مجلة الرسالة/العدد 871/عود على بدء
مجلة الرسالة/العدد 871/عود على بدء
خيانة امرأة
للأستاذ كامل محمود حبيب
كتبت في العدديين 865و 866 من (الرسالة) الغراء قصة (خيانة امرأة) وهي قصة سمعتها بقلب يهتز من أثر الصدمة وعيتها بفؤاد يضطرم من أثر الفجيعة، وحفظتها في عقل يختلج من أثر الحيرة؛ ثم ظللت أياماً أنازع عنها الرأي وأدفع عنها القلم وأدع عنها الخيال؛ شفقة على صاحب القصة أن يراها مسطورة بين يديه فيرى فيها - دائماً داء قلبه وأذى روحه، فلا يتسرب إليه النسيان؛ فتكون كلماتي غذاء يتأرث به ضنا روحه، وحطباً تتوهج به لوا عج نفسه. ولكن صاحبي كان يلح في أن أهديه إلى الرأي الذي عزب عن فكره، وأن بالصواب الذي ندّ عن عقله، فأهبت بصاحبي وأحبائي من قراءة (الرسالة) أن يعينوه بحل فيه الصواب والعقل، فتدفق على فيض من رسائلهم وفيها آراء أعرض بعضها هنا، لي الأسلوب والأداء، ولأصحاب الرسائل الرأي.
كتب الأديب عبد الفتاح إسماعيل القبيبي بفرشوط بعد مقدمة طويلة من التحايا الطيبة الشكورة يقول:
. . . والحق إني قرأت قصة (خيانة امرأة) فأحسست بعقلي يختنق، وشعرت بصدري ينقبض، وشملني هم ألح علي أياماً فما استطعت أن أجد ربح الحياة الطيبة أو أحس نعيم الهدوء الجميل، فضاقت علي نفسي. واستشعرت كلماتك تساقط على كبدي شواظاً من نار يسلبني القرار والعقل، فظللت حيناً مستلب اللب مأخوذ الرأي لا أثبت على فكرة، ولا أستقر على خاطرة. فما بال صاحبك وهو قد وجد لذع المصيبة في قرار قلبه وأحس مس النكبة في أغوار نفسه، ورأي المرأة التي حباها بالهوى والحب، وخصها بالحنان والعطف، وفضلها على كثير من ذوي قرابته، وعق في سبيلها أباه وأحفظ أهله. . . رآها تثلم شرفه في عبث وضيع، وتخدش كرامته في استهتار حقير، فلا عجب إن جاءك ينثر عبرات قلبه بين قلبه يديك الرفيقتين وينفض أتراحه أمام روحك المتألقة؛ فهو غريق أعوزه الملجأ فنفر عله يتفيأ ظل عقلك، ومحترق أعجزه المهرب ففزع نحوك يستلهم الهدى من قلبك. فالتمس له عذراً. . . أو، لا. . . فهو كان يعلم أن صاحبته عاشت في دار أبيها تنعم بالحرية التي يزينها الشيطان ويزوقها الهوى، ولكنه لم ير بعقله الأعور أنها تخلبه بكلام مفوِّف جميل هو مما يزخرف الخداع والمكر، وأنها تستميله بصناعة أهل المدينة وتجذبه ببضاعة أهل الحضر؛ وهو فتى بدوي الطبع ريفي الشمائل، خلو من خداع المدينة بعيد عن لؤم الحضارة؛ فخلطها بنفسه على حين قد عنه أنها تتصنع طهارة تستر رجساً، وتموه عليه ببراءة مصنوعة تواري خسة، فارتدع في نزوة من نزوات الشباب وانحط قلبه في غمرات الطيش، ليجني - بعد حين - ثمرات نزقه مأساة جارفة تعصف بآماله وتطوي أمانيه وتهدم سعادته.
