مجلة الرسالة/العدد 871/عدو الشعب الجاشنكير
مجلة الرسالة/العدد 871/عدو الشعب الجاشنكير
للأستاذ عطية الشيخ
علية
ما احسن قول المنفلوطي في المصلحين: (إنهم أنصار الخير والشر أنصار اشد منهم قوة، واكثر عدة عدداً، وهم دائماً هدف لغضب الملوك، لأنهم يثيرون ثائرة الشعوب عليهم؛ وغضب النبلاء لأنهم يحتقرون نبلهم؛ ويزدرون مجدهم وعظمتهم؛ وغضب الكهنة، لأنهم ينمون عليهم رياءهم وكذبهم؛ وغضب العامة؛ لأنهم يصادرون أهوائهم وشهواتهم، أي أن العالم كله حرب عليهم من أدناه إلى أقضاهن وقلما تنتهي حياتهم إلا بمثل ما انتهت به سقراط الحكيم وهومير الشاعر وأفلاطون الفيلسوف من قتل أو صلب أو حبس أو تشريد، ولا ذنب لهم إلا انهم احبوا البشر، وعطفوا عليه، وتألموا لألمه، وبكوا لبكائه. . .)
أقول هذا وأنا أتذكر مأساة بيبرس الجاشنكير، ذلك الملك الذي يقول فيه المؤرخون: (كان ثابتاً كثير السكون والوقار، جميل الصفات، ندب إلى المهمات مراراً عديدة، وتكلم في أمر الدولة مدة سنين، وحسنت سيرته، وكان يرجع إلى دين وخير ومعروف، وله أوقاف إلى وجوه البر والصدقة) ولا تزال بعض المدارس والآثار في القاهرة تحمل اسمه إلى اليوم، واصله من مماليك المنصور قلاوون، ثم صار في أيامه من أعيان الأمراء، وترقى بعده حتى صار أمير القاهرة ثم استدارا، وقد أشار باستدعاء الناصر بن قلاوون للسلطنة بعد قتل الملك المنصور لاجين، فكافأه المنصور بأن اقره استدارا على عادته، فأتفق مع نائب السلطنة سلار، وأخذا في تدبير الملك بهمة ونشاط كفيلين للملكة، وكان بيبرس مخلصاً جداً للملك الناصر، وفاء لأبيه الملك المنصور قلاوون الذي كان أستاذه وسيدهن ولكن بطانة السوء، أوغرت قلبه عليه حسداً وبغضاء ولم تكتف بإثارة الملك حتى أثارت الشعب
وليت شعري لم يولع اللثام بمحاربة الكرام ويحسدونهم، ويتربصون بهم الدوائر، ويقعدون لهم كل مرصد ولا يتركون فرصة إلا افترضوها، ولا فرية إلا دبجوها، ولا نار فتنة إلا اشعلوها، ويا ليت شعري لم يحتضن الرؤساء دائماً الأخساء الدساسين، يقربونهم، ويرفعون شأنهم؟ أما يعلمون أن الضعيف لا يكون مخلصاً ابداً، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً؟ ومن العجيب إن اكثر الحكم والأقاصيص قليت في الوقيعة والنميمة والوشاية والدس، ولكن كم آذان لا تسمع، وقلوب لا تتعظ وليس كابن آدم يلدغ من الجحر سبعين مرة لا مرتين.
