المترونوم قد أصبحت أكثر تردداً ودويا حتى أنها خشيت أن يستيقظ أرنولد بسببها. ثم أقبل صوت غمر كيانها برعب بارد، صوت صبي ينشد من مكان ناء: كيف حالك كيف حالك كيف حالك

يا عزيزي يا عزيزي السيد ملزو

وتهالكت متكئة على مصارعي الباب ثم تشبثت به بذراعها الخالية، وكاد عقلها أن يعصف بها ولكن سرعان ما خفت الصوت وتلاشى، وظلت دقات المترونوم تتعالى. ومع ذلك شعرت ببعض الراحة عندما استمعت إلى صوته يطغى على أي صوت آخر ووقفت بعض لحظات تشد أزر نفسها. ثم شددت قبضتها على المصباح، وسارت في بطء على طول الرواق. وعندما اقتربت من قمة الدرج أحاطت أنبوبة الضوء الصغيرة للمصباح بيدها الأخرى حتى لا يراها من يكون هناك تحت. ونزلت الدرج في حذر خشية أن يصر فيكشف وجودها.

لم يكن هناك أحد بالبهو، بيد أنها سمعت صوتاً مقبلاً من المكتبة. ودفعت الباب في هدوء فانفتح، إذا بدقات المترونوم تبعث وتكتنفها وتغمرها. ولم تستطيع أن تميز ما في الحجرة إلا بعد أن تقدمت بضع خطوات. وإذا بعينيها تلتقيان بشبح صغير مبهم جاثم بجوار الحائط أمامها. ثم أخذ ذلك الشيء يحوم ويحدق في الرياش ويتطلع إلى أرفف الكتب. واستمعت إلى حركة يدين خفيتين تعبثان في الأركان - أنه جيمي يبحث عن مترونومه.

وظلت دون حراك وقد تهدجت أنفاسها رعباً من رؤية جيمي الميت، جيمي الذي شاهدته يدفن في ذلك الصباح. ولم ينحها عن السقوط في حالة من الإغماء سوى قوة إرادتها.

وأقبل طيف الطفل. أقبل صوبها؛ ثم مر خلالها؛ يبحث، وينقب، في كل ركن يحتمل أن يكون المترونوم مختبئاً فيه وظل يدور حولها. وفي مجهود فائق وجدت صوتها، فهمست في صوت أجش: اذهب، أواه، اذهب بيد أن. الطفل لم يبد أن سمع كلماتها، فقد ظل يوالي بحثه ويطوف في نفس الأنحاء التي كان قد طرقها من قبل عدة مرات. كانت الدقات اللحوحة للمترونوم لا تزال ترتفع وكأنها طرقات المطرقة تتجاوب في أرجاء الحجرة وانزلقت يدها في عصبة مبتعدة عن أنبوبة للضوء عندما مر الطفل بجوارها فشاهدت وجهه، وعينيه تفيضان شرا، وقد فارقتها وداعتهما السابقة، وفمه الغاضب ويديه المنقبضتين.

وفي رعب جارف، استدارت لتفر منه، بيد أن الباب استعصى عليها فتحه، وبعد ثلاث محاولات فاشلة، جعلت تبحث عن شيء يساعدها على فتحه. كان الطفل بجوارها وقد أرتكن بيده في خفة على الباب. وكانت لمسته كافية لجعله لا ينفتح، ثم حاولت مرة أخرى، وتحرك المقبض في يدها كما تحرك من قبل دون أن ينفتح الباب. وكان الطفل لا يزال واقفاً هناك أمامها، ثم حاولت فتح النافذة، فدفعت قفلها بيدها الخالية فلم يتحرك، وشعرت، حتى قبل أن تنظر، أن يد الطفل مستقرة على النافذة يداً شفافة ذات بياض شاحب وقد انحنت قليلاً على زجاج النافذة.

ووجدت نفس النتيجة في نافذة الحجرة الأخرى. وعندما حاولت أن ترفع يدها لتكسر الزجاج لاحظت أن الطفل قد وقف أمامها، فلم تستطيع يدها اختراق الهواء إلى الزجاج وأخيراً استدارت وانسحبت إلى الركن المظلم الواقع خلف البيانو وهي تعول في رعب وفي لحظة كان الطفل بجوارها. وشعرت به يشيع برداً قارساً مخيفاً اخترق ردائها الليل الرفيع.

وأجهشت بالبكاء وهي تقول اذهب، اذهب، ثم شعرت بوجه الطفل يقترب من وجهها، وبعينيه تبحثان عن عينيها، وتتهمانها وبأصابعه الخفية تمتد

لتلمسها. وفي صرخة متوحشة من الرعب انتقلت منه هاربة، وحاولت مرة أخرى فتح الباب إلا أن الطفل كان هناك قبل أن تضع يدها على المقبض. وعرفت دون أن تحركه أن محاولاتها ذاهبة أدراج الرياح. ثم حاولت أن تشعل النور، بيد أنها شعرت بنفس المؤثر الذي منعها من اغتصاب النافذة. ومرة أخرى أخذت تبحث عن ركن مظلم أمين. ولكن الطفل عثر عليها واقترب منها كحيوان يبحث عن الدفء.

وفجأة، انهارت قواها العقلية وتهاوت؛ وشعرت بخوف جارف يغزو عقلها. وأخذت تضرب على الجدران المحيطة بها بقبضتي يديها. ثم وجدت صوتها؛ فصرخت لتتحرر من الرعب الشرير الذي سيطر عليها.

وكان آخر ما شعرت بن أن الطفل يجذبها من وسطها بيديه الخفيتين، ثم سقطت متهالكة بجوار الحائط. وصدمها شيء صدمة قوية في جبهتها. وفي نفس اللحظة كان جسم الطفل اللين ينضغط على وجهها. ثم شملها الظلام.

وفي صباح اليوم التالي وجد أرنولد فار زوجته راقدة بجوار الحائط على مقربة من البيانو الكبير. فركع بجوارها. ودلته خبرته الكافية في الطب أن زوجته قد اختنقت من شيء رطب، فقد كانت الرطوبة تشمل ملامحها. ولم يفهم سر لرائحة النهر القوية التي كانت تفوح في الحجرة، ثم تطلع إلى فوق فشاهد صورة زيتية كبيرة معلقة فوق الجثة، ولم تكن بالطبع هي التي أحدثت ذلك الجرح في جبهتها.

وعلى حين غرة، شاهد ما جرح زوجه عند سقوطه من خلف الصورة حيث كان مختبئاً، كان المترونوم.

محمد فتحي عبد الوهاب

(من كتاب (الهورلا وقصص من وراء الطبيعة) للمترجم تحت

الطبع).