مجلة الرسالة/العدد 864/علامة العراق
مجلة الرسالة/العدد 864/علامة العراق
الأستاذ محمد رضا الشبيبي
كنت - ولا أنفك - أنتاب مجمعه، واختلف إلى مجلسه وأتردد إلى داره. وبيته ببغداد، مجمع الفضلاء من أحلاف العلم، وأنصار الأدب، وعشاق الفضل، وأكابر البلد، وأشراف الأمة.
كان أبوه (الجواد) - رحمة الله عليه - من أشياخ الكتاب وفحول الشعراء، تعبر عن مقامه المحمود في صناعة الكتابة مقاماته التي يعنوا لها البديع، ولا يطاولها الحريري، وتدل على مرتبته العالية في القريض أشعاره التي لا يقاويها القدامى حر لفظ، ولا يضارعها المحدثون دقيق معنى. وكان أجداده من كبراء العلماء، وأئمة المحدثين. ولا تزال آثارهم تنم على علو محلهم، وتدل على جلال شأنهم، يذكر اسم الله - تعالى - في مساجدهم ويسبح بحمده في الغدو والآصال، وكانت مدارسهم تغص بالمتفقهين ينفرون من كل جانب، ويغدون من كل فج.
وقد شابه (الرضا) أباه، وورث أجداده، إلا أ، هـ أحاط بأقطار الفضل، وطوف في مناكب العلم، وجمع الكمال فأوعى. تفقه بالنجف عند طائفة من العلماء، وأدبه فريق من شيوخ الأدباء. وقد درس المنطق فمد من أفراده، وأخذ الحكمة فصار من أشياخها، وتخرج في الفلسفة فكان من أربابها، وسمع اللغة فقيد أوابدها، وعقل شواردها، وهذب ألفاظها. وكتابه (المأنوس) من لغة القاموس أمارة كماله في هذا السبيل.
رأيته حافلا بعلم جم، وفضل غزير، وأدب طرئ ومحاسن كثيرة، وفضائل دثرة ومناقب عديدة يزينها اثنان: تواضع العلماء وأناة الوزراء. وهو شاعر مجيد، وديوانه المطبوع نبذ مختارة من مجموع كبير ضخم يحتوي على بدائع بدائهه وعيون غرره.
وهو - عند أهل افضل - مؤرخ العراق - غير منازع - حاول أن يطلع على أخباره، فوقف على السهم الأوفى، وأراد أن يصيب آثاره، فوقع إليه النصيب الأكبر. اطلعت على جزء من مجموعاته الكثيرة القيمة، وطالعت جملة مما جمع ووضع، وقرأت طائفة مما ألف وصنف من الكتب التي لو من على التاريخ بنشر شيء منها لكشف الأستاذ عن وجه كثير من أصول التاريخ والأدب.