في سنة 700 هـ وصل إلى القاهرة وزير ملك المغرب في طريقه إلى الحج، واجتمع بالسلطان الناصر وبالأمير بيبرس الجاشنكير وبالأمير سالار نائب السلطنة، فأكرموه وأنعموا عليه وعظموه غاية التعظيم. وفي بعض الأيام جلس الوزير المغربي بباب القلعة مع بيبرس، وحضر بعض كتاب النصارى، فتوهم المغربي بباب القلعة مع بيبرس، وحضر بعض كتاب النصارى، فتوهم المغربي بأنه مسلم، فقام إليه مسلماً معظماً، ولما علم أنه نصراني قامت قيامته وهاج هائجه، ودخل على السلطان مع بيبرس وتحدث في أمر اليهود والنصارى، وانهم في بلاد المغرب غاية الذل والهوان (لا يركبون الخيل، ولا يستخدمون في الدولة) أنكر على المصريين سماحهم للنصارى واليهود بلبس الثياب الفاخرة، ركوب الخيل، واستخدامهم في أكبر المناصب وتحكيمهم في رقاب المسلمين. واكثر من الكرم في هذا الباب، وذكر أن عهد ذمتهم قد انتهى سنة 600 هـ، وقد أثر كلامه في السلطان والأمراء ولكن لم يأخذ أحد على عاتقه تنفيذ ما أشار به المغربي إلا بيبرس، لانه كان أكثرهم تديناً، فجمع النصارى واليهود، أعلنهم انهم لن يستخدموا في الجهات السلطانية، ولا عند الامراء، وكلفهم باختيار عمائم تخالف عمائم المسلمين، فلبس النصارى عمائم زرقاء، ويشدون زنانيرهم في أوساطهم، ويلبس اليهود عمائم صفراء وحدد بالتنفيذ (22 رجب سنة 700 هـ) للظهور بزيهم الجديد. وقد عرضوا على بيبرس (الأموال الكثيرة الخارجة عن الحد ليعفوا من ذلك فلم يقبل) فنفذوا الأمر في الميعاد مرغمين، في جميع بلاد المملكة من دنقلة إلى الفرات، والى هذا الحادث يشير الوداعي بقوله:
لقد ألزموا الكفار شاشات ذله ... تزيدهم من لعنة الله تشويشا
فقلت لهم ما ألبسوكم عمائم ... ولكنهم قد ألبسوكم براطيشا
ويقول شمس الدين الطيبي:
تعجبوا للنصارى واليهود معاً ... والسامريين لما عمموا خرقا
كأنما بات بالأصباغ منسهلاً ... نسر السمار فأضحى فوقهم ذرقا
سرت في الشعب موجة حماس ديني، واجب السلطان بحمية الجاشنكير وأنعم عليه بدخل الإسكندرية مدة مقامه فيها للرياضة والنزهة، وأراد بيبرس إن يتخذ يداً أخرى عند المسلمين فأمر في 702 بأبطال عيد الشهيد بمصر، وكان عند النصارى تابوت فيه إصبع، يزعمون أنه من أصابع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يرم فيه هذا التابوت؛ فكان النصارى يجتمعون من سائر النواحي إلى شبرا في 8 بشنس من كل سنة قبطية، ويحتفلون بهذا العيد (وكانت تثور فيه فتن وتقتل خلائق) وترتكب موبقات، وتستباح الحرمات، ويكثر اللهو والفجور، حتى قيل أن تاجراً واحداً باع خمراً في هذا العيد باثني عشر ألف درهماً. وقد شق أبطال هذا العيد على النصارى، وظاهرهم الأقباط اللذين اظهروا الإسلام وذهبوا إلى بيبرس وعرضوا عليه أموالا كثيرا، وخوفوه من عدم طلوع النيل، فلم يلتفت لكلامهم، وابطل هذا العيد إلى يومنا هذا.