ولست أدري كيف يطمئن الرجل في دار تضم امرأة دنست عرضه وامتهنت كرامته؟ ولا كيف يرغم نفسه على أن يبذل في سبيلها درهماً واحداً من مال أصابه بالجد والتعب فيطعمها ويكسوها. . .؟
ولا كيف يرضي أن يحميها في داره من غوائل الحياة وهي رجس من عمل الشيطان، عبثت بحرمته وانتهكت شرفه؟ ولا كيف يطيق أن يراها تضطرب أمام ناظريه وهو يحمل لها في نفسه بغضاً واحتقاراً؟ فماذا إذن يمسكه من أن يقذف في وجهها بالكلمة المحرمة فيلقي بالخائنة الوضيعة إلى الشارع. . . إلى الذئب.
أما أحباؤه - أبناؤه - فسيجدون في المربية عزاء وسلوه. . والمربية الحصيفة تستطيع أن تكون أماً وخادماً.
وجاء في رسالة الأديب نيازي علي مرزوق بكلية اللغة العربية ما يأتي:
لا معدى لصاحبك - يا سيدي. . . عن أن يحل عقدة الزواج ويلقى الخائنة إلى فجاج الشارع، فإن حرمان الصغار من عطف الأمومة أيسر من أن يرى الرجل شرفه وهو يلطخ بالدنس ثم يقف حياله عاجزاً ضعيفاً لا يدفع عن نفسه ضيماً ولا يرد أذى. والنساء غيرها كثير فليتزوج من أخرى طاهرة المنبت شريفة الأصل نبيلة الأرومة فيجد فيها زوجاً تصون عرضه وتحفظ كرامته، ويجد الصغار في كنفها العطف والحنان.
وللأديب محمد محمود عبدة بالمنصورة رأي يشبه رأي الأديب نيازي.
وكتب الأديب السيد عوض الجعفري بقنا يقول:
قد تظن - يا سيدي - أن صعيدياً مثلي يقرأ قصة (خيانة امرأة) فيفقد عقله ويطير صوابه وتتأجج فيه الحيوانية الثائرة التي لا تعرف إلا الدم. . . الدم الذي يغسل الشرف الرفيع مما لوثته به امرأة حمقاء ساقطة، ولكني أترفق بصاحبك فأهديه إلى سواء السبيل في غير عنف ولا شدة. والرأي عندي أن يذرها في الدار تخدم أولاده وهي حبة قلبه ونور عينيه؛ ثم يهجرها فلا يميل إليها؛ وبجانبها فلا يهفو نحوها، ويحتقرها فلا يرعى حقها، ويراقبها في دقة خشية أن تتمادى في الغواية أو تندفع في الطيش، ثم يكتم الخبر في نفسه لا يحدث به أحداً ولا ينشره على أبيه. ولا بد أن يعلم صاحبك أنه إن طلق زوجته تناثر الخبر ولاكته ألسن في القرية فيها الحفيظة والغيظ، ونالته شماتة القريب وأصابه تهكم الغريب. وإذا بلغ أبنائه مبلغ العقل وجدوا من يعيرهم بما جنته الأم فيحسون مس الذل وعار الخطيئة، وتعمل في نفوسهم عوامل متضاربة تقتل فيهم هبة العقل، وتنزع عنهم دوافع السمو، وتخلع عنهم أسباب الترفع. ويعيش الواحد منهم عمره وفي خياله الجرم الدنيء يلاحقه فيضيق بالحياة ويضيق بالشرف. وقد تسول له نفسه أن ينتقم من مجتمع جاهل أحمق حمله عبء جناية لم تقترفها يده.
وإذا بقيت الأم في الدار لم يتناثر الحديث ولا تطايرت ريبة ولا شاع شك، فيحفظ الزوج - إذ ذاك - على نفسه عزتها؛ ويبقى على الأولاد حنان الأم، ويجنيهم مرارة اليم، ويوقيهم لذع الضياع.
ولست أنصح بأن يتزوج مرة أخرى لأنه إن فعل جمع على نفسه همين وضرب نفسه بالضرتين وقتل قي المرأتين.
