مجلة الرسالة/العدد 866/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 866/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 866
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 06 - 02 - 1950



للأستاذ عباس خضر

استقبال تيمور بالمجمع اللغوي

كان يوم الخميس الماضي موعد الجلسة العلنية التي عقدها مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية لاستقبال الأستاذ محمود تيمور بك بعد انتخابه وصدور المرسوم الملكي بتعينه عضواً عاملاً بالمجمع خلفاً للمستشرق الألماني المرحوم الدكتور أوجست فيشر، وكانت كلمة الاستقبال لمعالي الدكتور طه حسين بك، وقد تحدث فيها عن تاريخ الأسرة التيمورية، ومكانة أفرادها وآثارهم في العلم والأدب والفن، ولما خلص إلى الحديث عن الأستاذ محمود بك قال يخاطبه: ولعلك تذكر وإني أذكرك إن كنت نسيت حديثاً ألقيته في بعض مؤتمرات المستشرقين وكنت تخلص فيه للدفاع عن العامية ولم تكن تقدر أنك ستكون مجمعياً يوماً ولم تقدر أن العربية أقوى منك كما كانت أقوى من كثرين، لا من الأفراد بل من الشعوب، ولم تكن تقدر أنك ستضطر يوماً أن تكون من حماة العربية الفصحى التي كانت تؤثر عليها العامية في بعض أوقاتك ثم نرى تغلب هذه العربية عليك يزداد شيئاً فشيئاً، وإذا هي تلتهمك التهاماً، وإذا هي تقهرك على ما تريد هي لا ما كنت تريد أنت، وإذا أنت لا تستطيع إلا أن تكرهها في شيء واحد هو خير ما تحب لها وهو خير ما تحب لنفسها تكرهها على أن تتلقى من المعاني والخواطر الرائعة ما لم تألفه من قبل، وإذا أنت من الممرنين لها أحسن تمرين.

وقال: وأنت كاتب حلو النفس عذب الروح خفيف الظل لا تثقل على قارئك مهما تطل عشرته، وأذكر أني تلقيت بباريس كتابك (سلوى في مهب الريح) فترددت في قراءته وآثرت أن أقرأ ما أقرأ من الأدب الفرنسي ولا سيما حينما أكون في فرنسا ولكني لا أستطيع أن أرد نفسي عن قراءة آثارك، فأخذت نفسي بقراءة صحف منه بين حين وحين على ألا يصرفني عما أنا فيه من قراءة، وأقسم أني ما بدأتها حتى أعرضت عن كل ما سواه ومضيت في القراءة حتى إني لم أقطعها القراءة إلا حين لم يكن من قطعها بد.

وأفاض الدكتور طه حسين بك في تحليل أدب تيمور، ووصفه بأنه أديب عالمي ليس أدبه مقصوراً على مصر وحدها ولا على الشرق العربي وحده وإنما هو أدب امتد إلى الغر إذ ترجم كثير منه إلى اللغات الأجنبية الحية. ثم قال: أتفهم الآن لماذا سعى إليك المجمع سعياً رفيقاً كما يسعى إلى شيء، ذي خطر لا يسهل الوصول إليه، بدأ فقدر آثارك الأدبية وأجازها ونوه بها، ثم أستأني بك لأنه يعرف من تواضعك وهدوئك وإيثارك لما ورثت عن أسرتك من حب العزلة والانزواء، استأني حتى تسيغ هذا التقدير وتطمئن إليه، استأني بك سنة أو سنتين، فلما عرف أنك تلقيت هذه الصدمة وصبرت لها واحتملتها ثم تعزيت عن تقديره إياك فسافرت وكتبت وأنتجت، هجم هجمة وأخذك على غرة، وأشهد ما عرفت ولا حسبت قط بأن المجمع يريد ضمك إليه، وإنما أخذك فجاءة في يوم ائتمر بك صديقان هما احمد أمين بك وطه حسين فرشحاك، ولم يكادا يعرضان الأمر على المجمع حتى أجمع على اختيارك، وإذا أنت قد التهمك المجمع بعد أن التهمتك العربية التهاماً من قبل.