في سنة 703 وصل إلى دمشق رجل من بلاد التتار يقال له الشيخ براق روي عنه حوادث خارقة للعادة، ومعه نحو مائة فقير لهم هيئة عجيبة، وعلى رأسهم قلانس لباد مقصوص فوقها عمائم، فيها قرون من لباد تشبه قرون الجواميس وأجراس، ولحاهم محلقة، وشواربهم مرسلة، ولبسهم لبابيد بيض، وقد تقلدوا بحبال منظومة بكعاب البقر، وكل منهم مكسور الثنية العليا، وشيخهم جريء مقدام قوي النفس له محتسب يؤدب كل من يترك شيئا من سنته. وكان غازان ملك التتار يحترمه ويجله، ولكن بيبرس رأى في سنة الرجل مخالفة لسنة الإسلام، فطلب من السلطان منعه من الديار المصرية فرجع إلى بلاده وفيه يقول سراج الدين الوراق:
جتنا عجم من جو الروم ... صور تحير فيها الأفكار
لها قرون مثل الثيران ... إبليس يصيح فيهم زنهار
كان قد وقع بالقاهرة زلزال عظيم سنة 702 دمر كثيراً من المساجد والمدارس فاخذ بيبرس يصلح ما تهدم ويجدد ما تقوض، ولم يكد ينتهي من إصلاح ما أفسده الزلزال حتى بدأ في سنة 706 ينشئ الخانقاه الركنية، التي لا تزال إلى اليوم بشارع الجمالية بالقاهرة، وتعرف باسم شارع بيبرس، وقد ذكرها المقريزي في خططه (ص 416 ج 2) فقال: (هي أجل خانقاه بالقاهرة بنياناً، وأوسعها مقداراً، وأتقنها صنعة (وقرر بها 400 صوفي وبنى بجانبها رباطاً كبيراً لمائة جندي مرابط ولمن أخنى عليه الدهر من كرام الناس، وبنى في الجانب الآخر من الخانقاه قبة لقبره، رتب فيها درسا للحديث النبوي، وجهز الخانقاه بمطبخ يعد طعاماً للنازلين (من الخبز واللحم والحلوى كل يوم (وقد تم بناؤها سنة 709 هـ
كان الجاشنكير حي الضمير، متأجج العاطفة الدينية راسخ العقيدة، شديد الخوف من الله، لذلك كان يدقق تدقيقاً عمرياً في مصرف كل درهم من دراهم بيت المال، حتى كان يحاسب السلطان نفسه على كل شيء، ويمنع عن القصور السلطانية ما يرى فيه إسرافا وتبذيراً، وكان من الممكن أن يرضى السلطان بهذا لعله إن الدافع إليه شريف، وإن القائم به من أخلص إليه، وهو الذي استدعاه إلى كرسي الملك، ولا يزيد عن كونه مملوك أبيه، وأن الأمين على مال الدولة إذا عفت يده وطهرت سرت الطهارة في جميع مرافق الدولة ودواوين الحكومة، وامتلأت الخزائن وزكت النفوس، وثبتت دعائم الدولة، وخمدت بواعث الفتن، وفشا الرخاء في الأمة وأمكن الإصلاح، وكل أولئك من عومل تثبيت الملك، وصيانة العرش، واتساع العمران في الدولة.
لكن هل يهم ذلك في شيء بطانة السوء التي تظهر للسلطان ما يحب، وتضمر ما يكره، وتريد أن تشبع ولو جاع الشعب، وتملأ خزائنها ولو خوي بيت المال، ولا تعيش إلا إذا أبعدت السلطان عن شعبه والمخلصين له، ونشرت جواً من الإرهاب يشغل كل امرئ عن نفسه، وقد اتفقت بطانة السوء عند الناصر، والحاسدون بيبرس الجاشنكير على ما وصل إليه عند الشعب من مركز ممتاز، ومكانة عالية، ومقام رفيع، والمرتزقة الذين يلتقطون الفتات، ويتصيدون الفضلات ويعيشون عيالاً على مال الأمة، واللصوص والمرتشون الذين قطعت أمانة الجاشنكير أرزاقهم، وخربت بيوتهم، فإما الكسب الحلال، وإما الجوع والفقر المدقع - اتفق هؤلاء جميعاً على إقصاء بيبرس والكيد له، وأخذوا يقلبون الأمور للسلطان، وينتجعون مراتع الباطل، ويبتغون الفتنة، ويشيمون بروق المكائد، وساعدهم على تحقيق بغيهم صر سن السلطان، وقلة تجاربه، فبدأ قلبه يتغير على بيبرس أكبر المخلصين له، والحافظين لدولته، والمتفانين في خدمته. وما أشد الحقد إذا غرس في الصغر واخذ ينمو ويترعرع مع الكبر.