وإنه ليتراءى لي أن صاحبك لن يطمئن إلى امرأة من بنات حواء بعدما عانى من خيانة الزوجة. فلا معدى له - إذن - من أن يعيش زوجاً كالعزب أو عزباً كالزوج يستعذب الوحدة في سبيل رضا أولاده، ويستمرئ النأي عن النساء خيفة أن تنتابه الظنون وتتوزعه الشكوك.
وافتتحت الآنسة (مجهولة) بطرابلس - لبنان، رسالتها بعتاب حاد فتقول فيه!
. . . وأعجب العجب أن تبحث مشكلة المرأة فتستفتي القراء وحدهم دون القارئات على حين أن لمجلة (الرسالة) قارئات من ذوات الرأي. وللمرأة في مشاكل الدار رأي لا يتخلف - أبداً - عن رأي الرجل، وللسيدة في مسائل الأسرة عقل يسمو - غالباً - على عقل الرجل. ولكن لا عتب عليكم، فأنتم - أيها الرجال - ما زلتم تنظرون إلى المرأة بعين الاحتقار ظناً منكم أنها تخلفت عن الركب فلا تستأهل أن تجاذبكم الرأي ولا أن تناقشكم الفكرة، ميراث أورثتموه - منذ زمان - فتدفق في دمائكم وعز عليكم أن تطرحوه جانباً لتواجهوا الحقيقة التي تبتدي لكل ذي عيني. ولا ريب عندي في أن المرأة العصرية هي والرجل على سواء واحد في سعة الأفق وأصالة الرأي وحصافة العقل.
ثم راحت تدافع عن الزوجة الخائنة دفاعاً حاراً عنيداً يتراءى من خلاله التعصب الجارف للجنس، فقالت: وليست القضية هي مسألة الشرف والكرامة و. . . مما نسمع من كلمات رنانة طنانة تستهوي القلب وتستميل الأذن، ولكنها قضية زوجة صحبت زوجها سبع سنوات ثم تصبح - في لمحة واحدة - طريدة تتلقفها الشوارع في غير رحمة، ويتجاذبها الذئاب في غير هوادة، وهي قضية صغار الزغب الحواصل يفتقدون - على حين فجأة - حنان الأم ونور السعادة في غير ذنب ولا جريرة.
ولا عجب أن تلقي اللوم كله على الزوجة وحدها حين خانت زوجها، لأنك رجل. أما أنا فلا أبرئ الزوج مما اقترفت زوجته فإن في كثير من الأزواج حماقات تدفع الزوجات كارهات إلى أن يرتدغن في حمأة الرذيلة.
أما قولك إن المرأة المتعلمة كالثعلب فرأي تعرى عن الحقيقة، لأن العلم دريئة تنقذ المرأة - دائماً - من حبائل الرجل، وعزة تسمو بها إلى الترفع والإباء، وحصن يحميها شر المكيدة الخادعة. وأنت تعلم أن المرأة المتعلمة صعبة المراس شديدة الحفاظ على حين أن المرأة الجاهلة سهلة المكسر لينة المجس.
والرأي عندي أن يصبر الرجل فستجبر الأيام الكسر وترأب الصدع، وعلى الزوج أن ينصح الزوجة في هدوء ويعاتبها في رفق ثم يسدل على الماضي ستاراً كثيفاً من النسيان. ولا ريب عندي في أن الزوجة ستسعى جهدها إلى مرضاة الرجل وتتوب عن الغي وتستغفر عن الزلة، ثم تبدأ حياة جديدة فيها الاستقامة والاستقرار وفيها الإخلاص والوفاء.
وكتب الأستاذ عمر عودة الخطيب رأيه في العدد 869 من (الرسالة) وهو ينتهي إلى ما انتهى إليه من قالوا بفراق الزوجين.
وقرأ صاحبي ما كتب أصحاب الرسائل، فنظر إلي نظرات ثم أطرق وقال وكأنه يحدث نفسه. . . فماذا قال؟
كامل محمود حبيب