مجلة الرسالة/العدد 872/القصص

مجلة الرسالة/العدد 872/القصص

ملاحظات: M'asal Beag Dubh بتاريخ: 20 - 03 - 1950



حماري الأسود الصغير

للكاتب الأيرلندي يادرباك اوكنير

بقلم الاستاذ محمد فتحي عبد الوهاب

حدث ذلك في كنفارا عندما تعرفت على حماري الأسود الصغير. كان ذلك اليوم يوم السوق. فرأيته واقفا بجوار حاجز لا يبالي بالعالم، ويبالي العالم به. وأعجبت به منذ اللحظة الأولى التي وقعت فيها عيناي عليه. وكنت في رغبة للحصول على حمار. فقد كنت متبرما من التجول على قدمي. ألا يكفي هذا الرفيق الصغير ليحملني وحقيبتي وحاجاتي؟ وفكرت: لعلي أستطيع الحصول عليه بثمن بخس.

ثم سألت عن صاحبه: بيد أني نقبت عنه في كافة أرجاء البلدة قبل أن أجده يتسكع أمام دار العمدة. كيف! يبيع الحمار؟، ولماذا لا يبيعه مادام أنه سيحصل على ثمنه؟ نعم ثمنه إنه لا يرغب في قرش زائد عن ثمنه. لولا هذه الأيام العجاف ما فارقه عنه مطلقا - لا لا خوف منه؟ إنه حمار صغير جميل يستطيع أن يقطع في سهولة عشرين ميلا يوميا. لو استطاع أن يطعمه الشوفان مرة واحدة في الشهر، فلن يفوقه أي جواد!

وجعلنا نتباحث في طباع الحيوان. وما أبرع مدح صاحبه! ليس هنا حمار، منذ أن حلت الحمير بأيرلندا، في مثل نشاط هذا الحمار، وعقله وبعد نظره!

وقال لي ذلك الأستاذ - في المديح (أتعرف عاداته؟ إذا أعطيته حفنة من الحبوب صباحا، فإنه يحتفظ ببعضها عندما لا تكون هناك حبوب - بحق كتب روما السماوية أنه يفعل ذلك) وهنا ضحك أحد الموجودين، فواجهه الرجل قائلا (ما الذي يضحكك أيها الأبله؟) ثم قال لي (أليس من العقل أن يحتفظ بجزء من طعامه؟ ألم يحدث لي في بعض الأحيان أن أكون في حالة عسر فأسطو على طعامه؟ لو لم يكن هذا الحيوان لمت جوعا أنا وأولادي الإثنا عشر)

وسألت في حذر: هل في استطاعة هذا الحمار العاقل أن يميز بين حنطة صاحبه وحنطة جيرانه. فأجاب الرجل (إنه أمين أمانة الكاهن. لو كانت كل الحيوانات مثله، لما كانت هناك حاجة إلى تشييد حواجز أو حفرات أو أسوار. لم تكن هناك حاجة إلى مثل ذلك مطلقا.)

وتكاثر حولنا جمع غفير، وكان من بينهم أولاد الرجل، ولا أدري أكانوا ألاثنى عشر جميعا موجودين. بيد أن من كان موجودا منهم لا تجد له مثيلا في أية بقعة من بقاع أيرلندا. كانوا مهللي الثياب قذرين كل واحد منهم يفوق أخاه في سوء السلوك. وكانت زوجته واقفة هناك. عارية القدم، بلا قبعة.

وقالت له (أتذكر يابيتر اليوم الذي سبح فيه في النهر وأنقذ ميكلين عندما جرفه التيار؟)

فأجاب (وكيف لا أذكره؟ نعم ياشابي، أتذكرين اليوم الذي دفع لي فيه مبلغ خمسة جنيهات؟) فالتفتت إلي قائلة (خمسة جنيهات. نعم لقد وضعوا في يده خمسة جنيهات ذهبية) فقاطعها الرجل قائلا (أقسم لك هذا ما حدث! لقد كادت الصفقة تتم، وكانت النقود في يدي -).

فقاطعته زوجته بدورها (ولكنه عندما شاهد الحمار المسكين يذرف الدمع لأنه سيفترق عنه، لم يطاوعه قلبه على بيعه، والابتعاد عنه) فصاح زوجها (صه! تكلمي في هدوء. فلا توجد كلمة تقال إلا وفهمها. ألا ترى يا سيدي أذنيه الواقفتين؟)

وبدأت الشراء بجنيه واحد ثمنا لهذا الحيوان البديع. فعوى الرجل قائلا (جنيه!) وصرخت امرأته (جنيه!) وهدر الأولاد في صوت واحد (جنيه!).

كم كانت دهشتهم! وتجمعوا حولي يتفحصونني. وأمسك صبي بسترتي وآخر بسروالي امسكني أصغرهم من عنقي. ووضعت فتاة يدها في جيب سترتي. كانت المخلوقة بطبيعة الحال تحاول أن تبحث إذا كنت حقا أمتلك جنيها - بيد أنها حصلت على ضربة على أذنها بدلا من الجنيه - ولم تكن الضربة من والدها.

كنت قد أعجبت بالحمار إعجابا شديدا. فقد كان وفق ما أشتهي. إنه سيحملني في طريقي. ثم أستطيع بيعه في أي وقت إذا ما شعرت بالضجر منه.

وقلت مرة أخرى (جنيه).

فأجاب الرجل (جنيهان).

وأعولت المرأة وهي تقول (أواه! أواه! حماري الجميل يباع بجنيهين) وانفجرت تنشج في بكاء وعويل.

وألححت قائلا (جنيه).