وبعد ذلك وقف الأستاذ محمود تيمور بك فألقى كلمته. وقد بدأها بالتعبير عن تهيبه عضوية المجمع أو في الحقيقة عن تواضعه ثم تحدث عن الدكتور فيشر، جرياً على السنة المتبعة في أن يتحدث الخالف عن السالف، فقال أنه كان أحد أولئك الأفذاذ الذين تتراءى لهم في مؤتنف حياتهم أحلام عزيزة وكان الحلم الذي صبغ حياة الدكتور فيشر بصبغته أنه أراد أن يكون للغة العربية معجم يؤرخ ألفاظها ويتناول ما تعاقب على هذه الألفاظ من أطوار، راجعاً بكل لفظ إلى منزعه أو إلى ما يقابله في شقائق العربية من اللغات السامية، وهو مشروع جديد ليس له سوالف تيسر عليه مهمته وكأنما الأقدار قد هيأته لذلك العمل الضخم وأعانته بأدواته، فهو المتفقة في شتى اللغات السامية، وهو العليم بموازين الدراسات في اللغات على اختلافها، وهو البصير بقواعد البحث العلمي على أدق مناهجه، وهو الصابر المثابر، وهو صاحب الهوى العذري للغة العربية على وجه خاص. صرف نفسه إلى منابع اللغة نفسها من منظوم ومنثور في العصر الجاهلي وصدر الإسلام وأكب عليها يستقري ألفاظها ويتبين معانيها في سياق الكلام ويستجلي تطور هذه المعاني وتنقلها بين الحقائق والمجازاة، لبث الدكتور فيشر أطيب عمره في هذا العمل، ثم دعي إلى المجمع عضواً عاملاً فيه، ثم طلب إليه أن ينجزه معجمه في دار المجمع على أن تهيأ له وسائل الإقامة والعمل، فخف له واستمر فيه حتى كانت الحرب الشؤمي فحالت بينه وبين العودة السنوية لاستئناف عمله في وطن حلمه العزيز، وبينما كانت العقبات تذلل في سبيل أن يعود عجلت به المنون إلى عالم الغيب والشهاة، تاركاً في هذه الدار صناديق معجمه تخفق فيها روحه، كأنها تنكر على الناعي أنه قضى.

ثم تحدث الأستاذ تيمور عن مهمة المجمع في المحافظة على سلامة اللغة العربية التي أصبحنا مؤمنين بأنها لغتنا التي يجب أن ننهض بتنميتها، ولذلك يعد المجمع من المؤسسات التي تقتضيها حياتنا الاجتماعية. ومما قاله في هذا البحث القيم: لا تثريب علينا في المفاخرة بأن لغتنا العربية غنية بألفاظها وتراكيبها، ولكن الغنى اللغوي لا يقوم باختزان الكنوز، ولكنه يقوم بمقدار التعامل، ونحن نملك من ودائع الألفاظ والتراكيب ما تضيق به خزائن المعجات، فمثلنا في ذلك مثل امرئ يحتاز القناطير المقنطرة من صكوك لا يجرى بها تعامل، على حين أن السوق مغمورة بصكوك أخرى يتعامل بها الناس، فالسوق في غنى عن صاحب تلك القناطير، وهو لما تحمل السوق من سلع فقير، ومنه قوله: وفي غير مستطاع المجمع اللغوي أن يصنع الألفاظ صنعاً أو أن يفرضها على المدلولات فرضاً، وإنما الذي يستطيع أن يفرض هو البيئة المثقفة وحدها، فالكتاب والعلماء والباحثون والدارسون في كل فن ومنحنى هم الذين يستوحون ضرورة الاستعمال ويستلهمون ذوق التعبير، وعلى المجمع بعد ذلك أن يستصفي ما يتلقاه من لغة المجتمع بالتأييد والإقرار، حتى يكون مثله في ذلك كمثل الطعام، لا يطمئن الناس إلى صلاحيته إلا أن ختمه معمل التحليل بخاتم الأمان.

تكريم العريان

في يوم الخميس الماضي احتفل جمع من الأدباء ورجال التعليم بتكريم الأستاذ محمد سعيد العريان في نادي الصحفيين. وكان من خطباء الحفل الأستاذة عطية الأبرشي وعبد الله حبيب ومحمود العزب موسى وطه عبد الباقي سرور. ومن الشعراء الأستاذة محمد غنيم وعلي الجمبلاطي ومحمد مصطفى حمام وعزت حماد. وقد أناب عميد الأدباء معالي الدكتور طه حسين بك عنه الأستاذ حسين عزت مدير مكتبه فألقى كلمة بالنيابة عن معاليه عبر فيها عن مشاركته في تكريم المحتفل به وتقدير أدبه الممتاز وإنتاجه القيم

كانت كلمة الأستاذ الأبرشي جامعة شاملة، إذ كان موضوعها (أثر الأستاذ العريان في الأدب والتعليم) وهو موضوع مترامي الأطراف اضطر فيه أن يمر بنواحيه مروراً عابراً أشبه فجاء بتقارير المفتشين منه بالدراسة الكاشفة، ويظهر أن الوقت كان ضيقاً فلم يكف لأن يتصفح الأستاذ كل مؤلفات العريان، ولكن كان ينبغي أن يتجنب الحديث عما لم يتمكن من الاطلاع عليه وهو كتاب (حياة الرافعي) إذ قال عنه إنه دراسة تحليلية لأدب الرافعي، وهو ليس كذلك، إنما هو دراسة لحياة الرافعي لا أدبه.

