مجلة الرسالة/العدد 866/علي مصطفى مشرفة باشا
مجلة الرسالة/العدد 866/علي مصطفى مشرفة باشا
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
وسط هذه الخسائر المتلاحقة تفقد مصر عالمها العظيم.
والحق أن اللغة العربية هي صاحبة المصاب الأول في هذا الرجل، لسبب بسيط وهو أن اللغة العربية لم تعهد مؤلفاً بهذه القوة، وكاتباً بهذه الأصالة في ميدان العلم الخالص. وهذا الجانب النظري في العرض العلمي، ناقص عندنا إلى حد يعيب المكتبة العربية، وتبدو حاجتنا واضحة في هذه الأيام إلى الكتابة التفصيلية عن العلوم من أجل سد الفراغ الهائل الذي نراه في المؤلفات والعقليات على السواء. . وإذا كانت مصر قد أحبت هذا الرجل، وإذا كانت قد بكت البكاء المر حينما انتقل إلى جوار ربه، فلأنه كان يملأ ركناً يعز على الجميع أن يروه شاغراً، ويشتغل بمهمة لا يقوى على القيام بها سوى أفراد قليلين.
مات مصطفى مشرفة بعد أن ترك لمصر مجداً أي مجد، وبعد أن شرفها باسمه وعمله وبحوثه جميعاً، وإذا عرفت قيمة العلم والعلماء في مصر ومدى ما نحن فيه من نقص وقصور وذكرت حالتنا العقلية بوجه عام فستعلم آنئذ من هو مصطفى مشرفة، وستدرك مدى الخسارة في هذا الرجل، إذ على الرغم مما نحن فيه من تأخر وجمود علمي في كلا الجانبين، النظري والعملي، بزغت هذه العبقرية النافذة وأطلت على العالم بصورة فذة حقاً وخرجت إلى الناس على نحو غريب.
وهو أول من أحس بهذا الضعف الشامل في نواحينا العلمية أول من أخذ يستصرخ الحكومة والأهالي من أجل العناية بهذا الجانب الذي يمكن أن يأتي لنا منه الخير الكثير أو الذي لا يمكن أن يأتي لنا خير من سواه. أنظر إليه مثلاً حينما يقول بصدد العلم والصناعة (فالصناعة بأوسع معانيها تشمل موارد لثروة الأهلية من معدنية ونباتية وحيوانية بل وإنسانية أيضاً كما تشمل استخدام القوى الطبيعية وتسخيرها لخدمة الأمة وراحتها ورفاهيتها ولم يعد من الممكن في العالم الحديث أن يترك هذه الأمور للصدف أو للجهود الفردية، بل يجب على الدولة أن ترسم سياسة إنشائية في تنمية الثورة الأهلية، وهذه السياسة لا يمكن أن تبنى على الحدس والتخمين أو على الجدل والخطب السياسية، بل إن قوامها دراسة الحقائق وإجراء التجارب والبحوث العلمية. ولو أننا استطعنا عن طريق البحث العلمي أن نستنبط طرقاً جديدة لصناعة هذه المواد في مصر لربحنا ثروة طائلة).
مات وقد ترك للمشتغلين بالعلم والثقافة مجموعة من الكتب الجميلة الممتعة على الرغم من أنها في موضوع خاص، وستقول البعض إن هذه الكتب قليلة وصغيرة، بيد أن العلم لا يقاس بالحجم ولا يطالب العالم بالشرح والتطويل ولا يسأل عن التفاصيل والتفسير، فذاك من عمل التلاميذ والمريدين، وأينشتين نفسه لم يكتب سوى مذكرات بسيطة على صورة مقالات وكانت بحوثه دائماً على شكل لمحات خاطفة. وتلك طبيعة العلماء، ولكن مع هذا فستجد نوعاً من الجمال والتفصيل في كتب مشرفة التي قصد بها إلى الناس كيما تؤثر في عقولهم وكيما تفتح قلوبهم وكيما تعمق من احساساتهم بالحياة، أنظر مثلاً في كتابه (العلم والحياة) الذي صدر ضمن مجموعة (أقرأ) بتاريخ أول يناير 1946، فستلمس فيه، إلى جانب الروح العلمية والفلسفية والبحث الواقعي الدقيق تفصيلاً واضحاً يلائم الدراسة التي تعمل في اتجاه معين؛ وتسيطر عليه فكرة خاصة، ويخدم نوعاً بالذات من أنواع المعرفة.
