مجلة الرسالة/العدد 87/السر الموزع

مجلة الرسالة/العدد 87/السر الموزع

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1935



للآنسة النابغة (مي)

وسط الهرج الذي يحدثُ عادةً عند انفضاض مجلسٍ من المجالس تناثر الزائرون في الردهة يهمون بالانصراف مودعين أهل الدار وشاكرين لهم حفاوتهم، متبادلين مع هؤلاء وأولئك التحية والمصافحة، متواعدين فيما بينهم على الاجتماع في فرصةٍ قريبة

أما ذلك الفتى فمضي يتسلل خلسةً، هرباً من كل شخصٍ خطر وللتملص منهم جميعاً: (والشخص الخطر) في تلك الحال هو أي شخص قد يشتبك معهُ في حديث ويصحبهُ إلى الخارج، إنه يحتاج إلى الوحدة لا يعكر عليه صفاءها أحد، لأنه في تلك الحالة النفسية التي تبدو فيها الحياةُ طريفةً وتبدوا فيها الخليقةُ وكأنها خرجت الساعة من يدِ الباري غضةً جديدة

خرج إلى الرصيف وجال نظرهُ يبحثُ بين الناس والسيارات فاستقرت عيناه على خمس فتيات من اللائي حضرن الاجتماع، وقد أحطن بسيارة كبيرة أخذن يتوارين في داخلها الواحدة بعد الأخرى، فكانت الأخيرة في التواري صاحبة الثوب ذي الزرقة (الكهربائية). فجهد الفتى ليرى منها جميع حركاتها فرأى فيما رأى أنها التفتت إلى الوراء، شأن من يبحث عن شيءٍ أو شخص. وسرعان ما لمحتْ رأسه والتفت عيناها بعينه عن بعد. فأدركت أن نظره يتبعها ويرقبها، وأدرك هو أنها تأخرت والتفتت لتبحث عنه. فما إن تلاقي نظراهما وفاجأهما ذلك الإدراك حتى أعرض كلٌ منهما على عجل كأنما هو يخجل بانكشاف أمره. وعندما تحركت السيارة مندفعة إلى الأمام أرسل الفتى نظره يشيعها في حرية واطمئنان

- هأنذا! انتظرني أم تبحث عني؟

لقد وقع ما كان يخشاه، ولحق به زميل لم يكن ليتحاشى مصاحبته أو ينفر من حديثه عادة. ولكن الآن. . .

- هيا بنا إلى جروبي!

فتلكأ الشاب قليلاً وقال: - إني على موعد

- أي موعد؟ ألم نتفق عندما جئنا هذه الدار على موافاة أصحابنا عند جروبي بعد الخروج من هنا؟

- آه. . . نسيت!

- أنسيت الموعد أم نسيت اتفاقنا؟

- نسيت الموعد. . .

- نسيت الموعد فلم تذكره إلا على الرصيف. . . إذا أوصلك بسيارتي إلى المكان الذي تقصد إليه، ثم أسبقك إلى جروبي حيث توافينا بعدئذٍ

رأى الفتى أن لا مفر من المقدور , ولو نجح في التفلت من صاحبه هذا فليس مضموناً أن يتفلت من غيره في مكان آخر.

فتراخت عزيمته واستسلم:

- الواقع أن الموعد اختياري يمكن تأجيله. هيا إلى جروبي

أما الفتيات الخمس فقد سارت بهن السيارة إلى ناحية الجزيرة وهن يتحدثن جميعاً في آن واحد وليس بينهن من تصغي. وعلامَ الإصغاء؟ المهم هو الكلام. وقد سرت الفتيات بتلاقيهن في هذا الاجتماع، وسررن باتفاق والدتهن بعده على الهاب معاً لتأدية فروض التعزية في بعض البيوت، فاتفقن فيما بينهن على ركوب سيارة إحداهن التي تعهدت بأن (توزع) صاحباتها على بيوتهن مجاناً لوجه الله الكريم وبدون (أكسيدان). وثم فرصة مواتية لتبادل الآراء وإبداء الملاحظات على حفلة الاستقبال وعلى الذين حضروها، إذا تيسر شيء من ذلك عند ما يأبين جميعاً احتمال فريضة السكوت. . . بيد أنهن سكتن فجأة عندما أنشأت إحداهن تنتقد هندام السيدات وتبرجهن وذوقهن وجمالهن. هذا حديث لذيذ حقاً، يوافقن عليه ويؤيدنه وإن كن في قلوبهن مقتنعات بعكس ما يقال. وإذ توغل النقد فأمسى لاذعاً، طربن طرباً ورنت ضحكاتهن بريئة، في نظرهن على الأقل. ونادت إحداهن صاحبة الثوب الأزرق قائلة: ألا تشاركينا في الضحك؟ ألا تسمعين؟

- أنا اتخذت لي محلاً مختاراً قرب (الشوفير) ولذلك أصبحتُ مسؤولة عن سلامتكن، وعلى أن أظل هادئة لئلا يحدث لنا (أكسيدان)