ومن العجائب أنه عنى بما لا يقع في خلد أحد من الباحثين في ومنه، المعاصرين له؛ فلقد أفرد (البيزرة) برسالة مبسوطة، وعنى بإخراج مخطوط قديم قيم فيها. وخص (تاريخ الفلسفة) وأكابر الفلاسفة بكتاب ضخم نفيس، وعنى (بفلاسفة اليهود في الإسلام) كان كمونه وابن ملكان. وعالج (أدب البحث والمناظرة) واثبت في مجموعاته تاريخ البلدان التي هبت ريحها في العلم أو كانت برزة في الأدب، وأثبت سير رجالها المتبحرين، وأعيانها الكملة، وبيوتاتها الجليلة. وعنى بمؤرخ العراق (ابن الفوطي) - المتوفى سنة 723هـ - فأفرد سفراً مبسوطاً مطولاً أثبت فيه تاريخ العراق - حينئذ - وضمنه سيرة ابن الفوطي، وإني لأظن الأمر الذي حمل الشبيبي على إخلاد ابن الفوطي، وإخال السبب الذي جعله معنياً به، وأحسب أن رأس ما عظمه في عينه، هو تشابه الرجلين، فهما اللذان أرخا العراق ودونا أخباره، وتصيدا أنباءه. وقد بر الشبيبي بابن الفوطي فأنقذ الجزء الرابع من كتابه الجليل (مجمع الآداب في معجم الأسماء والألقاب) الذي كان نسياً منسياً في (دار الكتب الظاهرية) بالشام، وحرره وعلق عليه وهذبه، وأثبت سيرته في رسالة مطولة
ولقد اطلع على كثير من خزائن الكتب العتيقة بالعراق والشام ومصر وأفاد من مخطوطاتها ما لا يقوى على تحصيله - اليوم - من وقف نفسه على البحث ونذر للتأليف فرصته. واعتكف في دور العلم وبيوت الأدب، فأخذ نصيبه منها، واقتفى كتباً نفيسة، وجمع أسفاراً مختارة. وعنده خزانة جامعة رائعة تزينها آثاره التي تنم على مقدار فضله، وهي أمارة كماله. وهو جيد الحظ مليح الكتابة، له مشاركة في جميع العلوم والآداب.
لا أزال أزوره وأتردد إلى حضرته وأجتمع معه، فإذا أبطأت عليه عاتبني. ولقد منعني أن أقصد حضرته داء ألم بي، غادرني رهين الفراش، وتركني إلف الداء فهاجني شوقي إلى مجلسه، وثورني نزوعي نحو مجمعه، فارتجلت هذه الأبيات وأنا نهب السقام، وأوفدتها عليه ضحا 14 تشرين الأول من سنة 1949:
مولاي ما اخترت القطي ... عة والرضا أقصى رجائي
لكن أمنت الشخط وال ... أيام تبخل باللقاء
وبقيت نضو السقم ره ... ن جوي أطارحه عنائي
أتذكر الجمع الحبي ... ب فأنتشي ويزول دائي ويلم بي طيف الخيا ... ل وإنه خير الدواء
يا عهد جمع يارعا ... ك الله مزدهر الفناء
عذبت روحي بالبعا ... د ورُعت قلبي بالثنائي
فأذيلُ دمع صبابة ... وهوى يجمجمه حيائي
من لي بأيام الوصا - ل كأنها كرهت لقائي
خلفتها وتركت في ... أعطانها قلبي ورائي
ردوا إلي زمان وص ... ل كنت أمحضه إخائي
وأعد علي حديثه ... حتى يعاودني شفائي
أفديك يا عهد الأحب ... ة هل لعودك من رجاء
إن أنس لا أنس الربو ... ع يزينها ثوب البهاء
تتنفس الآداب طي ... باً في مغانيها الوضاء
وتضوع أنفاس الشم ... ئل وهي تزري بالكباء
وتدار راح الفضل في ... جنباتها الغر الرواء
يا داره روى ثرا ... ك على المدى طول البقاء
وسقتك يا ربع الكما ... ل من الحياديم الصفاء
تعرو سواك النائبا ... ت وأنت مرتفع البناء
بضاعتي وهي مزجاة وينثني على زادي وهو قليل: (أتمنى أن توفق البلاد لمكافأتك، وهل يتاح لها أن تكافئ الأدباء العاملين؟!)
شارك - حفظه الله - في الجهاد ولا ينفعك لسانه الغضب يقوم الأود، ولا تزال كلماته تعدل الزيغ ولا يبرح سناه يهدي درب المجد الأبيض. لم تلهه سياسات البلد عن الاشتغال بالعلم، ولم يتطربه تدبير الدولة، لكنه التفت عن الدنيا وبهجتها، وهو معروف بالإباء، شهير بالعفة. وإنه وإن كان ذرف على الستين يعاني ما لا يصبر على الاستقلال به الشباب ولا يستطيع القيام به من يمتع بعنفوان السن.
بغداد
حسين علي محفوظ