مجلة الرسالة/العدد 868/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 868/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 868
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 02 - 1950



للأستاذ عباس خضر

أنفاس محترقة:

لست أدري لم لا يلمع الآن اسم الشاعر محمود أبو الوفا، ولم لا ينال حقه من التقدير اللائق به، حتى كد ينساه من عرفه من أهل الجيل، وحتى كاد يجهله الشادون من الجيل الجديد، وهو الذي قال فيه أمير الشعراء منذ ثمانية عشر عاما:

البلبل الغرد الذي هز الربا ... وشجا الغصون وحرك الأورقا

سباق غايات البيان جرى بلا ... ساق فكيف إذا استرد الساقا

وهو نفس الذي قال ما قال ولا يزال من الشعراء ما يقوم حجة على أن الشعر ما زال حيا على رغم قابليه من قائليه. .

لقد سعدت بديوانه الجديد (أنفاس محترقة) وقضيت في روضه أوقاتا طيبة، ومما قرأت فيه رثاؤه لنفسه، إذ يقول:

في ذمة الله نفس ذات آمال ... وفي سبيل العلا هذا الدم الغالي

بذلته لم أذق في العمر واحدة ... من الهناء ولا من راحة البال

كأنني فكرة في غير بيئتها ... بدت فلم تلق فيها أي إقبال

أو أنني جئت هذا الكون عن غلط ... فضاق بي رحبه، المأهول والخالي

لست أدري لم تحترق هذه الأنفاس، ولم يضيق بصاحبها الرحب، ولم لا يأخذ هذا الشاعر مكانه من قمة الشعر العربي في هذا العصر؟

ولكنني أدري. . أنه رجل فقير أبى يضع نفسه حيث تحلق شاعريته، يمشي على عكازة ويوضع الصخر في طريقه، كما قال يخاطب فكتور هوجو:

يا صاحب البؤساء جاءك شاعر ... يشكو من الزمن اللئيم العاتي

لم يكفه أتى على عكازة ... أمشي فحط الصخر في طرقاتي

لو كان محمود أبوالوفا من ذوي النفوذ أو المال في هذا البلد، أو حتى مدير إدارة في أية وزارة، لكان أمير الشعراء. . .

والحق أنني قبل ظهور هذا الديوان لم أكن قرأت كثيرا لأبي ألوف، وإن كان القليل الذ قرأته له من قبل قد هزني، ولعل ذلك - أي قلة القراءة - يرجع إلى انزواء الشاعر في العشرين السنة الأخيرة أو إقلاله من النشر، ويبدو لي كأنه منطويا على نفسه لما لاقاه من أخلاق الناس وعنت الأيام. وهو يعبر عن مكافحته في الحياة، وبصور حياة الكفاح الشعوري التي عاشها، أقوى تعبير وأصدق تصوير كم رأيت في الأبيات المتقدمة التي رثى بها نفسه وبعدها يقول:

أبي وفي النار مثوى كل والدة ... ووالد أنجبا للبؤس أمثالي

خلفتني فوضعت الحبل في عنقي ... تشده كف دهر جد ختال

ما ضرك لو من غير صاحبة ... قضيت عمرك شأن الزاهد السالي

وهو يقول في قصيدة (قلب الفنان)

أمشي وقلبي على كفي أقول ألا ... من راغب في فؤاد صادق حاني

يحب حتى كأن الأرض ليس بها ... إلا زنابق من آس وسوسان

وليس في الأرض من بغض ولا إحن ... وليس في الأرض ظلم وطغيان

وليس من فوقها إلا سواسية ... من الصحاب ومن أخدان أخدان

فلا وربك هذا القلب ما التفتت ... عين إليه فيا للبائس العاني

وفي هذه الأبيات نرى نزعته الإنسانية الصافية، فهو على رغم ما يكابده من الحرمان والنكران يحب، متخيلا أن الأرض كلها روض جميل، وأن الناس يعيشون عليها إخوانا متحابين لا يبغي بعضهم على بعض، وهو يحب ولو أن عينا لا تلتفت إلى قلبه البائس الحاني.