كان بيبرس وسالار كفيلي المملكة والقائمين بأمرها، وقد أعانهما على حسن التفاهم في العمل أخوه في الخدمة وزمالة في ساحات الجهاد، ومحبة من طول الصحبة، ورأت البطانة أن أول واجب عليها للوصول إلى مآربها. إفساد ما بين الكفيلين، وضرب كل منهما بصاحبه، فسولت لها نفسها أن توقع بين سفيه من اتباع أحدهما وسفيه من أتباع الآخر، حتى يجر كل صاحبه إلى المخاصمة، وهي حيلة شيطانية لا يتقنها إلا من تربى في أغطان الفتن، وقد نجحت المؤامرة في شخصي الطشلاقي على البرواني أمام باب القلعة في حضور الأمراء؛ فشكا البرواني إلى بيبرس فأستدعى الطشلاقي ليعاتبهن فأساء في الرد وأفحش في القول، فأستل بيبرس سيفه ليضربه به ولكن الأمراء تكاثروا عليه ومنعوه منه، فأمر بيبرس بنفيه إلى دمشق، وأخذ سالار يرجوه في الإبقاء على حليفه، وبيبرس يأبى ويمدد مساوئه، وأثيرت المسألة في حضرة السلطان فأراد استغلالها لإثارة الفتنة بينهما، ولكنه لم يفلح، لأن سلار التزم الصمت وكان فيه دهاء وذكاء وحسن تدبير، فعلم أن وقوع الخلف بينهما، يجعل بنهايتهما، لأن الملك بدأت تظهر فيه رغبة جامحة للاستئثار بالملك والاستبداد به، وكان ذلك بدافع من خاصته وإشارة من بطانته لحاجة في أنفسهم.
وفي سنة 707 جمع الملك بعض خاصته وعلى رأسهم بكتمر ويلبغا وأيدمر، وأمر بتدبير مؤامرة لاغتيال بيبرس وصديقه سالار، واتفق الجميع على تنفيذها، بعد إغلاق أبواب القلعة على البرجية وكلهم صنائع بيبرس، وبلغ الخبر سلار وزميله، فأمرا بأن يرد أبوابها، ويطرقها دون أن يغلق أقفالها، ويمر بالمفاتيح على السلطان كالعادة، ليظن إنها أغلقت، ففعل ذلك، ثم استدعى بيبرس بكتمر زعيم المتآمرين وأطلعه على ما بلغه فسقط في يده وتبرأ منه من المشاركة في ذلك ونست المؤامرة إلى السلطان، وحلف له أنه سيكون معه عليه، ولم يبارح منزله حتى لا يشك، وانتظر السلطان ومن معه حضور بكتمر لتنفيذ المؤامرة فلم يحضر، فبعث في إحضاره فوجده في بيت الجاشنكير فعلم أنه غدر به وأفشى سره، وتوقع المكروه من بيبرس وسلار، فأرسل بعض البطانة تستنجد بالشعب لينقذه مما وقع فيه) فلم تفتح الأسواق وخرج العامة والأجناد إلى تحت القلعة، وأرسل بيبرس بعض الأمراء ليحولوا بين الملك وبين النزول من القلعة والاتصال بالعامة. وضاق الملك ذرعاً بموقفه فأرسل إلى بيبرس) إن كان غرضكم في الملك فما أنا متطلع إليه فخذوه وابعثوني أي موضع أردتم) فرد عليه بيبرس (أن السبب هو من عند السلطان ومن المماليك الذين يحرضونه) وأخذت الرسل تغدو وتروح بين السلطان وبيبرس بمثل هذه المعاني.
(يتبع)