أما كتابه عن الذرة والقنابل الذرية فقد جاء صدى لما في عقله من معلومات ثمينة خاصة بهذا الموضوع، وكانت هذه المسألة دائماً محل عنايته فجاء كتابه من بين أوفى الكتب في هذا الموضوع وأصبح يعد من مصاف الكتب التي ألفها علماء الغرب في هذه الناحية. وأهم ما يميز الرجل في هذا الكتاب أنه كان واقعياً إلى أقصى درجة، فلم يحاول أن يكون حالماً أو أن يتأثر بنزعة إنسانية في الوقت الذي تتصارع فيه الدول عن طريق العلم وتستخدم الطاقة الذرية من أجل ترفيه شؤونها وحماية ممتلكاتها، أو في الوقت الذي تنشئ فيه كل دولة من الدول لجنة خاصة مزودة بما يلزمها من المعامل والعدد والأموال والرجال حتى تشترك اشتراكاً فعلياً في نتائج هذه البحوث. إنه يؤمن بأن العلم في خدمة الإنسان دائماً، وما دام كذلك فيستحيل أن نفق مكتوفي الأيدي بازاء هذه الظاهرة الحضارية الممتارة في العلم الحديث وفي الصناعة الحديثة. استمع إليه إذ يقول: إن خير وسيلة لاتقاء العدوان أن تكون قادراً على رده بمثله، وينطبق ذلك على الأسلحة العلمية أكثر من انطباقه على أي شيء آخر. . . فالمقدرة العلمية والفنية قد صارتا كل شيء، ولو أن الألمان توصلوا إلى صنع القنبلة الذرية قبل الحلفاء لتغيرت نتيجة الحرب. .)
وخلاصة ما يقال عن اتجاه مشرفة من الناحية العلمية الخالصة هو أنه قد تأثر بالحركة العلمية في مستهل هذا القرن، وهذا من شأنه أن يفسر لنا سيطرة الروح الرياضية على أعماله ويبين لنا تأثير دراساته الفلسفية التي جاز فيا درجة الدكتوراه. ألا ليت العلماء عندنا فطنون إلى قيمة الفلسفة في دراسات العلم.
ومنذ حوالي الثلاثين عاماً لم يعد هناك من يشك في الطبيعة الموجبة الخالصة للضوء وللإشعاعات الأخرى؛ بيد أن العلماء - منذ ذلك الوقت أيضاً - قد اكتشفوا بعض الظاهرات التي تنشأ عادة من المواد الاشعاعية، ولم يمكن تفسيرها حتى ذلك الوقت إلا على وجه واحد وهو ذلك الذي يعمل بوحي من الفهم الجسيمي للمادة وكان أهم هذه الظاهرات هو الأثر الذي ينشأ عن كل من الضوء والكهرباء. وهو عبارة عما تراه في المادة عندما تضيئها، إذ بمجرد أن تضئ قطعة من المادة - ولتكن معدناً - ينبعث منها في حركة سريعة كثير من الكهيربات. وأدت دراسة العلماء لهذه الظاهرة إلى نتيجة هامة، وهي أن سرعة الكهيربات (إلكترونات) المنبعثة لا تعتمد إلا على طول الموجه في الإشعاع الحاصل وعلى طبيعة الجسم المشع، وفي الوقت نفسه تبين لهم أنها لا تعتمد إطلاقاً على حدة أو سدة الإشعاع الحاصل وأن عدد الكهيربات (الإلكترونات) المنبعثة هو وحده الذي يعتمد على حدة أو شدة الإشعاع. بل أكثر من ذلك، ظهر أن طاقة الكهيربات المنبعثة تختلف اختلافاً عكسياً مع الطول التموجي للموجة الحاصلة. وعندما تأمل أيشتين في هذه الحقيقة، تبدى له أن لا مندوحة عن العودة إلى القول ببناء جسيمي للإشعاع في حدود معينة إذا شئنا تفسيرها. وصرح بأن الإشعاعات إنما تتكون من الجسيمات التي تصدر كمية من الطاقة النسبة العكسية مع طول الموجة، واستطاع عقب ذلك أن يبين لنا في وضوح وجلاء أن قوانين الأثر الناتج عن الضوء والكهرباء إنما يمكن استخلاصها واستقراؤها من ذلك الافتراض.