- بعد الشر! إذا تحتم (الأكسيدان) فليكن بعد وصولي إلى البيت سالمة. وها قد وصلنا والحمد لله! فتستطيعين الآن أن تستبدلي بمكانك مكاني داخل السيارة وبعد وقوف السيرة ونزول الفتاة التي كانت تتكلم، حدثت مناقشةٌ لإقناع جارة السواق بتغيير مكانها ,. فأبت مؤكدة أنها هنا على ما يرام، وأنها تريد حراستهن إلى النهاية. واستأنفت السيارةُ السير والفتيات يضحكن من جارة السواق لأنها (كونسرفاتريس) وينصحن لها بأن تلبس العمامة للاندماج في هيئة كبار العلماء في الأزهر

كانت صاحبة الثوب الأزرق تسمع لغوهن ولا تعي معناه. إنها بعيدة عنهن وعن العالم بما فيه ومن فيه، بعيدة عن النيل الذي يجري تحتها، عن سحر الجزيرة المنتشر حواليها، عن جمال الغروب وقد تمازج فيه انهزام النور واقتحام الظلام. لقد حدث في ذلك الاجتماع شيء مدهش قلب الدنيا رأساً على عقب. وهو بعدُ شيء بسيط يكاد يكون عادياً، وكأنها تنتظره على غير معرفة منها

اتفق أن فتى كان على مقربةٍ منها في ذلك الصالون، فصنع لها مثل ما صنع لغيرها، ومثل ما يصنع كل رجل له ولو بعض الإلمام بآداب الاجتماع. كانت فتاةُ الدار تبذلُ جهدها مع معاونيها ومعاوناتها لإرضاء الضيوف وقد تعبت كثيراً في القيام بمهمتها. فسارع ذلك الفتى إلى مساعدتها فجر أمام صاحبة الثوب الأزرق طاولة صغيرة وضع عليها قدح الشاي وجال يقدم ما يصحب الشاي من قطع الحلوى الصغيرة الجافة. فتناولت صاحبةُ الثوب الأزرق قطعةً ورفعت ببصرها إليه في ابتسام، وقالت: (مرسي). وكان عليها أن ترد بنظرها في الحال إلى جارتها التي كانت تتحدث حديثاً طويلاً. ولكنها لم ترد نظرها ولم تخفضه. لأن نظره سار رسولاً إلى أعماق عينها، إلى أعماق جوانحها، إلى أعماق كيانها، فاهتدى هناك إلى شيء كان يلبه، ولم تدر هي ماهيته. وكان وجهه جاداً ونظره جاداً، شأن الرجل عندما ينبه إلى أمرٍ هام

فجمدت الابتسامة على شفتيها، وكأن السر الذي وجده فيها يسأل السر الذي بعث به نظره: (ماذا؟) فخيل إليها أن سره يجيب: (أردت أن أنبهك فقط. . . لأنك نبهتني وأنتِ لا تعلمين)

لحظة لا غير، لحظة لم ينتبه إليها أحدُ من المحيطين بها، ولكنها كانت طويلةً مليئة كالدهور. وتكررت تلك اللحظة عندما التفتت في الشارع فلمحته يشيعها، وشعرت بالسر مقبلاً من نظره البعيد، يتوغل في كيانها من جيد. وفي هذا المساء الجميل المتهادي في رفقٍ على هذه الشواطئ الفتانة، هي لا تعي شيئاً ولا ترى أحداً. الوجود كله تلخص في ذلك النظر وفي السر الذي يحتويه. على صفحة الماء المائجة نظرٌ مليء بالسر. في الفضاء حولها نظر مليء بالسر. في الغصون المتشابكة نظرُ مليء بالسر. في الأبعاد المترامية، في ألوان الشفق، في هبوب النسيم، وبخاصة في صميم كيانها نظرٌ مليء بالسر يهمس: أردت أن أنبهك. . . .

- ألهُ مثل هذا النظر مع سائر النساء؟

هرولت السيارةُ في شارع الجيزة ولوت متحولة إلى ناحية الروضة لتعود إلى المدينة من شارع القصر العيني. وطول الطريق على صفحة الماء، في امتداد السبل، في رؤوس الأشجار، في المركبات والسيارات، في أشباح السابلة، في واجهات المخازن، في مصابيح الشوراع، في كل مكان لم يكن هناك إلا ذلك النظر الواحد وسره المكنون

- أهذه طريقته في النظر إلى النساء؟

ووقفت السيارة فنزلت صاحبة الثوب الأزرق مودعة صويحباتها، وكأنها تتكلم وتتحرك مرغمةً. ودخلت مخدعها، فإذا بالنظر ينتظرها هناك، مع أنها لم تتخيل وجوده عندما غادرت هذا المكان قبل ثلاث ساعات

دنت من مرآتها تتعرف فيها هيئتها فرسمت لمها المرآةُ وجههُ لا وجهها، وأقبل النظر يتسرب إلى كيانها مع سره. فتأملتهً ملياً وسألت:

- ألك مثل هذه النظرة مع غيري؟

فلم تسمع لا من النظر ولا من نفسها الجواب

أطالت التحديق في المرآة، وقالت تخاطبهُ: - أين أنت الآن؟ كيف تجري حياتك؟ كيف تجري حياتك كل يوم؟ ماذا أنت صانع بنظرك في هذه الدقيقة؟

في تلك الدقيقة كان الفتى بين أصحابه عند جروبي، وقد رفع كأس الوسكي إلى شفتيه ناظراً بعينين ناعستين إلى الغادة الجالسة قربهُ في ثوب عاجي، وقائلاً ببطء:

- أشربُ (سركِ)

(مي)