مجلة الرسالة/العدد 867/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 867/الأدب والفن في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 02 - 1950



للأستاذ عباس خضر

الثقافة، وما هي؟

يلاحظ أن معالي الدكتور طه حسين بك لم تشغله أعماله في الوزارة - على كثرتها وتعقدها - عن الوفاء بما ارتبط به من إلقاء محاضرات قبل توليته الوزارة، وقد تعددت هذه المحاضرات، وكانت أخراها محاضرة عنوانها (الثقافة، وما هي؟) ألقاها يوم الخميس الماضي بنادي الخريجين المصري، بدأ بالتعليق على ما قوبل به من تصفيق وما قدم به من ثناء، فقال: لا تصدقوا شيئاً من ذلك فأنا نفسي لا اصدقه، وما صدقت ثناء وجه إلي قط، ولم أذكر في وقت من الأوقات أبياتاً قالها أبو العلاء المعري كما أذكرها في هذه الآونة كلما رأيت تصفيقاً وهتافاً وثناءً، فقد حاصر صالح ابن مرداس مدينة المعرة وضيق عليها، فتضرع أهلها إلى أبي العلاء ليكون سفيرهم عند صالح، فرق قلبه لهم وقام بهذه السفارة على كره منه، فقبل صالح وساطته، ولكن أبا العلاء لم يعد من عنده حتى أعلن ألمه لاضطراره إلى ذلك، فقال:

تغيبت في منزلي برهة ... ستير العيوب قليل الحسد

فلما مضى العمر إلا الأقلَّ ... وحم لروحي فراق الجسد

بعثت شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد

فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد

فلا يعجبني هذا النفاق ... فكم نفقت محنة ما كسد

ثم أشار إلى حرصه على الوفاء بهذه المحاضرة رغم الشواغل وقال:

إن هذا الحديث سيتناول أطرافاً من أشياء ذكرتها وقتاً ثم نسيتها، وسيكون إلى الحديث العادي أقرب منه إلى شيء آخر. ثم آخذ في الحديث فرأيناه يعلو على كثير من المحبر.

قال: أخص ما يمتاز به هذا العصر أنه يبيح للشعوب أشياء لم تكن مباحة لها من قبل، أشياء كانت مقصورة على طائفة من الناس أولها السياسة، فقد كانت شؤون الحكم مقصورة على طبقة من السادة وقد ابتدع اليونان في العصور القديمة إشراك الشعب في السياسة، ولكن هذه البدعة لم تعمر طويلاً، لأن الإنسانية لم تكن هيئت لها، فعادت الشؤون السياسية كما كانت شيئاً محتكراً للخاصة؛ وتذكر العصر الحديث هذه البدعة فأخذ بها بعد أن وسعها ومرنها، فإذا السياسة تصبح أمراً شائعاً.

وكذلك العلم، كان شيئاً أرستقراطياً لا يطمع فيه أحد من غير الطبقية التي كانت تحتكر السياسة والعلم، وفي بيئاتنا العربية القديمة نفسها كبغداد والكوفة والقاهرة، لم يكن يباح العلم بغير حساب، كان الأستاذة يتقاضون أجراً على التعليم، فإذا حدث أن تطوع أحدهم فهو أمر نادر. كانت الإنسانية تعتقد أن العلم شيء نفيس يطلب بالجهد والمال، وكان الحكام يحببون الناس فيهم بإنشاء المدارس لا على أن التعليم حق من الحقوق التي يجب أن تؤدى وإنما هو فضل من السادة، يقصد به بعضهم وجه الله، ويقصد البعض الآخر وجه المصلحة أو وجه السياسة.

أما في العصر الحديث فلم تكد حقوق الشعب في المشاركة السياسية تشيع حتى شاعت معها حقوق الشعب في العلم أيضاً، فالعلم حق كالسياسة وهو مرفق كسائر المرافق التي تتولاها الدولة وتيسر الانتفاع بها للشعب، وهو حق للإنسان بحكم أنه إنسان كائن حي مفكر يجب أن تتاح له الفرص التي تمكنه من التفكير، كما يتاح له أن يحصل على نصيبه من الطعام والماء والهواء، وهو حق من أخطر الحقوق لأنه يقتضي تغيراً خطيراً أساسياً في الحياة الاجتماعية، إذ يشعر المتعلم بشخصيته وبحاجاته الإنسانية فيطلب حقه ويلح فيه، والإنسان يشعر بالحق أكثر مما يشعر بالواجب لأنه ميال بطبيعته إلى أن يأخذ أكثر مما يعطي؛ ومن هنا يعتبر التعليم سلاحاً خطيراً ذا حدين. يشعر الناس بالحق ويشعرهم بالواجب، فإذا لم يحسن استعماله وتغلب أحد الحدين على الآخر، صار الناس كلهم مطالبين بالحقوق، أو ضعفت شخصياتهم واستكانوا إذا أسرفوا في الشعور بالواجب.