ومن النزاع بين نفسه المتفتحة للحياة وبين الحياة العابسة له قوله:

أحب أضحك للدنيا فيمنعني ... أن عاقبتني على بعض ابتساماتي

هاج الجواد فعضته شكيمة ... شلت أنامل صناع الشكيمات

وهو يبتكر البكاء فيقول في آخر قصيدة (وقفة الوداع)

تعلم يا هزار الروض مني ... أنا لحن النواح ولا فخارا

غيري من يقلد حين يبكي ... ولكني أنا الباكي ابتكار

ولا تستطيع ضرورات الحياة التي يجاهد من اجلها هذا الشاعر أن تحول بينه وبين التغريد والتغني بالجمال، يقول في قصيدة (جمال مصر)

جمالك يا بنت مصر كمصر ... يجمع كل فنون الجمال

ففي مصر حلي النسيم اعتدال ... وفيك يحلى القوام اعتدال

وفيك من الشمس حسن الصقال ... وبعد المنال وبذل النوال

وفيك السهول وفيك الربا ... وعنف الشمول ولطف الشمال

تباركت يا نيل هذا جناك ... وهذي المخايل من ذي الخلال

بل حتى فيما يعبر به عن آلامه تغلب عليه روح التطلع إلى الحب والخير والجمال كما رأيت في أبياته السابقة. وهذا وذاك ومجرد قوله الشعر، يدل على أصالة هذه الشاعرية وقوة بذرتها وعمق جذورها، فهي كنبتة الصحراء تنبت قوية رغم الجفاف وحرمان التعهد، ثم تعيش رغم ما يصطلح عليها من الأنواء.

وقد أكسبه عراك الحياة والاحتكاك بالقساة من الناس الذين لا يصدرون إلا عن الأهواء والأغراض - أكسبه ذلك نفوذ بصيرة إلى دخائل النفوس، فتغلغل إليها بأداته الشاعرة، يقول تحت عنوان (جاء):

لا تلمه إن لم يعنك بجاه ... هو قد باع نفسه واقتناه

فحرام إن باعه دون ربح ... أو بشيء أقل مما اشتراه

وكم هو ظريف في قوله:

أخي قل لي ولا تخجل ... بماذا قد ترقيت؟

وما أنت بذي جاه ... وعمرك ما تزوجت!

أما بعد فما مكان هذا الشاعر بين شعراء هذا العصر، وما هي مدرسته، وما هو مذهبه؟ أسئلة يرددها النقاد ويلحون بها على الشعراء، ويطيلون النظر فيما وراءها. ولكن أبا الوفا لا يلتفت إلى شيء من ذلك، فهو يدع النقاد، عليه أن يقول وعليهم أن يسلكوا قوله فيما (يمذهبون) من المذاهب، كما كان الشعراء يقولون للنحويين: إنا نقول وعليكم أن تعربوا. وكأني بشاعرنا لا يعتد إلا بأمرين هما قوام الشعر فيما أرى:

الأول خصب الشعور وصدقه، والثاني اكتمال الأداة. وقد اجتمعا له فأنتجا ما نحسه في شعره من النبض والجمال، وحسبه أن صور حياته تصويرا يطل منه الفكر اللماح وتنبعث منه الأنغام المطربة.

إن ديوان (أنفاس محترقة) يعيد إلى الشعر اعتباره بعد أن انصرف كثير من الناس عن قراءته لكثرة هذر الشاعرين، وأنا زعيم بأن هؤلاء المنصرفين، إذا عرض لهم هذا الديوان، لن يستطيعوا عنه مصرفا.

حق المحدثين في الوضع اللغوي

عرض على مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية في جلسته الأخيرة، المقترحات التي انتهى إليها الأستاذ أحمد حسن الزيات في محاضرته التي كان ألقاها في أول انعقاد المؤتمر عن (الوضع اللغوي وحق المحدثين فيه) وقد أتيت من قبل بأهم ما دار من المناقشة بين أعضاء المؤتمر على ثر إلقائها. وقد استأنفت المناقشة في هذه الجلسة الأخيرة، فبدأها الأستاذ الزيات بالرد على ما كان قد أبداه بعض الأعضاء من الملاحظات، بين أن قرارات المجمع السابقة تناول المولد والقياس، فيبقى من المقترحات الأربعة اثنان: فتح باب الوضع للمحدثين، وإطلاق السماع من قيود الزمان والمكان، ثم قال: يخشى صديقي الدكتور أحمد أمين بك أن يكون في فتح باب الوضع على مصراعيه مقتحم للفوضى في اللغة فيكثر الترادف بتعدد الوضع، وقد احتطت أنا لذلك فجعلت الكلمة العليا للمجمع في إقرار الوضع، إذ قلت: فأيما كلمة توضع لا تدخل في متن اللغة قبل أن يسمها بميسمه ويدخلها في معجمه وإذا انتفت الفوضى بقي الحق مطلقا لكل متكلم يريد أن يعبر عن ذات أو معنى لم يوضع له لفظ من قبل. وقد توقعت من اختلاف الرأي في مدى هذا الحق، ومن تزمت قرار المجمع في استعمال المولد، أن لجنة المعجم الوسيط ستغفل ما وضعه المحدثون وما عربوه، فلما قرأت حرف الألف من هذا المعجم تحققت ما توقعته، فإن هذا الحرف قد خلا أو كاد يخلو من الأوضاع التي استحدثتها الحضارة واقتضتها الصناعة والزراعة. وأتى الأستاذ بأمثلة كثيرة لذلك، منها أنه ذكر في مادة أبر: إبرة الخياطة ولم تذكر إبرة الحياكة ولا إبرة المحقن ولا إبرة البندقية، وذكرت الاسطوانة للسارية المبنية ولم تذكر الاسطوانة التي يسجل عليها الصوت، وذكرت الآنسة بمعناها القديم ولم تذكر بمعناها الجديد وهي الفتاة البكر، وفي مادة أنف لم تذكر محكمة الاستئناف، إلى أن قال: وهناك غير ذلك كثير من ألفاظ الصناع والزراع أغفلها المعجم وفي يقيني أن المعجم الوسيط وهو أكثر معاجم المجمع دورانا بين الناس لا يغني عن اللغة شيئا إذا أنغض رأسه هو أيضاً للأوضاع الجديدة.