وكان موضوع الأستاذ عبد الله حبيب (حياة الأستاذ العريان من مؤلفاته) وقد استطاع أن يصور ملامح شخصيته ونوازع نفسه بعرض أهم الأحداث في حياته وصداها في كتبه. وقد عرض لصلة العريان بالرافعي فذكر أن بعض الناس قالوا: لقد أصبح العريان رافعياً، وأن الدكتور طه حسين قال. لم يصبح العريان رافعياً ولكنه أصبح مدره الرافعي. ثم ذهب الأستاذ عبد الله إلى أن الرافعي هو الذي أصبح عريانياً، وفسر ذلك بأن كتابات الرافعي في عهده الأول كانت غامضة مستغلقة، ثم كان في العهد الثاني يملي على العريان فكان هذا يتوقف عن الكتابة إذا أغلق بيان الرافعي، فيقول له: حتى أنت يا عريان قد أصبحت عامياً. فيجيبه. إذا كنت حيال هذا الغموض قد أصبحت عاميا فكيف يصبح حال الآخرين؟ ثم تهدأ ثورة الرافعي فيعود إلى عبارته بالتوضيح والتقويم. وقد عقب الأستاذ العريان على هذا في كلمته الشاكرة - بأنه غير صحيح. عقب بهذه العبارة الإجمالية التي تشبه البلاغات الرسمية، وكنا نود أن يبسط القول في هذه النقطة ولكن يظهر أن ملابساته الرسمية الأخيرة غلبت عليه.

وتناول الأستاذ عبد الله حبيب في حديثه أيضاً مسألة إقصاء الأستاذ العريان عن وزارة المعارف، فأشاد بفضل هذا الإقصاء على الأدب إذ تفرغ للدراسة والإنتاج، فأصدر مؤلفات قيمة وكان بصدد مؤلفات أخرى لولا (جناية) وزارة المعارف أخيراً برضائها عنه. . . إلى أن قال: هل لنا أن نلتمس من صاحب المعالي وزيرنا الجليل أن يتفضل ياقصائه عن الوزارة فترة قصيرة يفرغ فيها لاخراج هذه الكتب التي تعطلت بسبب رضائه عنه وإعجابه بكفايته. . .

وكانت قصيدة الأستاذ غنيم رائعة خفيفة الظل، قال في أولها:

كرموه تكرموا عرياناً ... ليس الفضل وحده طيلسانا

قد كسته الطروس ثوب فخار ... وكساها من فنه ألوانا وكان اسم (العريان) موضع الدعابة اللفظية والتفنن في المعاني للخطباء والشعراء، ومن ذلك قول حمام.

متواضعاً ثوب الفضيلة فوقه ... كاس ويزعم نفسه عريانا

بل جر هذا الاسم إلى القافية في قصيدتي غنيم وحمام.

والملاحظة - على وجه العموم - أن الكلمات التي ألقيت - عدا كلمة الأستاذ عبد الله حبيب - كانت عائمة، فلم يركز أحد منهم اهتمامه بناحية من النواحي الأدبية للمحتفل بتكريمه تركيزاً يكشف عنها ويبرزها، فمثلاً لم اسمع من أحد منهم صدى واضحاً لقراءته كتاباً من كتب العريان. ولم يحددوا بالضبط مكانة أديبنا من أدباء العصر وخصائص أدبه الأصلية.

ومما أستطيع أن أجمله في هذه المناسبة، أن الأستاذ العريان يجمع في أسلوبه بين البيان العربي الحر والرشاقة العصرية كما يجمع في موضوعه بين الإمتاع النفي والبحث الدقيق والمنطق السليم، وأتى لأراه يزحف إلى الصف الأول على رأس نفر قليل من أدباء الصف الثاني. ولا أخشى عليه من وزارة المعارف كما خشي الأستاذ عبد الله حبيب، فان طبعه المكافح وروحه القلق لن يهدأ ولن يستطيع شيء أن يظفر به دون الأدب.

ويجرني ذلك إلى التصريح برأيي في شخصية الأستاذ سعيد، وهو يخالف رأي أكثر الناس فيه، إذ يقولون: إنه رجل طيب، مخدوعين بما يبدو عليه في الظاهر من الهدوء والوداعة، ومأخوذين بما يأتيه فعلاً من العمل الصالح. والحقيقة التي أراها أنه ليس رجلاً طيباً كما يفهم الناس من هذا الوصف بصرف النظر عن معنى الكلمة، إنه هادئ الصفحة ولكن صخاب فيما دونها. . إنه داهية خطير. . هو في ملابساته العلمية كما تراه في أدبه يتعمق الأشياء وينفذ إلى الدخائل ويستكشف الدقائق. إنه يكافح في حرب صامتة وقد شوهد أخيراً يجول ويصرع. وقد كان وجوده في منصبه بالوزارة أخيراً بمثابة (إرهاص) لإقبال الدكتور طه حسين بك. وكم تحتاج أمور الثقافة والتعليم في وزارة المعارف إلى هذه العزائم الصادقة والهمم التي تمضي إلى ما تريد وهي لا تريد إلا الصالح العام.

لقد أثبت عميدنا الكبير، كما أثبت أديبنا العريان، أن الأديب - على خلاف ما يقول بعض الناس من أنه إنسان خيالي غير عملي - أهل لادارة الأمور على خير ما يكون وما ينفع الناس.

عباس خضر