فإذا انتشر العلم، وساد الشعور بالشخصية والمطالبة بالحقوق، تعرض النظام الاجتماعي للخطر، وهذا هو الذي يخيف بعض الناس من انتشار التعليم، ومن هنا وجب أن يكون أمر التعليم إلى الحكومات وأن تسهر الدولة على التعليم، فإذا تولاه غيرها من الهيئات والأفراد أشرفت عليها وراقبتها، متوخية في ذلك كله التوازن بين الشعور بالحق والشعور بالواجب.

ثم قال معاليه. لعلكم تلاحظون أني إلى الآن لم أتحدث في موضوع المحاضرة، وهو الثقافة، ولاشك أن الثقافة غير التعليم، ولكنه وسيلة من وسائلها، وما أكثر المتعلمين الذين يتعلمون كثيرا ويعلمون كثيراً ويعلمون كثيراً أيضاً ولكنهم ليسوا من الثقافة في شيء. الثقافة مزاج يدبر أمر العقل والقلب، مزاج يعتدل من الشعور الراقي والعقل الذكي والحس الدقيق، وهي ليست مقصورة على الكتب والعلوم وتحصيل ما فيها، وما أكثر الذين نلقاهم فينشدوننا الأشعار أو يحدثوننا بما حصلوا من العلوم، ولكنكم إذا وضعتم أحدهم أمام قطعة من الموسيقى الرائعة ضاق بها أو أخذه النوم، ومنهم من يتبحر في ناحية من العلم ولكنه يجهل سائر أنواع المعرفة والآداب فالمثقف هو الذي تكون البيئة عقله وذوقه وترهف قلبه وحسه، فيتسع أفقه وتسمو مشاعره ويحس بالجمال في مختلف مواطنه.

إذا ابتهجتم بمجانية التعليم فابتهجوا بمقدار، وطالبوا بالثقافة ويوم ترون الحكومة تهتم بالتعليم على أنه سبيل إلى الثقافة، ابتهجوا كل الابتهاج.

الهلالية والأدب الشعبي:

شهد المدرج الكبير بكلية الآداب مساء الأحد من الأسبوع الماضي، جمعاً كبيراً حضر مناقشة الرسالة الجامعية التي تقدم بها الدكتور عبد الحميد يونس لنيل إجازة الدكتوراه في الآداب من جامعة فؤاد الأول، وقد نالها بدرجة جيد جداً ولعل هذا الحشد الكبير الذي لم نر له مثيلاً في مشاهدة المناقشات الجامعية، يرجع إلى طرافة موضوع الرسالة، وهو (الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي) ومن طرافة هذا الموضوع أن الباحث اعتمد - إلى مراجعه من المؤلفات - على المنشد المحترف الذي يسميه العامة (الشاعر) وأخذ عنه واستمع إليه، وأورد صورة له كما أتى بصور الآلات الموسيقية التي يستعملها وفي مقدمتها (الربابة) مفصلا أجزاءها كما ثقفها من منشده، وأورد كذلك النوتات الموسيقية لبعض الأنغام التي عرفت بها أشعار السيرة الهلالية. وقد حضر مندوبو بعض المجلات المصورة لأخذ صورة (أبو زيد) باعتباره موضوعاً لرسالة جامعية.

