مجلة الرسالة/العدد 870/رؤيا مرزا

مجلة الرسالة/العدد 870/رؤيا مرزا

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1950



للكاتب الإنجليزي يوسف أديسون

بقلم الآنسة ماهرة النقشبندي

حينما كنت في مدينة القاهرة العظيمة وقع في يدي عدد من المخطوطات الشرقية التي لا يزال بعضها معي، ووجدت من بينها واحدة عنوانها رؤيا ميرزا، بعثت قراءتها في نفسي سروراً لأحد له. وقد عزمت على نشرها للقراء عندما لا أجد ما أسلبهم به وسأبدأ بالحلم الأول الذي ترجمته بالحرف الواحد كما يلي:

عندما حل اليوم الخامس من الشهر القمري الذي لا أزال أقدسه كعادة أجدادي، اغتسلت وصليت الصبح ثم تسلقت تلال بغداد لأقضي سحابة اليوم في التأمل والتعبد. وبينما كنت أتنزه على قمم الجبال، رحت في شرود، أفكر في تفاهة الحياة البشرية، وتنازعتني الفكر، وقلبت الأمور على وجوهها فلم أجد الإنسان إلا ظلا ولا الحياة إلا حلماً طويلاً. وبينما أنا في تأملي وقد سرحت النظر إلى قمة صخرة لا تبعد عني كثيرا، رأيت رجلاً في ثياب راع يحمل في يده آلة موسيقية رفعها إلى شفتيه وبدأ يعزف عليها حينما نظرت إليه. كانت الأنغام رائعة شجية مختلفة الإيقاع تنساب في رفق ولين وعذوبة لا توصف وكانت عن كل ما سمعته إذناي من موسيقى، وذكرتني بالأنغام السماوية التي لا تعزف إلا للأرواح الصالحة عند رحلتها الأولى إلى الفردوس لتنسيها آلام النزع الأخير وتعدها للسعادة التي تنتظرها في ذلك المكان البهيج. فأحسست كأن قلبي يذوب وكأنني أفني في ذهول خفي.

لقد كنت أعلم أن هذه الصخرة يسكنها جني، وإن بعضهم قد أطربته موسيقاه الساحرة، غير أنني لم أسمع أب العازف قد ظهر للعيان. وفيما أنا ذاهل عن نفسي بما آثرت هذه الأنغام الشجية في رأسي من أفكار، ولكي يتيح لي لذة محادثته أشار إلى بيده حينما نظرت إليه مشدوداً لأقترب من مجلسه، فدنوت منه باحترام يليق بمكانه كائن غير بشر. ولما كانت أنغامه الشجية قد أخضعت قلبي بكليته فقد ركعت على قدميه أنتحب. فابتسم لي بسمة يشع منها اللطف والحنان جعلته قريباً إلى نفسي، غير مخيف لناظري، وطري ما اعتراني من خوف وفزع عند قدومي إليه. وأخذ بيدي ورفعني عن الأرض قائلاً: ميرزا! لقد سمعتك وأنت تناجي نفسك فاتبعني. وقادني بعد إذ إلى نقطة في الصخرة وأوقفني فيها وقال: ألق بنظرك إلى الشرق واخبرني ماذا ترى؟ قلت: أرى وادياً عظيماً يمر فيه تيار هائل من الماء. قال، ' ن هذا الوادي هو جزء من تيار الأبدية العظيم. فسألته ما السبب في إن التيار الذي أراه ينبع من ضباب كثيف من طرف، ثم يتلاشى في ضباب كثيف في الطرف الآخر؟ قال؟ إن ما تشاهده هو ذلك القسم من الأبدية الذي ندعو بالزمن ونقيسه بواسطة الشمس، ويمتد من بداية الدنيا إلى نهايتها. حدق الآن في هذا البحر الذي تكتنفه الظلمات من جميع جهاته وأخبرني هما تجد فيه. . إنني أرى جسراً في منتصف التيار. قال: إن هذا الجسر الذي تراه هو حياة البشر، فإنظر إليه جيداً. وبعد إعادة النظر الدقيق وحدته مؤلفاً من ستين دعامة وعشر أخرى منفردة وبعض الدعامات المخربة التي إذا أضفناها إلى تلك تجعل المجموع يربي على المائة. وفيما كنت أحصي الدعامات أخبرني الجني أن الجسر كان مؤلفاً في البداية من ألف دعامة، ولكن فيضاناً مدمراً جرفها وترك الجسر في حالة الخراب التي تراها. فسألني عما أجد فوقه فقلت: أرى جمهوراً من الناس يمرون عليه وأرى سحابتين سوداوين معلقتين فوق نهايته. وبع أن أعدت النظر ثانية رأيت بعض السائرين يسقطون من الجسر إلى التيار الهائل الذي تدفق في أسفله. وبعد كثير من الفحص والتدقيق لاحظت مزالق لا تعد وضعت في الجسر بصورة خفية، وحينما يطأها المارون يسقطون منها إلى التيار فيبتلعهم حالاً ويختفون. وكانت هذه الفتحات الخفية واسعة عند مدخل الجسر بحيث أن كثيراً من الناس كانوا يسقطون فيها حال خروجهم من الغيوم. وتأخذ في الضيق عند منتصفه ولكنها تتضاعف وتقترب من بعضها عند اقترابها من نهاية الدعامات المنفردة. لقد وجدت أن عددا قليلاً جداً من الناس هم الذين استطاعوا الاستمرار في سيرهم نحو الأعمدة المخربة ثم سقطوا تباعاً منهوكي القوى متعبين من ذلك السير الطويل.

