مجلة الرسالة/العدد 873/فيرون
مجلة الرسالة/العدد 873/فيدون
زعيم الشكاك اليونان
للأستاذ محمد محمود زيتون
ولد فيرون بن بلستارك الفقير حوالي سنة 365 ق. م. في (إبليس) بلد السفسطائي، (فيدون تلميذ سقراط. اشتغل نقاشاً منذ نعومة أظفاره، وانصرف عن النقش إلى الفلسفة؛ غير أنه نشأ ومات فقيراً، وعمره تسعين عاماً.
وقد ذهبت الآراء في (فيرون) مذاهب شتى، محور ارتكازها جميعاً أنه صاحب مذهب الشك الأخلاقي الذي نسب إليه وعرف به وهو (الفيرونية الذي امتد في المكان والزمان ودار مع الفلك حتى انقسم شطرين: الفيرونية القديمة، والفيرونية الحديثة. ومجرد التسمية يقفنا على أن فيرون هو الجد الأول للشك وزعيم الشكاك اليونان.
عرف (فيرون) بالتقوى والورع، وعاش مع أخته وكانت أعقل منه. كم كانت تشفق عليه، وترثي لسلوكه العجيب، وتناقضه في الحياة: فقلما كان يوجد في داره، وقلما كان يرى بين صحب أو رفاق، وكثيراً ما كان يحب الخلوة بنفسه وارتياد الحدائق النائية، والأماكن التي لا يؤمها الناس. وكان من عادته أن يترحل دون أن يعلم به أحد، فيسير كيفما اتفق إلى حيثما اتفق، غير عابئ بشيء ولا مكترث لشيء. حكى عنه (ديوجين لائرس) أنه كان مرة في سفينة تتقاذفها الأمواج، وتتلاعب بها العواصف، حتى أوشك الركاب على الغرق، فهاجوا وماجوا، واضطرب حبلهم، وتوقعوا الموت في أحضان البحر، وشحبت وجوههم. أما فيرون فلم يبال ولم يهتم، بل استمر في برود تام وهدوء لا حد له، ثم وقف يقول (ذلك هو الهدوء الذي يجب أن يمنحه العقل والفلسفة لأولئك الذين لا يريدون أن يستسلموا للخطوب).
وكان صديقه (انكسارك) في صحبته يوماً فسقط في مستنقع، فلم يعبأ به (فيرون). ولم يمد له يد المساعدة بل تركه ومضى في سبيله لا يلوي على شيء، وبقدر ما لامه الناس وأوسعوه ذماً وتقريعاً، هنأه انكسارك على ثبات جنانه، وعصمته من التألم.
ويقول عنه (شيشرون) إنه لم يفرق بين الصحة التامة والمرض الأليم. وكان سواء عنده أن يعيش وأن يموت، وكثيراً ما كان يجري على لسانه قول (هوميروس) (ما أشبه الناس بأوراق الشجر) وقوله الآخر (أما أنت فستموت بدورك، فلماذا تتحسر؟ مات قبلك (باتروكل) وهو خير منك)، واتخذ شعاره (لا شيء أفضل من شيء).
كان (فيرون) محباً للرحلات، اصطحبه (انكسارك) في حملة الإسكندر إلى الشرق، فعرف أخلاق الهنود وطقوسهم وعاداتهم، فتركوا في نفسه أبعد الأثر. ويقال إنه عرف الكثير من العادات والأخلاق الشرقية عند السوريين والميديين والمصريين والفرس.
وبعد موت (الإسكندر) عاد إلى وطنه وأسس مدرسته حوالي سنة 321 ق. م. وقد أكبره مواطنوه فلقبوه (الكاهن الأكبر) وأقاموا له تمثالاً بعد موته، ثم إنه عاصر (أرسطو)، وعرف كتبه وتناقش مع ابن أخيه (كالستين)، وتتلمذ لصغار السقراطيين والميغاريين خاصة، وتذوق مذهب (ديمقريطس) عن طريقهم وتعلم على يديهم الجدل، ولكنه بغض إليه، وعرف السفسطائيين وعاصرهم وصاحبهم وواطنهم، ووقف على أسرار الشرق وروحانيته. وبذلك استوعب التراث الفلسفي من منابته الأولى.
والمعروف أن (فيرون) لم يكتب شيئاً عن مذهبه، ولم يلق محاضرات، وكل ما كتبه قطعة فنية للحث على الغزو منحه الإسكندر عليها عشرة آلاف قطعة من الذهب. وكل ما انحدر إلينا عنه نذر يسير في مقطوعات احتفظ بها معاصروه وتلاميذه وعلى رأسهم (تيمون الوفي.