فقال الرجل (إذن جنيه - وست بنسات لكل طفل).

وتمت الصفقة أخيرا. وناولته الجنيه. وأعطيت ست بنسات لكل طفل من أطفاله المصطفين حولي. وجعلت المرأة تستدعيهم سيتين، ندين، تايمين، وغيرهم ممن لا أذكرهم.

ولم يبق واحد من المتسولين لم يستحضر أولاده. كانوا جميعا يهددون ويصرخون. وكم من الضوضاء أثاروا! اشتكى أحدهم أنه لم يستلم البنسات الستة مع أن النقود كانت في هذه الآونة تحت لسانه. وقال آخر -

ولكن لم يكن أحد يعي ما الذي يقوله الآخر، أو ما يحاول أن يقوله. فقد كان ضجيجهم يطغي على كل شيء.

وندمت لأني لم أدفع للرجل جنيهين في بادئ الأمر، وبذلك كنت أجتنب هؤلاء الحاضرين الذين كونوا عائلة لا نهاية لها.

وأخيرا تركت القرية وحالي حال. كنت ممتطيا الحمار، وقد سار على يمينه صاحبه قابضا على مقوده، ومشت زوجته على يساره، والأولاد يصخبون حولنا.

وتبعنا بعض صبية القرية، كل منهم يزودني بنصائحه. أن الحمار لا يقارنه أسرع جياد السبق، ولذلك يجب أن أكون متيقضا وإلا أفلت مني واختفى إلى الأبد. يجب أن أعطية كذا وكذا من أنواع الطعام. وهكذا كان يخيل للرائي كأنما لم يسبق له أن رأى ما يضحك عليه، إلى أن شاهدني ممتطيا حماري الأسود الصغير.

ولكن لماذا أهتم؟ ألم أحصل على الحمار - الحيوان الذي كنت أود الحصول عليه منذأيام عديدة؟ كيف أستطيع أن أصف مشهد افتراقي والحمار عن هذه الشرذمة. كان كل واحد منهم يشد على يدي تسع مرات. وأخذوا مني عهدا أن أكون لطيفا معه وشفيقا عليه. وان أهبه قبضة من القمح كلما استطعت وأعطيه حفنة من الشعير كل ليلة. وأقسمت لهم ألا أستعمل العصا معه. وعندما افترقنا أرتفع عويلهم بدأه الأب وساعدته الأم وشاركها الأولاد حتى أصبحت الغابة حولي تعج ببكائهم. . . وأخيرا أصبحت وحيدا - وحيدا مع حماري الأسود الصغير؟

ثم انطلق يعدو بي إلى أن خلفنا الغابة. وعندئذ شعرت بأني قد قمت بصفقة طيبة. أين يستطيع المرء أن يجد حمارا في مثل نشاط حماري الأسود الصغير؟

بيد أنه عندما ابتعدنا عن الغابة، حدثت قصة أخرى. إذ لم يقبل الحمار التحرك خطوة واحدة، ذلك الحمار الفريد! وظننت أنه قد يلين إذا ما دللته بعبارات متملقة، فلم يأبه بي. وفكرت أن أحركه بعصا فلم يتحرك، بل وظل واقفا هناك وسط الطريق.

ومر علينا الناس الذين كانوا في السوق، أقبلوا في حال من البهجة. فنصحوني أن أفعل كذا، وأصنع كذا. بيد أنه عندما نصحني مازح منهم أن أضع الحمار على ظهري، فرغ صبري، وقذفت ذلك الوقح بالحجارة.

وأخيرا، اضطررت أن أترجل وأسحب الحمار في الطريق رغما عن أنفه. وما أكثر الشتائم التي أمطرتها على ذلك اللص الذي باعني هذا الوحش الثمين!

ولكن سرعان ما لاحظت ظاهرة غريبة. رأيت الحمار في حالة عصبية، وبدا لي أنه يجفل من تلاعب الريح بالأفنان. فعندما مر تحت أذرع الشجر النامي على جانبي الطريق، تلاشى كسده، وأصبح من المتعذر كبح زمامه، وقفت أذناه في بادئ الأمر، ثم هز نفسه كما يفعل الكلب عند ابتعاده عن الماء، ثم انطلق كأنه الزوبعة

يا لحظي، لقد كشفت سره.

وقيدته على باب كوخ ثم ذهبت إلى الغابة، وانتزعت كمية من الحشائش وأوراق الشجر، وكونت منها حزمة، ثم وضعتها على مقربة من عنقه، فوق أذنيه.

يا للحيوان المسكين! إنك لن ترى له مثيلا في سرعته لما عدا. فقد كان يظن، بسبب ما يسمعه من موسيقى منبعثة فوق أذنيه، أنه لا يزال في الغابة. وعندما وصلنا إلى باليفهان، قامت القرى لتشاهد الأعجوبة - أنا وحماري الصغير الأسود المتحلي بتاج من أوراق الشجر.

إني لا أزال أملك ذلك الحمار الأسود الصغير، وسأظل أحتفظ به مدى الحياة. لكم رحلنا أميالا طويلة في الطريق الموحشة، وفي مختلف الأجواء. وكان يهتدي إلى طريقه في مهارة، مع أن سيده للأسف قد فشل في ذلك. وإني أعتقد أن المتشرد الصغير كان يعرف أن سيده ليست له المقدرة على الاهتداء. ولكنك لن تشاهد مثل كبريائه عندما ابتعت له مركبة خضراء جميلة وعاد المخلوق المسكين أصغر سنا مما كان، منذ أن قيدته بالمركبة.

محمد فتحي عبد الوهاب