وعلى ذلك فلم يكن أمام علماء الطبيعة إلا يحسوا بصعوبة الأمر وأن يشعروا بالربكة والحيرة بين هذه المظاهر المختلفة فهناك من جهة، مجموعة الظاهرات التي تتم عن تشابك الحركات الناجمة عن الذبذبة وعن تكسر الأشعة الموزعة، وهذا من شأنه أن يثبت أن الضوء مكون من موجات أو يدل على أن الضوء لا ينبعث من الجسم المسير على صورة أشعة مستقيمة بل على هيئة تموجية بحته؛ ومن ناحية أخرى، هناك ظاهرة الأثر الحاصل من الكهارب الضوئية وبعض الظاهرات الأخرى التي اكتشفها العلماء حديثاً والتي تدل على أن الضوء مكون من جسيمات ومن فوتونات أو ضوئيات كما نقول في العصر الحديث.
والحل الوحيد الذي يمكن أن ينقذ العلماء من هذه الورطة هو القول بأنها المظهر التموجي للضوء والمظهر الجسمي للضوء عبارة عن مظهرين متكاملين أو وجهين إضافيين لحقيقة واحدة، وأهم فائدة يمكن أن يجبنها العلم من هذا الزعم الجديد أو من هذه التركيبة الجديدة هو الوصول إلى فهم الموجات والجسيمات بوصفها مترابطين ترابطاً كلاً في الطبيعة أو على الأقل في حالة الضوء، ومن ثم استطعنا في العصر الحاضر أن نقيم علماً كاملاً بناء على هذه النظرية وهو المكيانيكا التموجية.
وكان مشرفة واحداً من أخطر العلماء الذين اتجهوا في هذا الاتجاه وأبدعوا هذه النظرية، ولم يتوان عن تأييد هذا المنحي الجديد بكل ما أوتي من جسارة وقدرة على التدليل وفهم لحقيقة الأمور ونشر أبحاثه هذه في نشرات الجمعية البريطانية للعلوم في عام 1929 حيث استطاع أن يثبت أن المادة إشعاع في اصلها وأنه من الممكن أن تنتهي بالتحليل إلى باطن المادة أو إلى صفاتها الحقيقية فيظهر لنا ما فيها من طبيعة الإشعاع ويتكشف لنا من خصائصها شيء آخر غير ما نراه بالعيون ونلمسه على هيئة جامدة في حياتنا العامة.
وفي النهاية نقول إن مشرفة هو مثال الجندي الباسل الذي سقط في ميدان قلما يثابر على المضي فيه سوى الشجعان من أرباب الذكاء النادر والمقدرة الفائقة، لقد كان يعمل بوحي من هؤلاء العلماء الذين تتلمذ عليهم والذين قاموا بتسخير الطاقة الذرية. . . كما يقول هو نفسه في نهاية كتابه عن الذرة. . . لخدمة بلادهم ولا دافع لهم غير باعث الإيمان. . . الإيمان بحق وطنهم عليهم وحق هذا الوطن في أن يحيا وأن يحتفظ بمثله الاجتماعية والروحية.
كان الرجل عالماً في غير ادعاء، وإن بلغت نفسه أحياناً إلى حب الثورة والسخط فلأننا لم نحاول أن نعطيه من المكانة ما يليق بالإنسان العادي فضلاً عن الإنسان الممتاز، وإذا كانت حياته قد اتصفت ببعض الاضطرابات والقلقلة فأتما جاء هذا كله من التغاضي عما له من حق في أن يعيش الحياة الملائمة في الجو العلمي الذي يطلبه وعن حقه في الوصول إلى أسمى المراتب وأعلى الدرجات.
لنا الله في هذا الرجل العظيم.
عبد الفتاح الديدي