مجلة الرسالة/العدد 866/كتاب أحلام في التربية
مجلة الرسالة/العدد 866/كتاب أحلام في التربية
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
قرأت هذا الكتاب منذ أسبوعين، وقد وضعه مؤلفه مستر يورنز منذ حوالي عشرين سنة، وقدمه الدوز هكسلي حفتدهكسلي العظيم، فرأيت أن ألخصه لقراء الرسالة الغراء.
الكتاب طريف الموضوع، شائق، سهل الأسلوب إلى حد بعيد، يجعل القارئ المتوسط الذي لم ينل حظاً كبيراً من علوم الفلسفة والتربية، يقبل على قراءته بشغف ولذة، وذلك لأنه أقرب إلى القصص والأساطير منه إلى كتب التربية والتعليم. ومما يساعد على فهمه ويغري بقراءته سهولة تعبيره واتساع أفق الخيال فيه وما فيه من طرائف جديدة، وقد ألبس المؤلف الجد ثوب الهزل فجعله قريباً إلى الأذهان سهل المطالعة للكثيرين.
إن الكاتب يحس كما يحس الكثيرون منا، أننا ندور في حلقة مفزعة إذ لا ندري لماذا نبعث بأبنائنا إلى المدارس وإن كنا نبعث بهم على أي حال، وذلك لأن المدارس التي جعلت لإعدادهم للحياة السعيدة، هي في الواقع كثيراً ما تجني عليهم بفساد أنظمتها التي تذهب بكثير من استعداداتهم وقبر ملكاتهم وضياع مواهبهم، لأن الحياة فيها جحيم وقوده أطفالنا الأبرياء.
إن المؤلف يرى أن النظام المدرسي وجد على أنه أداة لحياة صالحة سعيدة، ولكن الآية انعكست وصارت مفسدة لكثير من الأطفال. والعجيب أننا لا ندري ماذا نفعل لننقذ أطفالنا من هذه المأساة التي تمثل أمام أعيننا ونشاهد فصولها تعرض علينا ونحن مكتوفو الأيدي. هذا ما يدركه من يقرأ الكتاب قراءة بحث ودرس.
أما موضوع الكتاب فقد تخيل الكاتب، أن مؤتمراً للتربية والتعليم عقد في بقعة من الأرض، ودعي إليه كثير من سكان الكواكب السيارة المختلفة وقد أرسل كل كوكب مندوبية إلى هذا المؤتمر من أستاذه وشيوخ وسيدات ومن مخلوقات أخرى لا شبيه لها ولم ترها أعيننا، منها الذكر والأنثى، ومنها ما هو خليط بين الاثنين، وقد انتظم هؤلاء جميعاً غرض واحد هو بحث مناهج التعليم والمقارنة بينها في مختلف الأنحاء، وتعديل ما يحتاج إلى تعديل لتأتي بالغرض المنشود الذي يسعى إليه العالم أجمع.
ولما افتتح المؤتمر أسندت رئاسته إلى مخلوق أرضي، فرحب بالأعضاء، ثم أتى بموجز لتاريخ التعليم فقال:
إنه عرف في أول أمره على أنه أداة لتعليم مواد ثلاث: هي القراءة والكتابة والحساب، وهذا غرض متواضع لا يتفق مع جلال التربية والتعليم، إذ الأحرى بمثل هذا الغرض أن تكون أداته أقل قيمة من التربية والتعليم. فإذا كانت التربية والتعليم لا غرض لهما سوى أن يكونا أداة لتعليم هذه المواد الثلاث فما أقل شأنهما واسوأ حظهما، ثم قال:
إن الغرض من التعليم أجل وأشرف من هذا بكثير، والذي يجب أن يهدف إليه التعليم هو: الفلسفة وعلم النفس والسياسة وعلم وظائف الأعضاء، لأن هذه الأشياء هي أساس حياة الإنسان وسعادته، فعلى مقدار فهمه لها ومعرفة دقائقها تتوقف سعادته في حياته ويكون نفعه للإنسانية، فيجب ألا تكون حياة الإنسان هباء في هباء، لأنه لا يستطيع أن يتصل بالآخرين اتصالاً وثيقاً وأن يحيا حياة فياضة بالمعاني السامية والغايات النبيلة إلا إذا فهم الجماعة الإنسانية، والأحوال الاجتماعية فهماً صحيحاً، ولا يتأنى له ذلك إلا إذا كان له قسط وافر من هذه العلوم التي يجب أن تكون الغرض من التعليم.