وقضيت بعض الوقت في تأمل ذلك البناء العجيب وما بان فيه من مواضع مختلفة غريبة. وقد ملأ قلبي الأسى لرؤية بعضهم يسقطون على حين غرة وهم في أوج السعادة والمرح فيتشبثون بكل ما تقع عليه أيديهم لإنقاذ أنفسهم.

وكان بعضهم ينظر إلى السماوات غارقاً في تفكير عميق، وفي خلال تلك التأملات والذهول يتعثر ويسقط ثم يتوارى عن النظر.

وكانت الجماهير منهمكة في اللحاق بالدمى التي كانت تشع بالنور في عيونهم وترقص أمامهم، وعند ما يحسبون أنهم بالغوها تزل أقدامهم فيقعون في العمق غارقين. وبين هذه الأشياء المحيرة لاحظت إن بعضهم يحملون سيوفاً وآخرين يحملون مباول وهم يروحون ويجيئون فوق الجسر يدفعون بعض الناس خلال المزالق التي لا تبدو واضحة في طريقهم والتي قد ينجون منها لو لم يدفعوا إليها قسراً.

ولما رأى أنني منهمك في تتبع هذا المنظر المحزن أخبرني أنني قد تأملت طويلاً وقال: حول عينيك عن الجسر واسألني عن الشيء الذي لم تدركه. فسألته وأنا مصوب نظري إلى العلاء عما تعني تلك المجموعة من الطيور التي تحوَّم بصورة مستمرة فوق الجسر وتقف عليه من حين إلى آخر؟ إنني أرى نسوراً وعقباناً وغرباناً، وكثيراً من المخلوقات المجنحة، أرى بينها صبياناً مجنحين يجثمون مزدحمين في وسط الأعمدة. قال الجني: هؤلاء هم الحسد والطمع والخرافات واليأس والحب وما شابهها من المطامع والآلام التي تفيض بها حياة البشر.

وند عن صدري تنهد عميق وقلت: يا للأسف! لقد خلق الإنسان سدى. يدفع للشقاء ثم للفناء. يعان يفي حياته المضنية الآلام الجسام ثم ينقض عليه الموت ويزدرده، لقد تحركت الرأفة في قلب الجني فأمرني أن أترك هذا المنظر المؤلم قائلاً كف عن النظر إلى الإنسان في أول مرحلة وجوده ومسيره إلى الأبدية، وسرح طرفك في ذلك الضباب الكثيف الذي يحمل التيار إليه الأجيال الفانية، فنقلت بصري إلى حيث أمرني (ولا أدري هل كان الجني الطيب قد بعث فيه قوة فوق العادة أو أزاح قسماً من الضباب الذي كان يبدو أولاً شديد الكثافة حتى لا تستطيع العين اختراقه).

رأيت الوادي ينفتح من نهاية القصية إلى محيط عظيم في وسط صخرة من الناس تقسمه قسمين متساويين، ولا تزال السحب تغطي نصفاً منه بصورة لم تدعني أكتشف شيئاً منه. أما النصف الثاني فكان يبدو جلياً كمحيط كبير تناثرت فيه جزائر لا يبلغها المد مزروعة بالفواكه والرياحين يفصلها عن بعضها آلاف من البحار الصغيرة المتلألئة. وكان في استطاعتي أن أرى أناساً عليهم ثياباً من سندس وإستبرق تزين رؤوسهم الأكاليل يتريضون خلال الأشجار ويتمددون عند المنابع الصافية أو يستريحون إلى فراش من الأزاهير.

وسمعت أنغاما ساحرة مشوشة من تغريد الطيور وخرير المياه وأصوات بشرية وآلات موسيقية. فملأ هذا المنظر البهيج روحي بالسعادة ونفسي بالأمل وتمنيت لو كان جناحا نسر لأطير إلى هذا الوادي السعيد؛ ولكن الجني أنبأني أن الطريق الوحيد إليه طريق الموت الذي كنت أراه يفتح في كل لحظة فوق الجسر. واستطرد قائلاً ' ن خلف هذه الجزر التي تبدو لعينيك نقية خضراء نملأ وجه المحيط بعددها الذي يفوق ذرات الرمل على ساحل البحر، تمتد عشرات الآلاف من الجزائر حيث لا يدركه نظرك أو تتصوره مخيلتك تلك هي مساكن الصالحين بعد الموت يحلون بها تسربلهم السعادة السرمدية ويحف بهم السرور الدائم كل حسب ما قدم وأخر وما امتاز به من فضيلة ومنزلة وهم موزعون على الجزائر التي تعمها المسرات المتنوعة موافقة حسب ما يشاءون وما يلذ لهم لإتمام هناءتهم فيها. وكل جزيرة فردوس أعد للأبرار الأطهار من بني البشر. فهلا تستحق هذه المساكن يا ميرزا النضال لفوز بها؟ وهل تبدو الحياة مفعمة بالتعاسة وهي تعطي هذه الفرص لنيل مكافئة كهذه؟ وهل الموت مخيف وهو الذي يحملك إلى هذه الحياة الطليقة التي لا يعكر صفوها كدر؟ فلا تحسب إن الإنسان خلق سدى، وفي انتظاره تلك الحياة السرمدية. وحملقت بتلك الجزر وقلبي مفعم بسعادة لا يحدها حد. وأخيراً رجوته أن يكشف لي عن السر الذي يكمن خلف الغيوم التي تحجب الطرف الآخر من صخرة الماس.

فلم يجبني الجني فالتفت بعد لحظة إليه لأكلمه فلم أجده؛ واستدرت إلى المنظر الذي تأملته ذلك الوقت الطويل فرأيت بدلا ًمن التيار الموار وأعمدة الجسر والجزر السعيدة وادي بغدات العريض تمر فيه الثيران وقطعان الغنم والجمال ترعى الكلأ في دعة وأطمئنان.

ماهرة النقشبندي