وقد لخص (أرسطقليس مذهب فيرون تلخيصاً وافياً فقال: (فيرون الإبلى لم يترك مكتوباً، ولكن تلميذه تيمون يقول: إن من أراد أن يكون سعيداً فليعتبر ثلاثا: ما الأشياء في ذاتها؟ وما موقفنا حيالها؟ وماذا نجني من وراء ذلك؟ الأشياء كلها بلا استثناء غير حقيقية على الإطلاق، وليست أحكامنا ولا مشاعرنا بقادرة على أن تمثل لنا الحق أو الباطل. لذا وجب ألا نركن إلى الحواس ولا العقل. وإنما يجب أن نظل بدون رأي لا نجنح إلى ناحية دون أخرى. بهذا لا يتطرق إلينا الألم، فإذا عرض لنا شيء وجب ألا نثبته أو ننفيه، وألا نثبته أو ننفيه معاً، وعلى هذا الوجه نصل إلى تعليق الحكم 1 ينتج تعليق اليقين ' ثم ننتهي إلى الطمأنينة التامة '
ولكي نزيد ذلك بياناً نتساءل مع تيمون ونجيب مع فيرون فنقول:
أولاً: ما الأشياء في ذاتها؟ يقر فيرون بأن الوقت نهار، وأنه حي يرزق، وأنه يرى بعيني رأسه، وأن ذلك الشيء يلوح له أبيض، وأن العسل يبدو له حلواً، وأن النار تحرق كما يرى، ولكن هل الشيء في ذاته أبيض، وهل العسل حقاً حلو، وهل من طبيعة النار أن تحرق؟؟
يجيب فيرون: لا أدري.
فهو لا ينكر المرئيات والمسموعات وسائر المحسوسات، ولكن ما حقائقها؟ لا يدري. فالحواس هي كل ما يملك فيرون من هذه الدنيا، وهو يعتز بها ويؤيدها بقوة، وظواهر الأشياء وأعراضها هي كل ما يدرك من معرفة. ولكن هل هذه الظواهر هي هي بعينها حقائق الأشياء؟ كلا، فما الحقائق إذن؟ لا يدري. ولهذا يقول (تيمون) (إن المظهر ملك حيثما وجد) فإذا كان ذلك هو أمر الأشياء، فلنسأل مع تيمون هذا السؤال الثاني:
ثانياً: ما موقفنا حيال الأشياء؟
كل الناس أو على الأقل (فيرون) يستطيع أن يثبت للشيء صفة، وأن ينفي عنه نفس الصفة بمقدار واحد، لأن النفي والإثبات في كفتين متعادلتين لا مرجح لأحدهما دون الآخر: الشهد حلو، والشهد ليس بحلو. هذان الحكمان لا يثبتان في العقل، لأن أحدهما يمحو الآخر، فلا يعود لهما وجود، كالنار تختفي في الخشب الذي تلتهمه. فلا يمكن القول بأن هذا الشيء شريف أو سخيف، وأنه صحيح أو غير صحيح، وأن هذا الشخص هو تيمون أو غير تيمون. لماذا؟ لأن الأضداد متعادلة في تقلبها على الأشياء، ليس فقط في المحسوسات بل في المعنويات أيضاً من فضيلة ورذيلة وعدل وظلم وغير ذلك. ولا يمكن القول بأن الشهد أحلى من العنب، لأن التفضيل يتضمن الإثبات، ولا يمكن القول بأن الشهد ليس أحلى من العنب، لأن ذلك يتضمن نفي الحكم عن شيء وإثباته لآخر. والنفي والإثبات لا وجود لهما لأنهما متعارضان، وبالتالي يفني أحدهما الآخر.
فالأحكام المضافة إلى الأشياء والمعاني لا وجود لها في الواقع، وكذلك الأحكام المسلوبة منها، سواء كانت تقريراً أو تقديراً، لأن الناس في عرف فيرون (إنما يخضعون في أحكامهم للقانون والعرف. فيجب أن نلتزم الحياد التام من هذه الظواهر والأعراض، والخير كل الخير في تعليق الحكم). هذا هو الموقف التوقفي الذي يريده لنا فيرون حيال الأشياء، فماذا نفيد من ذلك؟ هذا هو السؤال الثالث والأخير فلنسأل: ثالثاً: ماذا نجني من تعليق الحكم؟
لا يشغل الناس في حياتهم إلا التردد بين الشيء وضده، والحيرة بين الخير والشر. وهم كثيراً ما يجلبون الهم والغم لأنفسهم بأنفسهم فيتألمون أنهم محرومون مما يعتقدون أنه الخير الذي إن وجدوه أشفقوا من أن يفقدوه، ثم هم يتألمون لأنهم مرتكبون لما يعتقدوا أنه الشر الذي إن أصابهم تحسروا على أن قد ارتكبوه، فلا هم بالخير فائزون، ولا هم من الشر سالمون. فالرغبة حرمان، والحرمان ألم، والألم إتيان، والإتيان رغبة. فاجتنب الاعتقاد بالخير والشر تختفي كل الوساوس والهواجس، فإن الشك هو الخير الحق، ومتى استراح الناس من كابوس الخير والشر، فليضربوا بالحياة كيفما شاءت لهم الحياة، لا يفرحون ولا يحزنون، يأكلون حين يجوعون، ويشربون حين يظمئون، لا يطمحون ولا يتحسرون. راحتهم في أنهم لا يبالون، لأنه لا شيء في الحياة ذو بال.