ولكن هذا لم يرق مندوب (المريخ) فاعترض قائلاً: ما هي الفلسفة وما هو علم النفس وما هي الفائدة المرجوة منهما حتى يكونا الغرض من التعليم؟
ولكني أرى أن التعليم والتربية، أسمى من أن يكونا أداة لمثل هذه المواد، بل يجب أن يوضع التعليم للوطنية والأخلاق، إذ أنهما أساس الحياة. ويصر مندوب المريخ على أن يكون عملياً في كل شيء يقرره، فتراه يرفض تدريس الجغرافية مثلاً، لأن المدارس تدرس الجغرافية من أول نشأتها ولم تعد على العالم بشيء إنه يريد أن يستقصي الأمر بطريقة علمية أكثر من ذلك فائدة وأدوم ثباتاً، حتى أنه قال. لماذا ندرس الجغرافية! وماذا يضيرنا لو لم ندرسها. وغير ذلك من مثل هذا التساؤل عن كثير من المواد الدراسية.
أما مندوب (المشتري) فانه يعقد مقارنة بين تربية الأطفال وبين الصناعات الأخرى من حيث قدرة الأطفال والنوع الذي يناسبهم من التعليم، فقال: لقد أصبح العلم متدخلا في جميع مشروعاتنا وأعمالنا، بمعنى أننا لا نقدم على عمل ولا نخطو خطوة في حياتنا ما لم يكن العلم رائدنا ومرشدنا، ففي مصنع الأحذية مثلاً، نختبر الجلود ونبحثها بالطرق العلمية لنعرف مصادرها ولنرى من أي نوع هي، وهل هي من النوع الخشن أو الجيد؟ وهل كانت الحيوانات التي أخذت منها هزيلة أم سمينة؟ وغير ذلك.
فلماذا لا نتبع هذه الطريقة مع أطفالنا فنبحث بيئاتهم وعائلاتهم ونستقصي تاريخهم ونتتبع منشئهم لنرى هل من المتيسر لهم أن ينموا نمواً طبيعياً أم هم معرضون للأمراض المختلفة من جسميه واجتماعية وخلقية. إن المدرسة صنو للمصنع سواء بسواء، فمصنع الأحذية مثلاً يبدأ بالجلود وينتهي به المطاف إلى الأحذية الكاملة المتقنة، وكذلك المدرسة فإنها تبدأ بالطفل الصغير وتنتهي بالرجل الناضج الكامل العقل والتفكير. فالواجب علينا أننا مادمنا نستخدم مختلف العلوم في الصناعات، أن نفعل مع الأطفال مثل هذا حتى نأتي بالثمرة المرجوة. . . ثم قال:
مما جعلني استلقي على قفاي من الضحك، أنه في أثناء عبوري من المشتري إلى هنا، كنت أتسلى بقراءة شيء عن نظم التعليم سابقاً، فاستوقف نظري ما يسمونه نظام البكالوريا، وأن هذه الشهادة تعتبر جواز المرور لحاملها. يا للسخافة! أيجعلون الشهادات مقياساً لكفاءات المتعلمين والرجال المفكرين، إن وباء الحمى القرمزية لم يكن أكثر شراً من ذلك النظام الفاسد في تلك العصور المظلمة والعوالم المتأخرة.
إنه لابد لكل طالب في عالمنا (المشتري) من فرصة يسيح فيها عاماً كاملاً ليرى الشعوب الأخرى ويشاهد أخلاقها ويطلع على أنظمتها ويختبر طرق حياتها، وثقافة الإنسان عندنا لا تتم إلا إذ أقام بهذه السياحة واستفاد منها وعمل بما رأى فيها من خير وتجنب فيها من شر.