بدأت جلسة المناقشة بتخليص صاحب الرسالة موضوعه، وقد أثبت أنه حقاً تلميذ (الشاعر) إذ ملك أسماع الحاضرين وجعلهم يندمجون معه في الموضوع بحسن عرضه وبراعة إلقائه وسلامة منطقه. قال إن الموضوع قد انقسم بين يديه إلى تمهيد وكتابين تناول في التمهيد الأصول التي اتبعها في بحثه وخالف بها بعض المدارس الأدبية في مصر والشرق العربي، ووصل فيها الأدب بالبيئة وعلم النفس، وتحدث عن الأدب الشعبي بنوع خاص وحاول أن يحدد دائرته، ثم عرض لمنهجه في البحث مبيناً أنه اصطنع فيه خطتين: الأولى خطة التاريخ والثانية خطة الفن. ثم استعرض الأبواب التاريخية التي يضمها الكتاب الأول على منهج جديد في التاريخ أسماه المنهج الجماعي وفرق بينه وبين المنهج الاجتماعي، وأغلب الظن أنه قصد به إلى تتبع جماعة الهلالية في نشأتها وعلاقاتها بالطبيعة من ناحية، وبالجماعات الأخرى المخالفة أو المخاصمة لها من ناحية أخرى، كما سار وإياهم في مدارج حياتهم بموطنهم الأول في جزيرة العرب ومواطنهم الجديدة في سائر ربوع العالم العربي حتى هبطوا مصر وصعدوا إلى بلاد المغرب. ولم يقف جهد الباحث عند مجرد التاريخ أو التتبع، وإنما حاول أن يفسره ليتبين المنازع النفسية التي كان الهلالية يصدرون عنها في أعمالهم مجتمعين ومتفرقين.

وانتقل في الكتاب الثاني إلى دراسة النص الأدبي على المنهج الذي عرف به صاحب البحث في النقد، فعرف بالنص الأدبي، ولخص سيرة بني هلال المشهورة على طولها وتعدد مشاهدها واختلاط البيئات واللهجات التي أثرت فيها، مفرقاً بين الأدب المدون والأدب غير المدون، وتعرض لأبحاث العلماء المستشرقين في تاريخ هذه السيرة والنصوص والروايات التي أوردها المشارقة؛ ثم تأمل السيرة نفسها ليضعها في مكانها من فنون الأدب كما وازن بين واقع التاريخ وما ورد فيها. وختم البحث بدراسة مستفيضة عن المجتمع المصري وتفاعله مع هذه السيرة الشعبية واتخذها وسيلة من وسائله في التعبير عن شخصيته، وحلل أثرها في الريف المصري وفي العاصمة المصرية، ودعا إلى العناية بالتراث المصري جملة وتفصيلاً.

وما أريد أن أتعرض لما حدث بعد ذلك في المناقشة ولا في طول الوقت الذي استغرقته، ولكن الشيء الذي لم يكن يتوقعه أحد هو أن يهم أحد حضرات الأساتذة الإجلاء بالانسحاب، لا لخلاف بينه وبين الباحث، ولكن لأن رئيس الجلسة قاطعه بعبارة عدها تدخلاً؛ وكانت هذه الحركة من الانسحاب والاعتذار والعودة هي التي أثارت حماس الجموع ونشرت جواً عصبياً على الجلسة كلها. ولم نكن نصدق ما ذاع هنا وهناك من أن خلافاً في الرأي - ولا أقول في المصالح - بين أساتذة الجامعة يلون علاقاتهم بطلابهم، ويطبع أحكامهم في العلم وفي غيره بطابع الفرقة والانقسام، حتى كان من سوء حظنا وحظ الجامعة أيضاً أن نشهد هذه المناقشة التي شهدها جمهور من طلاب ومثقفين، فقد احتدم الخلاف بين الأساتذة، وخشينا أن تنقلب المناقشة إلى معركة. . .

وقد مر ربع قرن على جامعة فؤاد الأول وهي تخرج طلاب العلم في مختلف كلياتها ومعاهدها، وجاءها علماء أوربيون وأمريكيون، وأرسلت البعثات لتنهل من العلوم في جامعات العالم القديم والجديد؛ فكان الأحرى بها والأجدر بأساتذتها أن ينقلوا ما أثبتت الأيام صلاحيته من تقاليد الجامعات الأخرى العريقة، وهم بين اثنتين، إما أن يتنازلوا عن نظام (العلنية) في مثل هذه الاختبارات العالية ويحذوا حذو الكليات العلمية العملية في الاقتصار على مراجعة البحث والباحث، وإما أن يتفقوا قبل حضور الجلسات العلنية على نظام المناقشة وتنسيقها بينهم إذا لم يستطيعوا أن يجتثوا الفرقة من نفوسهم. . .

عباس خضر