هذا هو فيرون يعلق الحكم وينفي الأضرار ويتجاهل الخير والشر فيشرع لا يبالي بشيء ولا يهتم بشيء، لأن شيئاً بالغاً ما بلغ لم يعد يطرف عينه، أو يهز عطفيه ولو سقط انكسارك ولو أوشك هو على الغرق.
الشرور واقعة، ولكن لا نستطيع ولا يستطيع أحد أن يبيدها، وما على المرء إلا أن يخفف من وقعها عليه، وأن يهون على نفسه منها. وليعيش كسائر الطغمة الدهماء، خاضعاً لقوانين الدولة وعوائدها ودينها، لا يثور عليها، فقد لاقى سقراط جزاء ثورته، فامتلأت النفوس خوفاً ورعباً، وتجمدت الإرادة خنوعاً ومسكنة، حتى قال تيمون (أما نحن فلا نخرج عن العرف). وبهذا التوقف الاعتقادي نصل إلى الطمأنينة التامة والسعادة المطلقة حيث لا شر ولا ألم. وهل السعادة إلا غياب الألم؟ وهل ينشد الإنسان إلا السعادة؟ وهل من سبيل إليها إلا في تعليق الحكم وعدم المبالاة؟
(فالأشياء مظاهر لا ندري حقائقها، فلنقف منها على الحياد غير مبالين بشيء فنستريح ونطمئن ونسعد).
وإذا كان فيرون يلتمس السعادة في الشك، فإنه ينخرط في سلك المفكرين بهذه الطرافة الغائية التي أفسحت له مكاناً بينهم؛ ذلك بأن الناس إنما يختلفون في وسائلهم إلى غاياتهم أكثر من اختلافهم في غاياتهم. ولشد ما يكون الاختلاف إذا اتحدت الغايات. وإذا كانت غاية الغايات عند الجميع هي السعادة، فقد توسل لها سقراط بالعلم، وأفلاطون بزكاة النفس، وأرسطو بالحكمة، وأبيقور باللذة، وديوجين بالفوضى، أما فيرون فوسيلته تعليق الحكم أو اللاأدرية. ولهذا يقول (وادنجتون في كتابه عن (فيرون والفيرونية):
(إن أساس مذهب فيرون أنه اتخذ من الشك آلة للحكمة والاعتدال والعزلة والسعادة) أي أن فيرون اتخذ من الشك آلة للشك.
يقول الجرجاني (الشك هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك) وذلك هو اللاأدرية عند فيرون.
ويستطرد الجرجاني يقول: (وقيل الشك ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما) وعند أبي البقاء وقيل الشك اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما، وذلك قد يكون لوجود أمارتين متساويتين عنده بالنقيضين أو لعدم الأمارة فيهما) وذلك هو تعليق الحكم عند فيرون.
ويقول الجويني: (الشك ما استوى فيه اعتقادان، أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما إلى درجة الظهور الذي يبني عليه العاقل الأمور المعتبرة) وذلك هو الشك الاعتقادي عند فيرون.
ويقول التهاوني (الظن عند الفقهاء: التردد بين أمرين استويا واستدل على ذلك بذكر هذا المعنى في (الحواشي العضدية) وفي (السلم)، وعلى ذلك فالشك مرادف للظن. وجاء في (كليات أبي البقاء) (الظن يكون معناه يقيناً وشكاً، فهو من الأضداد كالرجاء يكون خوفاً وأمناً، وفي الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، بمعنى اليقين والاعتقاد).
ومادام الشك مرادفاً للظن، والظن يقين وشك، فالشك يكون معناه اليقين، واليقين عند أبي هلال العسكري (هو سكون النفس بما علم) وذلك هو الطمأنينة التامة غير فيرون.
ومن هذا نرى أن مذهب فيرون ليس من السفسطائية في شيء، وبذلك يكون ابن حزم مخطئاً إذ اعتبر اللاأدرية مذهباً سفسطائياً، واللاأدرية ليست مع ذلك إلا جزءاً من (الفيرونية) الذي يتلخص في ثلاث وثلاث:
ما الأشياء في ذاتها؟. . . لا ندري
فما موقفنا حيالها؟. . . تعليق الحكم فماذا نجني من ذلك؟. . . الطمأنينة
على أن تعليق الحكم وعدم المبالاة ليسا من أساليب الحياة في قليل ولا كثير. إذ التقدم ظاهرة الحياة، وكل شيء في الوجود يسعى إلى كماله ويتوق إليه، ويشقى به، أما التوقف فنكوص على الأعقاب، ونحن في حركة دائمة ما دمنا نفكر حتى لقد قال (ديكارت) (النفس تفكر دائماً ' والسكون في نظر (هرقليطس) هو الموت والعدم، ونحن لابد لنا من أن نختار يميناً أو شمالاً ? وصدق السيد المسيح عليه السلام: (من لم يكن معي كان علي).
(للكلام بقية)
محمد محمود زيتون