ثم رد الأستاذ الزيات على ملاحظات لمعالي الأستاذ الشبيبي، ومن هذا الرد قوله - فهم معالي الأستاذ من الأمر الرابع وهو إطلاق المسماع من قيود الزمان والمكان أني اقصد المسموع من المعرب وقال إن علماء اللغة الأقدمين قد وضعوا قواعد للتعريب ولم يطلقوه إطلاقا، والذي قصدته من إطلاق السماع إلا يظل مقصورا على ما سمع من العرب الذين جعلوا لهم حق الوضع والتعريب وإنما يجب أن يقبل من المحدثين أيضا، فكما قبلوا من المتقدمين أن يقولوا أيفع الكلام فهو يافع والقياس موفع، وغلام أموي بالفتح والقياس الضم، نقبل نحن كذلك من المتأخرين أن يقولوا مطار الماظة وكان القياس أن يقولوا مطير، وأن يقولوا متحف الحضارة وكان القياس أن يقولوا متحف بالضم، وأن يقولوا مقهى بالفتح وكان القياس، يقولوا مقهى بالضم. فإنا لنكلف الناس شططا إذا أردناهم على أن يعودوا فيقولوا مطير ومتحف ومقهى.

وقد دارت المناقشة بعد هذا البيان، فقال الأستاذ أحمد العوامري بك - فهمت من كلام الأستاذ الزيات أنه يوصي بأن نأخذ من الصناع وأصحاب الحرف الأسماء التي يطلقونها على آلاتهم وأدواتهم دون أن نناقشها ونلتمس وجه الصواب فيها فعندهم أسماء يطلقونها على أجزاء السيارة منها ما يمكن أن يرد إلى ألفاظ عربية، ومنها ما لا يمكن أن يرد، فأما ما يمكن توجيهه فلا أخالف الأستاذ في قبوله، وأما ما خالف قياس العربية فلا يمكن أن نقبله ونثبته في معاجمنا، وعندنا مثلا كلمة مطار فالعامة وجمهور المثقفين يستعملونها وقد بحثتها ووجدت لها وجها في العربية، ولذا لا أمانع في استعمالها بدلا من كلمة مطير التي لم تجر على الألسنة وعندنا كلمة متحف بضم الميم، وقد شاع على الألسن نطقها بالفتح وهو خطأ، فهل نعترف بهذا الخطأ وندخله في معاجمنا؟

قال الأستاذ فريد أبو حديد بك - لماذا لا نقول متحف بفتح الميم؟ أليس في العربية (محجر) اسم للمكان الذي تكثر فيه الحجارة؟ ولنا أن نقيس من الجامد كما نقيس من المشتق فنسمي المكان الذي يضم تحفا كثيرة متحفا بفتح الميم.

وقال الأستاذ الزيات - بعض الكلمات التي ليس لها اصل عربي معروف مثل (الرابوب) وهي الفأرة الكبيرة التي يستعملها النجار ومثل هذه الكلمات يجب أن تدخ المعجم.

وقد تفرعت المناقشة إلى نقط أخرى، ثم وافق المؤتمر على إحالة مقترحات الأستاذ الزيات إلى مجلس المجمع لنطرحها فيه في متسع من الوقت.