ثم تكلم مندوب الزهرة وأبدى عجبه من اهتمامنا بأعداد المواد وإهمالنا الطفل الذي يجب أن يكون الاهتمام به هو قبل كل شيء فقال:
إن محور التعليم عندنا ليس المواد المختلفة كالجبر والهندسة واللغات وغيرها؛ ولكن المحور الحقيقي الذي نوليه كل عنايتنا هو الطفل نفسه، فلا يهمنا أن تذهب هذه العلوم إلى حيث شاءت ولكن ليبق لنا الطفل. إن هذه المواد جميعاً قد وجدت من أجل الطفل، ولم يوجد الطفل لها. . . ثم قال:
لقد كان الباحثون في التربية قديماً، يجعلون الطفل في المنزلة الثانية بعد المواد، وما ذلك إلا لضيق تفكيرهم، حتى أن العلم الذي كان يبدي اهتماماً ظاهراً بالأطفال لا يساوي في نظرهم شيئاً. أما اليوم فإننا يجب أن نجعل الطفل في المرتبة الأولى وأن نوليه كل عنايتنا.
ثم ذكر حقيقة قد أغفلناها نحن وطال إغفالنا لها حتى كدنا ننساها كل النسيان، وذلك أننا نحمل الطفل من الدروس أكثر مما يطيق، ونعطيه من المواد فوق ما يحتمل، فإذا عجز من تحملها أضفنا إليه أعمالا أخرى فنأتي له بالمدرسين الخصوصيين ونحبسه مع كتبه في حجرة بعيدة عن الآخرين، ونضطره إلى البقاء حبيساً حتى تعتل صحته البدنية ونحتل قواه العقلية وتفسد أخلاقه، وربما أدى به الحال إلى السير في طريق الفساد والآجام دون أن يبلغ ما حبس من أجله وهو الشهادة المرجوة والنجاح المأمول.
إن الشهادة ليست بذات قيمة كبيرة ولا تستحق منا هذا الاهتمام الذي يجعلنا نسلب أولادنا صحة أبدانهم ونفقدهم عقولهم ولو كان هذا من أجل علوم الدنيا مجتمعة.
وقد قال المندوب! إننا لم نترك حجراً على حجر في هذه الناحية إلا قلبناه ونقبنا حوله، حتى أصبحنا نؤمن إيماناً كاملاً بأن نما النفس والروح لا يتم إلا على إنما الجسم - والمثل يقول العقل السليم في الجسم السليم - ويقول: أطعم الجسم العاري هواء نقياً وشمساً مشرقة، تكن بذلك قد غذيت الروح وطهرتها من الشوائب، أما لو أهملت الجسم فانك تقتل الروح وتفسدها.
ثم عرض المؤلف لكثير من أراء مندوبي كثير من الكواكب التي تخيلها قد حضرت المؤتمر لهذا الغرض النبيل، لا داعي لذكرها هنا حيث أن كل المناقشات كانت تنصب على هذه الأغراض المهمة.
والحق إن واضع الكتاب استطاع أن يصوغ آراءه الجديدة في صور هزلية واستطاع أن يضحك من نظم التعليم الفاسدة في غير تعرض لأحد أو مسا بأي دولة.
هذا كلام قبل عشرين سنة وقد ظهر فساده ولكننا نحن في مصر لا زلنا متمسكين به رغم اعترافنا بفساده وعدم ملاءمته للطرق التربوية الحديثة: فمتى يا ترى نقلع عن هذه الأخطاء ونصلح هذه المفاسد التي تضيع كثيراً من المواهب وتقبر كثيراً من العبقريات إننا نتوجه إلى القائمين بأعمال التربية والتعليم وعلى رأسهم عميد الأدب المربي الكبير معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف أن يعيدوا النظر برامج التعليم على ضوء النظريات الحديثة، والله ولي التوفيق.
عبد الموجود عبد الحافظ أسيوط